أخبار رئيسيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

أفيف كوخــافي، الجيش الأخلاقي ونظرية القتل

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

 

من الأقوال المشهورة عن موشيه ديان إنّ إسرائيل قامت وستبقى قائمة على حد السيف، أي أنَّ معطى وجودها مرتبط بالقوة، وهي مقولة آمنت بها الأطياف السياسية والعسكرية على حد سواء، ولا تزال بروتوكولات “المباي” و”حزب العمل” تكشف عن هذه السياسة المرتبطة بالقوة وتعظيمها، وما إنشاء المفاعل النووي في العهد البنغريوني إلا من بيانات هذه العقلية وقناعاتها. ومن الطبيعي أن يكون الجيش هو المؤسسة التي تعمل على تحقيق هذه القناعة وتطويرها المستمر، حيث تعاظمت وبقوة بعد حرب رمضان عام 1973 حين قارب الهيكل الثالث على الزوال- وفقًا لوصف موشيه ديان وبعض القيادات العسكرية لمجريات الحرب آنذاك-، حيث اعتبر موشيه ديان إسرائيل هي الهيكل الثالث مُتأثرًا من دراساته التوراتية والتناخية. وقد استمرت سياسات تعظيم القوة مع كافة من قادوا الجيش الإسرائيلي والى هذه اللحظات، ولا يكاد قائد هيئة أركان إلا وقدَّم تصوراته ورؤيته للجيش راهنه ومستقبله برسم اعتباره الجدار الحديدي الحامي للهيكل الثالث كما في لغة العلمانيين الإسرائيليين.

في سياق أخلاقيات الجيش و”الكود” الأخلاقي الذي وضعه آسا كشر، ذكرت قناة 11 الإسرائيلية في نشرتها المسائية يوم الثلاثاء الفائت، الى أنه بين أعوام 2019 وحتى إذاعة التقرير، لم يتم محاكمة سوى جندي واحد قتل فلسطينيًا، علما أنَّ مئات الفلسطينيين قتلوا خلال هذه السنوات من المدنيين وبدم بارد وذلك دعمًا من الجيش للقتلة برسم تبنيهم سياسات القوة والبطش والقتل وحماية القيادة العامة لمنفذي العمليات، كيفما كانت وإن جبت أبرياء ففي الحرب يدفع الأبرياء والمدنيون الاثمان.

يعتبر أفيف كوخافي من أكثر القيادات العسكرية شراسة في تاريخ القيادات العسكرية الإسرائيلية بسبب أعماله وطروحاته العسكرية، وهو الذي قدَّم نظريته العسكرية الداعية لتعظيم القوة العسكرية بكافة مستوياتها وبكافة الوسائل عبر تعظيم القتل والفتك “بالعدو” بقوة هائلة، متعمدًا ضرب وقتل المدنيين باعتبارهم أهدافًا مشروعة في حربه على العدو ومقدمات هامة لتدمير معنويات المقاتلين خاصة وأن إسرائيل لا تحارب في العشريات الأخيرة جيوشًا، بل تحارب تنظيمات وفصائل كما هو الحال مع شعبنا الفلسطيني في الضفة والقطاع ومع حزب الله في لبنان.

طبَّق كوخافي نظرية القتل العمد والإبادة المنظمة على مخيم جنين، ففي مطلع نيسان من عام 2002 بعد معارك ميدانية خاسرة مع الفدائيين في مخيم جنين، بادر لإطلاق نظريته الداعية لقتل المدنيين كأداة لإضعاف وقتل المقاتلين، فبادر آنذاك إلى تدمير المخيم بقصف المنازل وقتل من فيها من المدنيين، مرتكبًا جرائم حربٍ ولم يتجرأ أحدٌ من العرب والعجم على مساءلته، بل أصدرت جامعة الدول العربية في التاسع والعشرين من آذار ذاك العام، المبادرة التي أطلقها الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز “مبادرة السلام العربية”، والتي ضرب شارون بها عرض الحائط، وقد وصف منسق الأمم المتحدة في الشرق الأوسط آنذاك تيري رود لارسن، ما شاهده في المخيم بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي وتسوية المنازل بالتراب بما يلي: “إن الوضع في مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين مذهل ومروع لدرجة لا تصدق، إن الروائح الكريهة المنبعثة من الجثث المتحللة تحوم في أنحاء المخيم، يبدو كما لو أنه تعرض لزلزال، شاهدت فلسطينيين يخرجون جثثًا من بين حطام المباني المنهارة، منها جثة لصبي في الثانية عشرة من عمره، أنا متأكد بأنه لم تجر عمليات بحث وإنقاذ فعلية”.

من المهم أن نذكّر القراء الكرام، أن هذه المعركة التي كانت معركة كسر عظام وحرب إبادة شاملة شاركت فيها طائرات الاباتشي والكوماندوز والدبابات الإسرائيلية، انتهت بارتقاء ثمانية وخمسين شهيدًا، إلى جانب جرح واعتقال المئات، وتدمير 455 منزلًا تدميرًا كاملًا، و800 منزلًا بصورة جزئية واعترف جيش الاحتلال بمقتل 23 من جنوده، بينهم 14 قتلوا في يوم واحد جراء كمين للمقاتلين الفلسطينيين (انظر: موقع بوابة اللاجئين الفلسطينيين، 18 عامًا على معركة جنين).

 

جيش فتاك مهني ومبتكر وغير أخلاقي..

أراد كوخافي أن يبني جيشًا قويًا فتاكًا ومميتًا معتمدًا سلسلة من الأدوات التي قام على إنشائها لتحقيق هذه الغاية، وعمل دائمًا على تحقيق سياسات الأرض المحروقة، متعذرًا بأن جيشه جيش أخلاقي ومهني ويخضع لمعايير وقواعد في القتال، معتبرًا بناء على هذا التصور انَّ المدنيين من الفلسطينيين واللبنانيين هم حاضنة تحمي هؤلاء المقاتلين وبالتالي يصبحون أهدافًا شرعية باعتبارهم مقاتلين وثمة أبعاد أخلاقية تبرر هذه الجرائم.

أثار أفيف كوخافي جدلًا فور توليه منصب رئيس الأركان في يناير 2019، ففي حفل تعيينه، تعهد بجعل الجيش “جيشًا فتاكًا ومميتًا وفعالًا ومبتكِرًا”. ولأول مرة في تاريخ العسكرية الإسرائيلية تكون من أهداف المستوى العسكري جعل الجيش جيشًا قاتلًا وقد سعى لتحقيق هذا الهدف في حربه عام 2021 على غزة، إذ سعى للتحايل على المقاومة وحصرهم في خنادق حفروها ومن ثم قتلهم، وكانت النتيجة كما هو معلوم على غير ما أراد، فالجيش الفتاك والمميت ظهر ضعيفًا أمام المقاومة وبات هذا الجيش يحاول حسم معاركه ليس بفضل المشاة والمدفعية والدبابة، بل بفضل الطائرات والسايبر العسكري وهو ما يُحسب له في هذه المرحلة.

كشفت حربه الأخيرة المسماة “كاسر الأمواج” مع المقاومين في الضفة الغربية والتي انطلقت في آذار من هذا العام عن سياسات القتل الميداني للفلسطينيين لمجرد أنهم فلسطينيون، ولذلك فإن سياسة القتل التي يمارسها جيشه بحق المدنيين تتقاطع وسياسة اليمين الإسرائيلي الذي يحكم البلاد من سبعينيات القرن الماضي، ولا يريد تحقيق سلام مهما كان مستواه مع الفلسطينيين اللهم إلا إذا استحال الشعب الفلسطيني عبيدًا في بيوت اليمين وغلاته.

عمليًا، افيف كوخافي يتماهى مع الشعبوية الإسرائيلية وحالتي التطرف والفاشية التي باتت تفرض أجنداتها على الشارع الإسرائيلي والواقع الفلسطيني خاصة في معطى العلاقة مع الفلسطيني فردًا وجماعات، فالبندقية والاباتشي والطائرات بدون طيار والزنانات وجيش الليل ومعه المخابرات والعملاء، والقتل العمد للمدنيين، هي عناوين هذه المرحلة. لذلك فكوخافي ينفذ سياسات اليمين وفي مقدمتهم حزب الليكود والأحزاب الدينية على اختلاف مسمياتها الرافضة إلى التوصل مع الفلسطينيين إلى قيام دولة أو دويلة ولو على جزء من الأراضي الفلسطينية، وذلك اعتمادًا على منطق القوة الذي تتمتع به أجهزتها الأمنية والعسكرية والخلفيات الأيديولوجية والدينية الثاوية في عقليات ورؤى القيادات الحاكمة لإسرائيل. لذلك، ليس مستغربًا أنه مع بدايات الانتفاضة الفلسطينية هذا العام، انطلقت حملة “كاسر الأمواج” مكملة لحملات القتل المتعمد للفلسطينيين عام 2018 يوم كانوا يتظاهرون أمام الجدار العازل في قطاع غزة وقتل القناصة أكثر من 180 مدنيًا من بينهم 35 طفلًا.

 

لقد تحول الجيش إلى الأداة المكملة لهذه السياسات في محايثات العلاقة مع الفلسطينيين، وذلك باعتبار أن الجيش وما يملكه من قوة تقنية الذراع- بألـ التعريف- للحل “السياسي” المُؤسَس على نظرية القتل والترهيب والإرهاب السلطوي.

ومن هنا يمكننا فهم العمليات اليومية التي لا تتوقف في الضفة الغربية، فقد انتقل الجيش في العشرية الأخيرة وتحديدًا في عهد كوخافي إلى جيش مهمته ضبط الأمر في الضفة الغربية يساعده في ذلك قرابة 72 كتيبة من حرس الحدود وجيش من المخابرات العامة والعملاء، وذلك انطلاقًا من التصورات الأيديولوجية اليمينية للضفة الغربية بكونها تشكل جزءا من أرض إسرائيل، ومهمة الجيش حماية هذه الأرض والامساك بها إلى حين تحريرها والتخلص من الفائض البشري الساكن عليها.

كشف استطلاع للراي أجراه المعهد الإسرائيلي للديموقراطية على حجم التحولات الفاشية الجارية في المجتمع الإسرائيلي والذي يتشكل الجيش منه. ففي سؤال حول ضرب الجيش للتجمعات المدنية الفلسطينية بالآليات الثقيلة حتى تبقى آثارها راسخة في المجتمع الفلسطيني إذا ما استفزت المقاومة إسرائيل، أبدى 27.5% من المستطلعين-عام 2018- موافقتهم على ضرب التجمعات الفلسطينية المدنية ليرتفع عام 2022 إلى 45.5%. وفي سؤال حول موافقتهم على أن يراعي الجيش قوانين الحرب الدولية إذا ما شنّ حربًا على الفلسطينيين أشار بالموافقة- عام 2018- 80%، ليهبط عام 2022 إلى 63%. وهذه التحولات الجارية ستترك آثارها على الجيش وستكون من مهمات القائد القادم هارتسي هليفي الذي سيكون القائد العام في الشهر القادم خلفًا لكوخافي، عبر الاستمرار في سياسات تعظيم القتل والفتك بالفلسطينيين ودفعها لتصبح سياسات رسمية في الجيش الأكثر أخلاقيًا كما يزعمون، والمتعرض راهنًا لعديد التحديات الداخلية في الجيش وفيالقه المختلفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى