مقالات

عاشق البيارة

عبد القادر سطل- يافا

 

أيام معدودة وتصدر روايتي الجديدة “عاشق البيارة”. وهي رواية مسرحية، أحداثها البيارة. قد تكون البيارة في يافا وخارجها شيئًا مبهمًا، فقد كبرت في يافا أجيال عاشت وقضت نحبها في البيارة. البيارة كانت الحيز الوحيد الذي عرفوه، كانت مرتع الطفولة وعنفوان الشباب ومصدر الرزق الأول ليافا وفلسطين، فإذا كانت يافا هي جنَّة الله على الأرض كما وصفها البعض أو كما أطلق عليها صاحب موسوعة فلسطين الأستاذ مصطفى الدباغ “واحة سقطت من الجنة”، فإن البيارة هي روضتها.

وقد سبق أن بعث إمبراطور المانيا “ويلهلم الثاني” إلى سلطان الدولة العثمانية عبد الحميد الثاني، رسالة يقول له فيها، إنه دخل الجنة! فردّ عليه السلطان: كيف ذلك وأنت ما زلت حيًا ترزق؟ فرد عليه برسالة أخرى قائلًا: “لقد كنت في يافا”. كان ذلك بعد أن زار يافا في طريقه للحج في بيت المقدس، وبات فيها في فصل الربيع، وفي الصباح الباكر داعب أساريره عبير زهر البرتقال القادم من بيارات يافا، ففتح النوافذ واستنشق من زخور الحمضيات التي طغت على المكان والزمان، وراحت تخلد في دهاليز الذاكرة دون منازع.

هناك أجيال أخرى تجهل البيارة ولم تشاهد في حياتها بيارة، وكلنا يعرف أن الأرض المزروعة بأشجار الفواكه يطلق عليها اسم كرم، فنقول: كرم العنب، وكرم التفاح، والتين، والرمان، وحتى الشجرة المباركة تزرع في كرم. أمّا الحمضيات على أشكالها فتزرع في البيارة.

من أين أتى أسم البيارة؟ وكيف نبتت هذه البيارات في فلسطين؟ ما مصدرها؟ ومن حمل هذه النبتة العجيبة إليها؟ لماذا هنا في يافا؟ والساحل الفلسطيني عامة؟ أسئلة كثيرة تخطر بذهن القارئ ويبحث عن إجابات لها، فهل من مجيب؟ سأحاول بتواضع كبياري ابن بياري، أبًا عن جد، أن أجيب عن هذه الأسئلة قدر المستطاع.

البيارة أخي القارئ، هي المكان الذي تزرع فيه الحمضيات وعلى رأسها البرتقال، وعندما نقول برتقال، فهذا عالم بحد ذاته بطعمه ولونه وشكله وعصيره وفوائده الغذائية والصحية، ناهيك عن الجانب الاجتماعي والاقتصادي والحضاري، وعن هذا حدث ولا حرج.  والأرض التي زرعت فيها هذه النبتة كان لا بد من مدّها بشريان الحياة وهي المياه التي سترويها! وذلك بحفر الآبار للوصول إلى مصدر المياه في الأرض ذاتها، عمقها ما بين 12 مترًا أو أكثر حسب المنطقة الغنية بالمياه الجوفية، نوعية التربة في المنطقة، رملية وصخرية (كركار) تساعد وتسهَل عملية الحفر وبناء البئر من المتخصصين في هذا العمل، بعدها، لا بد من بناء البركة (مجمع المياه) بجانبه فتضخ المياه من البئر إلى البركة ومنها إلى عمالات تسيّر المياه نحو الحفر المحفورة حول أشجار الحمضيات. يخطر ببالي مشهد زي البياري بالقمباز أو الشروال تكون قدمه اليسرى مغطاة واليمنى مكشوفة (متشمرة) يضعها في الحفرة حول الشجرة أثناء الحفر والري، فتبقى كذلك طول النهار، وفي نهايته نجد اختلافًا في لون البشرة بسبب أشعة الشمس على القدم المكشوفة. فتكون الأرض والبئر والبركة وطريقة الري مصدر الاسم.

الحمضيات هي نبتة مثمرة تم احضارها إلى أرض فلسطين من الهند وشرق آسيا على يد الفاتحين العرب في القرن التاسع. وسميت بالحمضيات بسبب الطعم الحامض في مذاقها. وعرف البرتقال في السابق باسم البرتقال البلدي (يوسف أفندي) كما كان يطلق عليه في مصر وهو برتقال صغير الحجم ودائري وطعمه يميل للحموضة. أمّا اليوم، فلدينا العديد من الأصناف المعروفة كأبو صرَة والبلانسيا ودم الزغلول والخشخاش أو ما يسمى بالترنج والكلمنتينا البلدية والأصناف الكثيرة والمتعددة والجريفوت بأنواعه وألوانه وغزارة عصيره والبوميلة القادمة من جمايكا. وعلى رأس كل هؤلاء البرتقال الشموطي أو ما يطلق عليه اسم برتقال يافا (Jaffa oranges) الذي اشتهر في جميع أنحاء العالم وما زال حتى يومنا هذا. أطلق اسم شموطي على هذا الصنف من البرتقال بسبب شكله الذي يشبه زجاج الفانوس الذي كان يستعمل من قبل الصياد اليافاوي في عملية الصيد الليلية،

يختلف الشكل من دائري إلى مطول ومكوَر يميل إلى البيضوي حجمه أكبر وقشرته سميكة ومتجعدة، وهو سهل التقشير ومذاقه حلو يحتوي على كميات كبيرة من السكر. تمَّ اكتشاف هذا الصنف من الحمضيات لأول مرة في يافا وبالتحديد في سكنة أبو كبير (سكنات يافا أقيمت في عهد إبراهيم باشا بعد احتلاله ليافا عام 1831، حيث طلب من جنوده عند السكن مع سكان المدينة وإقامة هذه السكنات نذكر منها: أبو كبير، وسكنة درويش، وتل الريش، والتركي، كلها تقع في الجهة الشرقية من يافا ما بين المدينة وبياراتها أو كما سبق وقلت بين الجنة والروضة. كان ذلك عام 1856 فكان هذا الحدث بمثابة الفانوس السحري الذي قلب الموازين في مدينة يافا التي تربعت فيما بعد على عرش أبرز مصدر للحمضيات في العالم، وليتحول البرتقالي الشموطي اليافاوي إلى سفير يافا وفلسطين في كل دول العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى