أخبار رئيسيةمقالاتومضات

خارطة طريقنا

الشيخ كمال خطيب

 

كثيرًا ما بتنا نسمع مصطلح خارطة الطريق في عالم السياسة وخلال مباحثات ومحادثات الوصول إلى اتفاقيات لحلّ أي صراع، وعادة ما يقدم هذه الخارطة الطرف الوسيط. وشعبنا الفلسطيني عاش يومًا على وقع وأوهام خارطة طريق “اتفاقية أوسلو” بزعم أن المفاوضات السرية التي بدأت في النرويج بين الوفدين الإسرائيلي والفلسطيني، ستقود إلى إقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية كما كان يروج لتلك الخارطة البائسة مهندسها محمود عباس أبو مازن.

وإذا كانت خارطة الطريق السياسية تحتمل الخطأ والصواب وأن تتحقق أو لا تتحقق، فإن للمسلم خارطة طريق إيمانية يسير على هديها ويتدرج في خطواتها ومساراتها وهو مطمئن وواثق أنه سيصل إلى نهاية الطريق ويحقق ما يصبو إليه {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} آية 153 سورة الأنعام، فإن خارطة الطريق التي نسير على هديها هي التي ستوصلنا بإذن الله إلى الجنة، ولكنها قبل ذلك ستوصلنا في الدنيا إلى الخلاص مما نحن فيه من الذلّ والهوان والفرقة وتسلط الأعداء إلى أن نعيش في ظلال حكم دولة الإسلام والخلافة الراشدة التي هي المرحلة الأخيرة كما قال ووصف رسول الله ﷺ: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة” ثم سكت.

وإذا كانت لمشاريع خارطة الطريق السياسية دول تأخذ على عاتقها متابعة وتنفيذ تفاصيل خارطة الطريق وهي ما عرفت باسم “الدول الآمنة” فإن الضامن لخارطة طريقنا ليس إلا الله رب العالمين {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} آية 28 سورة الفتح. {وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} آية 6 سورة الروم.

وعليه، فإن ملامح خارطة طريقنا برغم كل ما فيها من آلام وعثرات، إلا أنها بادية واضحة الخطوات. وما أجمل ما قاله الشاعر:

وإني لأدعو الله حتى كأنني   أرى بجميل الظن ما الله صانعه

وكيف لا نحسن الظن بربنا سبحانه أن يحقق لنا خارطة طريقنا، وكيف لا نرى ما الله وعد به وسيصنعه وبين أيدينا وفي ذاكرتنا وقلوبنا خارطة طريق رسول الله ﷺ وقد تحققت بتفاصيلها منذ كان محاصرًا في المدينة في معركه الخندق، محاصرًا بعشرة آلاف مقاتل من كفار مكة ومنافقي المدينة ويهودها، وخلال الحصار كانت فكرة حفر الخندق وضرب الحجر الضخم الذي استعصى، وعندها تحدث ﷺ بكل ثقة ويقين عن خارطة طريق قائلًا في الضربة الأولى: “الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأرى قصورها الحمراء الساعة، ثم ضرب الثانية وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأرى قصر المدائن الأبيض، ثم ضرب الثالثة وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأرى قصور صنعاء من مكاني”. وليس أن رسول الله ﷺ قد رسم ملامح خارطة الطريق لتكون تطمينًا لأصحابه، وإنما هم الذين صدقوا وآمنوا وأيقنوا أن خارطة الطريق هذه ستتحقق {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} آية 22 سورة الأحزاب.

إننا لا نتحدث عن خارطة طريق ضمنها جورج بوش ولا كلينتون ولا أوباما ولا ترامب ولا بوتين ولا أصحاب جلالة وفخامة عرب ومسلمون، وإنما نتحدث عن خارطة طريق ضامنها ذو الجلال والإكرام. يقول عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما: “لو انطبقت السماء على الأرض لجعل الله للمتقين فتحات يخرجون منها، ألا ترى قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا}” آية 12 سورة الطلاق.

إننا نثبت بخارطة طريق الله لنا وخارطة رسول الله ﷺ دون أن تعجزنا ضخامة الأمنيات، ودون إيمان بالمستحيلات، وغير مكترثين بخذلان المخذلين، ولا أراجيف المرجفين، ولا تشكيك المشككين. نعم إننا لا نتحدث عن خارطة الطريق ولا نتحدث عن المستقبل بأمل وثقة وتفاؤل ضعفًا وهروبًا من الواقع، وإنما تصديقًا ويقينًا بوعد الله الذي لا يخلف، ووعد رسوله ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى.

ألا أيها المرء الذي في عسره أصبح   إذا اشتد بك الأمر فلا تنس ألم نشرح

وقال الآخر:

 يا عباد الله صبرًا   إن توالت الكروب

كلما تشتد كربًا   تنجلي عنك الذنوب

إن في القرآن آية   هي طب للقلوب

إن مع العسر يسرًا   قال علام الغيوب

ولقد شرح المرحوم الشيخ محمد الغزالي ملامح خارطة الطريق هذه حتى لا يظنن ظانّ أنها ستتحقق على طبق من ورد، أو أننا سنحلم بها حلمًا جميلًا ويتحقق، وإنما هي التي تكون مكلفة ويُبذل من أجل تحقيقها نفوس وأموال، لكنها حتمًا ستتحقق وينال شرف تحقيقها الصادقون والمخلصون، فقال رحمه الله: “إذا احتدمت المعركة بين الحق والباطل حتى بلغت ذروتها، وقذف كل فريق بآخر ما لديه ليكسبها، هناك ساعة حرجة يبلغ الباطل فيها ذروة قوته ويبلغ الحق فيها أقصى محنته، والثبات في هذه الساعة الشديدة هو نقطة التحول، وهو الامتحان الحاسم لإيمان المؤمنين، فإذا ثبت الإيمان تحول كل شيء لمصلحته، فيبدأ الحق طريقه صاعدًا ويبدأ الباطل طريقه نازلًا وتقرر باسم الله النهاية”.

وخلال هذه المعركة لتنفيذ خارطة الطريق، وخلال احتدام الصراع بين الحق والباطل، فلا كرامة لأولئك الذين يقفون على الحياد خلال المعركة الفاصلة بانتظار كيف سينجلي الغبار وعندها سيحددون مواقفهم، لا وألف لا، فإن الإنسان لا يحاسب فقط على عدم قول الحق، وإنما سيحاسب أيضًا عن سكوته عن قول الحق ونصر الحق الذي كان يجب أن ينطق به لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس.

إننا نرى ونسمع بعض السفهاء والفارغين أدعياء الواقعية وأصحاب نظرية رفض الغيبيات وعدم التسليم بكل ما هو غيبي، إننا نراهم يهمزون ويلمزون بكل من يتحدث عن خارطة الطريق التي حدد ملامحها رسول الله ﷺ، ويسيرون وفق خارطة الطريق التي حددها نتنياهو ولبيد وأوباما وأبو مازن. ما أشقاهم بل ما أتفههم، فماذا يقول هؤلاء البراغماتيون جدًا والواقعيون جدًا بما قاله ﷺ من تفصيل ملامح خارطة الطريق لمّا قال: “لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله عز وجل رجلًا منا يملؤها عدلًا كما مُلئت جورًا”. وقال ﷺ: “لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلمًا وجورًا وعدوانًا ثم يخرج من أهل بيتي من يملأها قسطًا وعدلًا كما مُلئت ظلمًا وعدوانًا”. وقال ﷺ: “ينزل بأمتي في آخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم لم يسمع بلاء أشد منه، حتى تضيق عنهم الأرض الرحبة، وحتى يملأ الأرض جورًا وظلمًا، لا يجد المؤمن ملجأ يلتجئ إليه من الظلم، فيبعث الله عز وجل رجلًا من عترتي، فيملأ الأرض قسطًا وعدلًا، كما مُلئت ظلمًا وجورًا، يرضى عنه ساكن الأرض وساكن السماء، لا تدّخر الأرض من بذرها شيئًا إلا أخرجته، ولا السماء من قطرها شيئًا إلا صبّه الله عليهم مدرارًا، يعيش فيهم سبع سنين أو ثمان أو تسع تتمنى الأحياء الأموات مما صنع الله عز وجل بأهل الأرض من خيره”.

 

كن رقمًا ولا تكن صفرًا

إن ثقتنا بخارطة الطريق هذه وواضع تفاصيلها الله جل جلاله ومن بُعث رحمة للعالمين رسوله ﷺ، وإنها حتمًا ستكون بإذن الله تعالى، إن هذا ليس معناه كما يظن بعض البلهاء والسفهاء من أعداء وجهلاء هذا الإيمان، أننا نجلس ونقعد غير آخذين بأسباب تحقيق خارطة الطريق هذه.

إن مثل من يجلس منتظرًا تحقيق هذه الخارطة من غير عمل وجهد وبذل وعطاء وتخطيط وإعداد يؤديه أفراد الأمة الصادقون والغيورون، فمثله كمثل من يعيب ويسخر من وجود هذه الخارطة وينكرها.

إن عليك أخي أن تكون مشعلًا يبدد ليل اليائسين والمحبطين والمتشائمين، وتنير لهم وتبيّن لهم معالم خارطة الطريق هذه، كما قال الشاعر العراقي المرحوم وليد الأعظمي:

كن مشعلًا في جنح ليل حالك   يهدي الأنام إلى الهدى ويبيّن

وأسلك مسالك أحمدَ متتبعًا خطواته فسبيل أحمد بيّن

 

وكن رقمًا صعبًا ولا تكن صفرًا يُضَم إلى قائمة أصفار طويلة من الخاملين، بل كن الواحد الذي أضيف إلى يسار الأصفار فيصبح الرقم مليونًا أو مائة مليون.

وكن أنت النملة التي نادت في بنات قومها من ملايين النمل الذين لم يشعروا بالخطر الداهم وهي ترى جيش سليمان وجنوده {حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوْاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} آية 18 سورة النمل. ففي الوقت الذي لم ينتبه ملايين النمل إلى الخطر، فإن نملة واحدة انتبهت فكانت سبب نجاة قومها. فكن أنت هذه النملة وكن أنت هذا الحس المرهف نحو دينك وأمتك وشعبك ممن يظل يذَكّرهم بخارطة الطريق هذه.

 

وكل آت قريب

هذه هي خارطة الطريق التي نؤمن بها ونسلكها ونسير وفق برنامجها، وليست خارطة الطريق التي رسمتها حكومات إسرائيل لبعض الفلسطينيين من لدن أوسلو وترسمها لبعض فلسطينيي الداخل، بأنهم لن ينالوا حقوقهم إلا إذا ساروا على خارطة طريق بها يصبحون جزءًا من ائتلافات حكومية مشبوهة ومعادية لشعبنا بتبرير أن من خلالها ستتحقق بعض المصالح الموهوبة.

إننا سنظل نعمل ونبذل ونجد ونجتهد، وهكذا يفعل الخيرون من أبناء الأمة حتى وإن فشلوا هنا وهناك، وحتى وإن دفعوا الثمن غاليًا مرة ومرات، إلا أنهم لن يقيلوا ولن يستقيلوا، وسنظل وسيظلون على يقين بقرب الفرج وقرب تحقيق وعد الله وخارطة الطريق التي رسمها سبحانه.

فإذا كان فرج إبراهيم عليه السلام في محنته في قلب النار، وإذا كان فرج يوسف قد جاءه مرة في الجبّ ومرّة في السجن، وإذا كان فرج يونس قد جعله الله في بطن الحوت، وكان فرج موسى في اليمّ، وفرج أصحاب الكهف في كهفهم، وفرج محمد ﷺ في الغار، وإذا كنا نعيش ونحيا في بطن الحوت الإسرائيلي ووسط ظلمات سجونه وموجات بحره العاصف، به يهددنا بالدمار والفناء ولن يكون له ذلك بإذن الله، لأنه لن يستطيع تحقيق خارطة طريقه ببناء دولته ثم بناء هيكله المزعوم على أنقاض أقصانا، لأنه سيُفاجَأ أن خارطة طريقنا هي التي ستجد طريقها إلى التحقيق والتطبيق.

وإن أعظم مرحلة من مراحل خارطة طريقنا ما قاله ﷺ قيام دولة الخلافة الإسلامية العالمية الراشدة وعاصمتها ليست إلا القدس الشريف: “يا ابن حوالة إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام والساعة يومئذ أقرب من الناس من يدي هذه إلى رأسك”. وقد بينت أحاديث أخرى أن عيسى عليه السلام ينزل شرقي دمشق ويأتي إلى القدس وقد أقيمت صلاة الفجر فيصلي المهدي إمامًا بعيسى عليه السلام وبالمسلمين ثم يعملان معًا في قتال الدجال ومن معه.

هذه هي خارطة طريقنا وعلى تحقيق تفاصيلها نعمل ونسير ونحن مطمئنون إلى أن فرج الله آت وأنه قريب وكل آت قريب.

نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.

 

رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.

والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى