أخبار رئيسيةمقالاتومضات

فقــدان التـــوازن في المنظومة الإسرائيلية

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

مفتاح دلالي لهذه المقالة..

الفقد في معناه اللغوي، الضياع أو/والخسارة أو/والاختفاء أو الموت. وفي معناه الدلالي، الغياب القسري المفضي إلى الفناء بسبب صدمة عنيفة طالت الشيء المفقود بفعل مُتعمدٍ صادم للحاضر المُتعاطى معه.

التوازن: حالة من الانسجام والتوافق القائم بين مختلف المنظومات، بحيث يكون التفاضل بين المصالح فيما بينها وبين المفاسد فيما بينها وبين المصالح والمفاسد المتعارضة والمتزاحمة بسبب حركة المنظومات وتداخلاتها بحيث يتم تقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يجب تأخيره تحقيقًا للتوازن بين المنظومات، وبذلك يكون التوازن هو عين الحفاظ على مركز الثقل بين المنظومات المشكلة للكتلة الصلبة “الدولة” عبر أقل تأرجحات ممكنة بين المنظومات في أقل الخسارات المحتملة.

المنظومة: هي المجموعة المتكاملة من العناصر المرتبطة بعضها ببعض المكونة للحالة الصلبة “الدولة” وهذه العناصر بمكوناتها المختلفة تحمل بُعدًا وظيفيًا داخل المجموعة تتداخل مع عناصر مختلفة من مكونات المنظومات المختلفة تتأثر فيما بينها وتتأثر من محيطها، وشرط بقائها التوازن المذكور آنفًا.

في الحالة الإسرائيلية التي هي محط مقالتنا، تشكل المنظومات عين وجود إسرائيل، وبغياب واحدة من هذه المنظومات تنتهي إسرائيل وجودًا، وبدخول الخلل إلى واحدة من هذه المنظومات تتعثر الدولة وتتآكل كما الكائن الحي لتنتهي إلى الزوال الوجودي بفعل عوامل التآكل الداخلي قبل الخارجي.

 

المنظومات السبع

اجتهد بن غوريون المؤسس لدولة إسرائيل ومن معه من الحركة الصهيونية بإنشاء إسرائيل على أساس توافقي بين مكونات المجتمع اليهودي آنذاك، السياسي والعرقي، بين العلمانيين والصهاينة المتدينين والتيار الحاريدي، ولم يكن من السهل الوصول إلى هذه التفاهمات والتوافقات التي قامت عليها الدولة، وهذه التوافقات راعت المنظومات التي تأسست بفعل العمل اليومي، وتموضعت قيميًا وعملياتيًا في مسيرة المؤسسين الصهاينة، وتمَّ مراعاة التوافقية ومن ثم التوازن عبر أدوات مختلفة سُمح للقضاء الإسرائيلي بالتعاون مع المشرع، الكنيست، خلق هذه التوازنات عبر مجموعة من القوانين والقيم المتفق عليها ضمنيًا وإن ضمت تقدمًا موضوعيًا في بعض الشؤون برسم التأسيس كمثل تقديم القيم العلمانية والسكوت عن الأخلاقيات والسلوكيات المنبثقة عن القيم العلمانية المناهضة لليهودية كدين، أو السكوت عن التغلغل العلماني والعكس الديني في المجتمعات اليهودية والصهيونية العلمانية.  عمليًا قامت إسرائيل كما ذكرت على سبع منظومات راكمت وجودها تباعًا منذ نشوء الحركة الصهيونية وإلى هذه اللحظات، علمًا أنَّ بعضًا من هذه المنظومات ما زال طور التخلق والتصور كالمنظومة التشريعية-القضائية التي هي محل تجاذبات هذه اللحظات ستنتهي آجلًا أم عاجلًا فيما سيكون السؤال ما هي الكلفة التي ستدفع ثمنًا لهذه التحولات غير التوافقية.

المنظومات السبع، خمس منها داخلية شُرع العمل عليها قبيل قيام إسرائيل ولا زال العمل قائمًا على بعض منها، واثنتان خارجيتان تتعلقان بأصل إيجاد الدولة له علاقة بحجم التعاون القائم بين المؤسسات الدولية المعنية بإبقاء النفوذ والسيطرة على منطقتنا.

المنظومات الداخلية: المنظومة البشرية، المنظومة الحزبية-السياسية، المنظومة التشريعية-القضائية، المنظومة الأمنية-العسكرية، المنظومة الأكاديمية-القيمية.

المنظومات الخارجية: الحركة الصهيونية واللوبيات الصهيونية، الجبهة الصليبية-الأنجلو-سكسونية-الامريكية-البروتستانتية.

 

المنظومات الداخلية..

دائمًا ما يحتج المُنظر الإسرائيلي إلى أن دولته دولة يهودية وديموقراطية، وبعد سن قانون القومية عام 2018 حُسم موضوع يهوديتها بأن تقدمَّ على ديموقراطيتها، ويشكل عمليًا هذا القانون الذي عظّم دور البُعد الديني-القومي على الديموقراطي البدايات الحقيقية لفقدان التوازن بين المنظومات المُؤسسة التي تقوم عليها إسرائيل داخليًا وتؤثر في باقي المنظومات، باعتبار أن القانون عمليًا فتح الطريق لمحاججة المنظومات الأخرى ذات الصلة المتعلقة بالمنظومة البشرية، المنظومة الحزبية-السياسية، المنظومة التشريعية والمنظومة القيمية التي هي الجوهر الذي تأسست عليه إسرائيل ووازن بين الديني والعلماني.

وكنت قد ضممت المنظومة القيمية إلى الأكاديمية باعتبار أن الجامعة الإسرائيلية في أصل تأسيسها، حملت دورًا أساسًا في وضع الحجر الأساس للقيم ونظّرت لهذه القيم التي تم تذويتها وشكلت الجامعة العبرية التي تأسست قبل قيام الدولة وإقامتها الحركة الصهيونية في مدينة القدس بما يحمل ذلك من دلالات قيمية وجدانية، الحجر الأساس في هذه المنظومة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فارقت هذه الجامعة مُبكرًا بين اليهود عمومًا والدول العربية التي نشأت تحت مظلة سايكس بيكو، وخلقت قيمة تذوتت تربويًا وتعليميًا مفادها أنهم أي اليهود، ساكنة إسرائيل يتبعون المنظومة الغربية (الأوروبية-الأمريكية)، علمًا أن ساكنة البلاد من اليهود، قسم كبير منهم هاجر من بلدان عربية كمصر وسوريا ولبنان والعراق وكلها دول قامت عمليًا بعد سايكس بيكو مع استثناء خاص لمصر، إذ لطالما بقيت العين الصهيونية عليها إلى أن أخرجتها من سربها في اتفاق كامب ديفيد الذي كان البداية لفرط عقد العرب، وحتى عندما تم التطبيع ولا يزال، لا تزال هذه القيمة، قيمة المفارقة، قائمة وبقوة. هذا التفريق جاء لتحقيق مجموعة أهداف وضعتها الحركة الصهيونية لإحكام السيطرة على الأجسام المكونة للدولة بفعل قدومها من مختلف أصقاع الأرض، خاصة وأن أحد المفارقات الكبرى كما أشرت لاحقًا، أن أعدادًا هائلة من اليهود الأوائل ممن قدموا إليها كانوا من الدول العربية.

المفارقة والتمييز والفوقية، العلو، الأحقية، قيمُّ تمَّ تذويتها صهيونيًا ومبكرًا من خلال المنصات الأكاديمية التي حفرت في تاريخ البلاد لتبحث عن خلاصٍ عملي لها يمنحها الأحقية التاريخية والأخلاقية فضلًا عن الدينية على أرض فلسطين، باعتبار أن المؤسسين ابتداء كانوا من المدرسة العلمانية بل وبعضهم من الملاحدة ولم يكن الدين أي اليهودية، إلا بوابة عبور للوصول إلى الدولة، وتم مبكرًا على يد هؤلاء العلمانيين تأرخة الدين- أي جعله مادة تاريخية ليس أكثر- للاستفادة منه قوميًا وهوياتيًا لنصل إلى هذه اللحظة الفارقة في مسيرة هذه الدولة، حيث يتقدم الدين، وقد أثبتت دراسات صدرت مؤخرًا عن مركز دراسات الشعب اليهودي، أن 49% من المجتمع الإسرائيلي يعتبر نفسه محافظًا، فإذا أضفنا أن 22% من السكان تقريبًا يعتبرون أنفسهم متدينين ومتدينين جدًا، تكون الغالبية العظمى من اليهود على خط المحافظة والتدين لا على خط العلمنة والإلحاد.

التركيز على مبدأ المفارقة عن ساكنة المنطقة ذات الأغلبية المسلمة، جاء كما ذكرت برسم العقل الاستعماري الوافد صهيونيًا المتعاضد مع الاستعمار الأنجلو سكسوني لبلادنا المحقق لتبعية غربية دفعته مصالحه الكبرى لإنشاء إسرائيل ورعايتها حتى هذه اللحظة، وذلك بغض النظر عن سؤال المصلحة والقيمة في قيام إسرائيل والتبادلية القائمة بين الحركة الصهيونية والصليبية الغربية.

ثمة توازنات تم الاتفاق عليها ولو ضمنيًا منذ لحظة الشروع بتأسيس الييشوف أي ما قبل الدولة وإلى هذه اللحظات، وهذا التوازن تم الحفاظ عليه عبر معايير متفق عليها سياسيًا وبعضها تم قوننته مبكرًا وتشكل بعض القوانين الأساس  العملي لاستعادة هذا التوازن بين المنظومات، ومن أهم هذه القوانين على سبيل المثال لا الحصر، قانون أساس الكنيست الذي سنّ في 12/2/1958 وفيه أن الكنيست هي المشرع والبرلمان ومكانها القدس، وتناول طريقة الانتخابات وأعضاء الكنيست وعددهم وما لهم وما عليهم ودورهم التشريعي وحقوقهم، وقانون أساس أرض إسرائيل الذي تمَّ سنه في 27/7/1960 وأن هذه الأرض للشعب اليهودي، وقانون أساس أن الجيش جيش الشعب معتمدًا الأوامر الصادرة عام 1948 فيما سميت بأوامر جيش الدفاع الإسرائيلي وقد تم سن القانون في 31/3/1976 وفيه منع مطلق لتأسيس قوات خارجة عن الجيش وبموافقة قانونية (أنظر مليشيات بن غفير التي دعا إلى تأسيسها تحت مسمى الحرس الوطني..)، وقانون أساس كرامة الإنسان وحريته والذي سن في 17/3/1994 وقانون القومية الذي سن في 18/7/2018 وفيه بيان أن هذه البلاد حق خالص لليهود وفيها يحقق مصيره الذاتي، وأن التقويم العبري هو التقويم الرسمي للدولة، وأن الاستيطان في كافة أرض إسرائيل قيمة عليا، وأن السبت هو يوم استراحة.

 

مثال لتوضيح المعنى

ثمة منظومات تم دخول الخلل إليها مبكرًا، ولكن قوة الدولة وسطوتها لعبت دورًا في التوازن، لكن مع مرور الزمن والتحولات التي جرت في البلاد ومحيطها، دفعت إلى خلل في التوازنات، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تعتبر المنظومة البشرية الأساس الوجودي لإسرائيل إذ بدونها لا وجود للحلم الصهيوني. هذه المنظومة القاعدة الحية التي تؤسس عليها كافة المنظومات، تعرضت منذ اللحظة الأولى للغبن، إذ شكل الاشكناز الثقل الحي في تأسيس إسرائيل، لكن استمرار وجودها منوط بهذه المنظومة التي تشكلت من مجاميع اليهود في أصقاع الأرض وقد هاجروا من بلدانهم التي استوطنوها إلى فلسطين لتحقيق حلم الدولة اليهودية، وسعت المؤسسة الحاكمة لخلق هوية جامعة لهذا الشتات الذي جاء وكل معه هويته الخاصة وتقاليده وقيمه وعاداته، فكانت فكرة الجيش كبوتقة جامعة للشباب اليهودي عبر تذويت هوية جديدة جامعة، فكانت النتيجة أن تقوقعت كل مجموعة حول نفسها وبعضها تجلت قوتها في الكنيست كاليهود الروس، على سبيل المثال لا الحصر، وتغلغل الشرقيون والمتدينون إلى حزب الليكود الذي أسسته مجموعة اشكنازية وحركة شاس ممثلة عن التيار الديني الشرقي فيما يهدوت هتوراه ممثلة للاشكناز الحاريديين.

الاحتجاجات التي طالت كافة مرافق الحياة بعد تشكيل الحكومة السابعة والثلاثين في الدورة الخامسة والعشرين للكنيست بسبب القوانين والتغييرات التي تعمل الحكومة الحالية على تشريعها سواء على المستوى الحكومي-الحكومي أو على المستوى التشريعي-القضائي سيكون لها الأثر البالغ في فقدان التوازن بين المنظومات المؤسسة للدولة داخليًا، وهذا الفقدان من الناحية العملية سيشكل حجر الزاوية في تساقط اللبنات المؤسِسَة خاصة وأن هذه المنظومة أي التشريعية-القضائية هي الأكثر حساسية من بين المنظومات المختلفة لأنها تمس أحاد الأفراد كما تمس سلوكيات وأخلاقيات عموم المجتمعات المكونة للمجتمع الإسرائيلي فضلًا عن باقي المنظومات التي تتكاتف وتتعاضد معها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى