أخبار رئيسيةتقارير ومقابلاتعرب ودوليومضات

سوريات منكوبات… الزلزال أفقد الأسر المعيل والاستقرار

في إحدى الكتل الإسمنتية في مخيم الكمونة في ريف إدلب الشمالي (شمال غرب سوريا)، تحتضن فاطمة (30 عاماً) أطفالها الثلاثة وتشدهم نحوها. تحاول مغالبة دموعها من دون أن تنجح. فالخوف الذي عاشته وأطفالها فجر الإثنين في السادس من الشهر الجاري من جراء الزلزال المزدوج الذي ضرب جنوب تركيا وشمال غربي سورية، طغى على كل شيء في حياة هذه المرأة المحطمة. “خسرت كل شيء، وإن كان قليلاً، بسبب الزلزال”، تقول، مضيفة: “أفكر بمستقبل أطفالي الثلاثة. تبدّلت حياتنا كلها بعد دقيقة من الزلزال المخيف”.

نجت فاطمة من الزلزال. إلا أن قلبها ما زال عالقاً في منزل أهلها ببلدة جنديرس بريف عفرين (شمال غرب حلب)، حيث قضوا جميعاً تحت الركام، ولم يبق لها من يعينها وأطفالها على أعباء الحياة.

كانت فاطمة قد انفصلت عن زوجها قبل سنوات، وترك لها مسؤولية رعاية أطفالها، أكبرهم بعمر السبع سنوات، وأصغرهم بعمر الثلاث سنوات. عاشت مع أهلها في بلدة جنديرس بعيداً عن بلدتها وبيتها الكائن في ريف دمشق. كانت ترى أن حياتها استقرت وتأقلم أطفالها مع حياتهم الجديدة في كنف أخوالهم ورعايتهم، علماً أن منزلها أسفل منزل أهلها مباشرة، ما سهل عليها تأمين كافة مستلزماتها.

تقول فاطمة: “خسرت كل شيء في لحظة وانقلبت حياتي رأساً على عقب. اللحظات المخيفة التي شعرت بها وقت الزلزال ما زالت ترافقني حتى الآن. وعلى الرغم من مضي أيام على الزلزال، ما زلت تحت تأثير الصدمة، حالي حال معظم الذين عاشوا تلك اللحظات الرهيبة”. حين شعرت بأن الأرض تهتز، حملت أطفالها وغادرت البناء بسرعة قبل أن يتهالك ويسقط، بينما لم يتمكن أهلها القاطنون في الطوابق العلوية من مغادرة المنزل فانهار عليهم قبل أن يغادروه. قرب منزل فاطمة من الشارع ساعدها على مغادرة المكان وإنقاذ أرواح أولادها وهو ما لم يكتب لأهلها.

تقول: “أحياناً لا أصدق أنني فقدت جميع أهلي في لحظة. كانت لحظات رهيبة لا أتمنى لأحد في الدنيا أن يعيش خوفها ووجعها”.

تتجول فاطمة في أركان خيمتها الجديدة كمن يبحث عن شيء وهو يعلم يقيناً أنه لن يجده. تردّد أصوات أخوتها الذين فقدتهم من دون أن تسمع صدى صوتها، فقد خسرت كل شيء من أثاث وملابس ومؤونة وأهل. تقول: “يمكن لكل شيء أن يُعوض لكن من سيعوض فقدان الأهل والسند والمعيل والمعين على مصائب الدنيا وصعوباتها. تلك خسارة لا يمكن تعويضها من أحد، ولا يمكن لجرحها أن يشفى إلا بعد حين”.

تتأمل فاطمة أطفالها بحسرة، بعدما كانت مطمئنة على مستقبلهم إلى جانب أهلها. أما اليوم، فتشعر بالقلق، بعدما باتت مسؤولة وحدها عن تأمين أبسط مستلزماتهم. جميع أقربائها في ريف دمشق ولا سبيل للعودة إليهم خشية انتقام النظام منها، كما لا تملك عملاً يمكن أن يدر عليها دخلاً. تقول: “تأمين المعيشة قد يكون بسيطاً في مقابل أن تعيش غريباً ووحيداً في بلد لا تعرف فيه أحد. هناك أشياء لا يمكن وصفها ببساطة ولا يمكن تقدير الحاجة إليها. من الصعب جداً أن تشرح لأحدهم خسارتك. لن يفهم أبداً عبارة خسرت كل شيء. ربما يظن للوهلة الأولى أنك تقصد أشياء مادية، ولا يدري أن هناك شيئاً ما عزيزاً كُسر داخل كل من عاش الزلزال وأهواله”.

لا سند

عمّق الزلزال المزدوج في السادس من الشهر الجاري مآسي عشرات آلاف النساء السوريات سواء داخل البلاد أو في تركيا، وخصوصاً اللواتي فقدن المعيل من زوج أو أب أو ابن أو أخ. تبكي أم خالد (45 عاماً)، القاطنة في مدينة الرقة السورية (500 كيلومتر شمال شرق دمشق)، بحرقة شديدة على ابنها الذي أصيب في الزلزال الذي طاول مدينة أورفة التركية حيث يقيم منذ عام 2016. تقول لـ “العربي الجديد”: “كنت أعتمد على ابني في معيشتي، وكان يرسل لي مطلع كل شهر ما يكفي لدفع بدل إيجار المنزل وتأمين مستلزمات الحياة الأساسية، وكلفة علاجي في دمشق إذ أعاني من مرض القصور الكلوي”. وتشير أم خالد إلى أن أوضاع إخوتها في الرقة “لا تسمح لهم بمساعدتها لفترة طويلة”، مضيفاً: “لا أدري ماذا أفعل. أنا مريضة ولا أستطيع العمل وقد بدأت ببيع أثاث منزلي لتأمين الطعام والشراب”.

 

تتحسر أم خالد على حال ابنها المصاب والموجود في مستشفى داخل تركيا، وخصوصاً أنها لا تستطيع الذهاب إليه والوقوف إلى جانبه. تقول: “كأنني أعيش الفاجعة مرتين. فجيعتي على ابني الأكبر وقد أصابه ما أصابه نتيجة سقوط المبنى حيث يقطن في أورفة، وفجيعة فقدان المعيل والسند. كان ابني أملي ومعيني والآن لا معين لنا إلا الله”.
وتطالب أم خالد المنظمات والجمعيات الإنسانية بالوقوف إلى جانب النساء اللواتي فقدن المعيل نتيجة الزلزال الذي “غيّر مصائر عشرات الآلاف من السوريين خلال دقيقة واحدة”، مضيفة: “اجتمعت على السوريين كل الفواجع من حروب وتهجير ونزوح وجاء الزلزال كي يكمل دائرة البؤس التي تحيط بنا”.

استغلال المنكوبين

وفي مدينة أورفة التركية التي تأثرت بالزلزال، لم تجد أم وحيد (35 عاماً) التي فقدت زوجها بالزلزال إلا معبر تل أبيض الحدودي الذي هرعت إليه مع أطفالها الخمسة للعودة إلى قريتها في ريف الرقة، فور سماح الجانب التركي للسوريين اللاجئين بالعبور إلى بلادهم من دون إجراءات وتعقيدات إدارية. لكن أم وحيد اصطدمت بعدم وجود معبر نظامي بين مناطق سيطرة الجيش الوطني المعارض وبين قوات سورية الديمقراطية (قسد) التي تسيطر على جل محافظة الرقة، بينما يسيطر الأول على بلدة تل أبيض وريفها.

تقول: “فقدت معيلي بالزلزال، ولم يعد أمامي إلا العودة إلى قريتي في سورية رغم معرفتي بالظروف الصعبة التي سأعيشها مع فقدان المعيل. لكن الوصول إلى القرية يتطلب أموالاً تدفع إلى المهربين بين المنطقتين”. وتوضح أن كلفة تهريب العائلة الواحدة من تل أبيض إلى الرقة هي 150 دولارا أميركيا، وتسأل: “من يملك هذا المبلغ الآن؟”.

تتابع: “هناك استغلال لحاجة المنكوبين سواء في تركيا أو في سورية. كنت أتوقع أن أجد التعاطف والمساندة من الناس لكي أصل إلى قريتي وخصوصاً أنني امرأة مع خمسة أطفال، ولكن للأسف هناك جهات وأفراد اعتبروا الفاجعة فرصة لكسب سريع على حساب معاناة الناس”.

 

الحلقة الأضعف

وينتشر عدد كبير من اللاجئين السوريين في مدن الجنوب التركي التي نال منها الزلزال، وخصوصاً أنطاكيا، ومرعش ونور داغ، والإصلاحية، وغازي عنتاب، وأورفة. ولم تصدر حتى الإثنين الماضي إحصائيات رسمية عن عدد السوريين الذين قضوا نتيجة الزلزال في تركيا. لكن من المؤكد أن هناك آلاف العائلات السورية التي نُكبت.

وفي الداخل السوري، قضى 6469 شخصاً، منهم 2203 وفيات في مناطق النظام و4266 في شمال غرب سورية الخاضع لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) وفصائل المعارضة، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان. وكانت بلدات ريف إدلب الشمالي وخصوصاً بلدة حارم وريف عفرين وبلدة جنديرس الأكثر تضرراً بالزلزال.

وتقول أم حسين (40 عاماً) التي تقف على ركام منزلها في بلدة حارم ليس بعيداً عن الحدود السورية التركية: “هُجّرنا من بيوتنا في ريف حمص الشمالي، والآن هجرنا الزلزال مرة ثانية وكانت أقسى وأشد”. تضيف: “فقدت زوجي وأحد أولادي في الزلزال. لم يبق لي ولأطفالي الثلاثة أي معيل”، مشيرة إلى أن الحياة في بلدة حارم “كانت معقولة، لكن جاء الزلزال فغيّر حياتنا. قدّر الله وما شاء فعل”. وترى أن الأيام المقبلة ستكون “صعبة على السوريين المنكوبين وخصوصاً النساء اللواتي فقدن المعيل”. وتسأل: “من يتكفل بهؤلاء النساء والأطفال في منطقة تكاد تكون فرص العمل فيها شبه معدومة.. المصيبة كبيرة على الجميع هنا”. وتأمل أن تثمر الجهود التي تقوم بها بعض الدول والمنظمات الإنسانية لإيجاد حلول دائمة لأوضاع النساء اللواتي أصبحن بلا سند ليس نتيجة الزلزال والحرب التي “أكلت سورية منذ نحو 12 عاماً”.

تضيف: “النساء هن الحلقة الأضعف في الحروب والكوارث وخصوصاً إذا كان لديهن أطفال صغار ولا يمكنهن العمل وإعالتهن”. وترى أم حسين التي ما زالت تحلم بالعودة إلى منزلها في ريف حمص يوماً، أنه يتوجب على المنظمات إحصاء عدد النساء اللواتي نكبن نتيجة الزلزال وتقديم المساعدة لهن ولأبنائهن، مضيفة: “لا أعتقد أن الأمر صعب. هناك واجب على هذه المنظمات حيال النساء في شمال وشمال غرب سورية بتوفير مسكن وعمل وعيش كريم لهن”. وتشير إلى أن السوريات “دفعن أثماناً كبيرة منذ بدء الحرب في سورية عام 2011، والآن جاء هذا الزلزال ليزيد جروحنا جرحاً”.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى