أخبار رئيسيةمقالات

هل انتهى عصـــر نتنياهو؟

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

لا يكاد يكون زعيم في العالم كتبت عنه كتب وأبحاث ودراسات، وهو لا يزال على قيد الحياة، كما كُتب عن بنيامين نتنياهو الذي جاء إلى رئاسة الوزراء في ظروف لا يزال يكتنفها الغموض السياسي والقانوني. فقد تولى الحكم بعد فشل حزب العمل في الفوز في أعقاب مقتل يتسحاق رابين، عام 1995.

قاد نتنياهو في تلكم الحقبة التاريخية التي لا تزال تداعياتها قائمة إلى هذه اللحظة، حملة شديدة ضد رابين واتفاقية أوسلو، ووصل الموار السياسي في تلكم اللحظات التاريخية إلى إقدام اليمين القومي المتشدد على قتل رئيس الوزراء لوقف تقدم اتفاقية أوسلو التي هي في جوهرها محل خلاف فلسطيني داخلي أفضى إلى شرخ فلسطيني فلسطيني يبدو أن لا دواء له حتى هذه اللحظات. ووصل إلى سدة القرار السياسي الإسرائيلي من قادوا تلكم المظاهرات ضد رابين واليسار وحزب العمل، ونجحوا عبر أدوات كثيرة ليس أقلها الإعلام، في تهديم اتفاقية أوسلو وتدمير اليسار الإسرائيلي وحزب العمل الذي يكاد يختفي عن الخارطة السياسية.

نتنياهو في مذكراته التي صدرت في أواخر عام 2022 خصص فصلًا كاملًا لتبرير موقفه من تلكم الحقبة التاريخية الإسرائيلية، أي أوسلو ومقتل رابين (انظر كتاب بنيامين نتنياهو، قصة حياتي، ص201-222). وفي تلكم الصفحات كشف النقاب عن سر سيطرته على حزب الليكود وتعلق الليكوديين به إذ يقول: “علاقتي المباشرة مع مصوتي الليكود استحالت إلى القاعدة الأساس لقوتي السياسية، منذ ذلك الحين، لو أن مصيري السياسي ارتبط بالقيادة السياسية، ثمة شكٍ كبير أن أكون رئيسًا للوزراء أو أن أستمر زمنًا طويلًا في منصبي كرئيس للوزراء، هذه هي الطريق عادةً وهذا ما يحدث في الأحزاب. هذا لا يحدث في الليكود، ذلكم أنّ الذين تسجلوا وتنظَّموا للحزب ومثلوا مئات الآلاف من خلفهم، هم الذين قرروا من يقودهم … ص205”.

نتنياهو الذي اعتبرته الأغلبية الإسرائيلية ملكها المنتظر والذي تربى على النهجين الأمريكي الليبرالي في سياقه الجمهوري المقارب للترامبية، وعلى النهج الجابوتنسكي الذي طوره والده المؤرخ المتخصص في تاريخ يهود الأندلس وأكثر المؤرخين اليهود حقدًا على الإسلام والعرب والمسلمين. ونتنياهو ببرجماتيته الأمريكية (المنهج الذرائعي) استبطن الموقف من العرب والإسلام والمسلمين والفلسطينيين وأحاله في حياته إلى ثلاثية سياسية فكرية تتصدر مواجهة الإرهاب مشيعًا أن الإسلام إرهاب وبالتالي العرب والفلسطينيون إرهابيون كذلك، ومن ثم فمحاربتهم شرعية وأخلاقية ويجب أن تكون عملية (انظر كتابه، مكان تحت الشمس، وانظر كلمته عام 2015 في مركز تصبان والصادرة عن مكتب رئيس الحكومة في 6\2\2015). وقد كان نتنياهو وعائلته ربان سفينة الحرب على الإرهاب مبكًرا، ففي الوقت ذاته رعى نتنياهو ووالده اليهود المتطرفين في مواقفهم الدينية الجامعة بين الموقف الديني المسياني والقومي اللاهوتي، حارب نتنياهو بشدة الإسلام عبر بوابة الإرهاب والجماعات الإسلامية المتشددة خاصة بعد ظهور تنظيم الدولة وتمدده السريع مستغلًا هذه الظاهرة لصالح تمدد بلاده أمنيًا واستراتيجيًا في المنطقة معميًا عن حقيقة الداعشية اليهودية التي تتقلد راهنًا مقاليد الحكم معه بشراكة تامة وهذه الرعاية، أي رعايته الجماعات اليهودية المتطرفة، تخلقت في ثلاث ثنائيات. الثنائية السياسية الفكرية وتمظهرت في مراكز أبحاث ومؤسسات علمية وأكاديمية ليس آخرها جامعة مستوطنة أرئيل ومركز كاهيلت، وثنائية الإعلام والسياسة وتجلت راهنًا في القناة 14 والقناة 7 وتمويلها من الحكومة، وثنائية الدين والقومية وتجلت في تحويل مجموعة كهانا ومجموعات متطرفة عاشت تشاغب على هامش الفعل السياسي اليميني، ومن مجموعة خارجة عن القانون إلى مجموعة مُتسيدة وتتولى وزارات حساسة كوزارة الأمن الداخلي التي أحالها بن غفير إلى وزارة الأمن القومي كمجمعات “شباب التلال”، و “شوفو بنيم”، و “لاهافيم”.

البُعد القانوني ومساعي التغيير فيه مطلب للصهيونية التصحيحية منذ تسعينيات القرن الفائت. وفي هذه الحكومة وجد نتنياهو أن الفرصة سانحة له لتحقيق تغيير جذري في السياق القانوني الدستوري الذي يحسم السيادة القانونية في القضايا الكبرى ذات الطابعين السياسي والدستوري، علمًا أن إسرائيل ليس فيها دستور ولا بيت دستوري أي برلمان ثان كبريطانيا التي جعلت مجلس اللوردات مجلسًا موازيًا وكابحًا وضابطًا للتغول القانوني، وذلك لصالح المشرع لا القضاء.

 

مفاجآت ليست بالحسبان

ما لم يتوقعه نتنياهو الرفض الكبير والواسع للتغييرات التي يريد وحزبه والائتلاف إحداثها في المبنى القانوني والقضائي على حدٍ سواء متجاوزًا أن السياسة في إسرائيل منذ قامت وإلى هذه اللحظات، قامت على ثلاثة أسس تُشكل القاعدة الأخلاقية والعُرفية السياسية المسكوت عنها والمتفق عليها، إسرائيل أولًا، الشعب اليهودي أولًا، الأمن أولًا.

هذه الثلاثية يعمل نتنياهو على تغييرها لصالح تعزيز الأبعاد المُقابلة التي سعى طيلة حياته لتحقيقها ووجد أن الفرصة قد حانت لتحقيقها برسم فوز اليمين الكبير في الدورة الأخيرة للانتخابات. هذه الثلاثية ارتبطت بالبعدين القومي والمسياني، ودفعت نتنياهو كشخص بات يظن أنه في مقام المُكلمين وأنبياء إسرائيل، خاصة وأن عصره شهد ولا يزال نموًا وتقدمًا لبلاده على كافة الصُعد بشكل غير مسبوق، من بعضه على سبيل المثال لا الحصر، هرولة العرب للسلام والاستسلام، وبإعلانها أي الأنظمة غير الرسمية أن إسرائيل مملكة حدودها فعلًا من النيل الى الفُرات ضاربين بعرض الحائط القضية الفلسطينية وقضية المسجد الأقصى المبارك.

هذه البرنويا (الذُهان الكبريائي) أثرت على مزاج الرجل وأخلاقه ودفعه كبرياؤه للاعتقاد أنه صاحب الفضل الأول، بل والأوحد في تقدم إسرائيل إلى مصاف الدول العالمية المتقدمة علميًا وعسكريًا وتقنيًا في العالم الرقمي، وتوهم أن كل من يعارضه يعاديه ليعيش راهنًا عقدة المؤامرة عليه وعلى أسرته، وقد غذى الإعلام اليميني من مثل القناة 14 الموالية له شخصيًا هذا التوجه.

يؤمن نتنياهو كما يروي عنه عديد المقربين، أنه ظاهرة فريدة في تاريخ الشعب اليهودي فهو يتحدث عن نفسه أنه قارئ نهمٌ، وأنه متحدث لبق، وأنه متقن للإنجليزية باللهجة الأمريكية، وأنه الأكثر تأثيرًا في الجاليات اليهودية في العالم والأكثر تأثيًرا على يهود الولايات المتحدة، والأكثر تواصلًا للعلاقات مع قيادات عالمية، وأنه والثلاثي بوتين ومودي ومركيل، يمثلون ظاهرة كونية فريدة أي عالم ما بعد الحرب الباردة، وأنه جزء من بناء وهيكلة النظام العالمي الجديد، عصر الكوكبة والأمركة، بعد حصار العراق عام 1991. هذا كله جعل نتنياهو يعتقد أن تمرير القوانين المتعلقة بالتغيير القضائي والحكم والحوكمة سيكون سهلًا جدًا وأن العقبات التي ستواجهه سيتمكن من تجاوزها بتكتيكاته السياسية المعهودة، خاصةً وأنه ظنّ أنّ عصر العلمانية الإسرائيلية واليسار الإسرائيلي قد انتهى بعد تهاوي حزبي العمل وميرتس وتعاظم دور التيار المحافظ الديني والديني المُحافظ وتغلغلهم في حزب الليكود.

المفاجأة الثانية التي أقلقت نتنياهو وجعلته يدخل في دوامة تجلت مؤخرًا في مرضه الذي لا يعرف عنه أحد شيئًا وأثار ردود فعل واسعة بين أرباب الأمن والسياسة الاستراتيجية، والمفاجأة الثالثة هو تراجعه المُستمر داخل النواة الصلبة لحزب الليكود تلكم التي اعتمدها دائمًا للتقدم داخل الحزب وسحق كل من يتجرأ على معارضته والذي يعد أكثر بقليل من 120 ألف عضو هم الآلة المحركة للحزب قطريًا، وهذا التراجع كما تشير الأنباء المسربة تجاوز الستين بالمئة وذلك احتجاجًا على قراره الاستمرار في التغييرات القانونية والقضائية والتي ستمس ثلثي المواطنين اليهود ممن خدموا الدولة.

 

نتنياهو واقتراب لحظات الخلاص

يتعرض نتنياهو منذ سنوات للمحاكمات بالفساد، وأخذت هذه المحاكم منحى سياسيًا بانت عوراته كلما استمرت هذه المحاكم وشكلت بشكل غير متوقع أحد أدوات تعزيز سيطرته على الحزب ومفاصله من جهة، وأحد أدوات تعميق الشرخ السياسي داخل المجتمع الإسرائيلي من جهة أخرى، بل وقاربت أبعادًا لطالما سعت السياسات العليا لتجنبها من مثل المواجهة المباشرة بين العلمانية الإسرائيلية التي هي في جوهرها العملياتي علمانية جزئية والدينية اليهودية بتموجاتها المختلفة الواقعة بين حدي المحافظة والتشدد، بل يرى كاتب هذه السطور أن هذه المحاكمات لعبت دورًا في فوز الليكود الأخير إلى جانب التيار اليميني الديني وعززت من مكانته الشخصية بين الناخبين اليمينيين عمومًا.

ثمة مؤشرات أن العديد من قيادات الليكود باتت تتهيأ للحظة ما بعد نتنياهو وذلك للأسباب التالية: أولًا، حالته الصحية والتي لمّا يُكشف عن حقيقتها، علمًا أنه من الناحية القانونية تتطلب حياته الشخصية ذات الصلة بالمجتمع مثل الصحة وضوحًا وشفافية أمام الدولة والمجتمع برسم أنَّ أي خلل صحي قد يؤثر في اتخاذه القرار الصحيح وهو الذي يتولى أعلى مسؤولية في الدولة، وعدم إفصاحه عن حالته الصحية مباشرة وعدم التزامه بما طلبه منه الأطباء كأن يستريح في بيته فترة زمنية محددة، أقلق بعضًا من كبار الأمنيين السابقين واعتبروا الأمر ظاهرة مقلقة على الواقع الأمني للبلاد، وثانيًا، بيان خضوعه لإملاءات اليمين الديني والصهيوني علمًا أنه مقتنع ومؤمن بهذه السياسات التي هي أقرب على عقله السياسي الشعبوي القومي من اليميني التقليدي المحافظ الذي ميزَّ قيادات الليكود التاريخية كبيغن مثلًا، وأخيرًا الحديث عن تراجع شعبيته داخل  أروقة حزب الليكود خاصة أولئك الذين اشتغلوا على تعزيز وجوده ورئاسته الدائمة تقريبًا للحزب. بيد أن هذه المبررات لا ترقى لأن تكون سببًا مباشرًا لاقتراب أجله السياسي، وتشريح للقيادات السياسية التي يمكن أن ترث نتنياهو يؤكد أن أي منها لا يرقى إلى مكانه ومقامه السياسي والأيديولوجي والفكري ولا يتمتع بكريزما سياسية مثله، ومن ثم فترك نتنياهو للحزب رغبًا ورهبًا سيؤدي إلى انتهاء حقبة سيطرة الليكود على مقاليد الحكم وسينتهي دوره كحزب أكبر وأقوى في البلاد، ويبدو أن الاستمرار في الخلاف على المسألة القضائية سيكون سببًا مباشرًا في انتهاء عصر الليكود بمعنى انتهاء عصر نتنياهو باعتبار أن سنّ هذه التعديلات سيؤثر مباشرة على العديد من القضايا الاستراتيجية إسرائيليًا من مثل الأمن وحماية العسكر والاقتصاد والموثوقية العالمية به والصراع الداخلي على الهوية والدين والعلمانية وما بينهما من جدل وعلاقة سواء تعلق الأمر بالسياسة والسياسات أو تعلق بجدل العلاقة الاجتماعية داخل المجتمعات الإسرائيلية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى