مقالات

الأقصى بين دموع صلاح الدين وابتسامات الخائنين

الشيخ كمال خطيب

إنه ذلك الموقف الذي كتبه التاريخ بأحرفٍ من نور، يحكي قصة شرف وموقف رجولةِ وقفة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، وقد لفَتَ عَبوسِه ووجومُه وحُزنه أنظار مرافقيه، ومن كانوا دائما في صحبته ليسأله أحدهم ( مالك لا تضحك يا صلاح الدين، ولماذا لا تبتسم يا صلاح الدين؟). كان هذا السؤال رغم انتصارات كثيرة حققها صلاح الدين، ورغم انجازات عسكرية لافتة، لكنها كلها كانت بالنسبة له لا تساوي شيئًا، ولا تعتبر إنجازًا ما دام لم يحقق هدفه الأساسي الذي أشار إليه بجوابه لمن سألوه عن عدم ابتسامته فكان يقول (إني استحي من الله أن أضحك وما يزال المسجد الأقصى محتلًا بيد الصليبيين).
حتى كان اليوم الذي فيه سجل صلاح الدين أهم انتصاراته في معركة حطين، وقد مرّغ أنوف ملوك أوروبا في التراب وجلسوا أسرى بين يديه. ثم كانت وجهته بعدها الى القدس فحرّرها وقدّم المنبر الذي بناه نور الدين زنكي رحمه الله للمسجد الأقصى، إذ عندها عادت الابتسامة لصلاح الدين وانفرجت أساريره.
استوقفني كثيرًا هذا المشهد للفارس النبيل والقائد الشهم، الذي يخجل من ربه ومن نفسه أن يبتسم ما دام أقصى المسلمين قبلتهم الأولى ومسرى نبيهم صلى الله عليه وسلم بيد الصليبيين الإفرنج المحتلين. واستوقفني أكثر ما نراه ونشاهده هذه الأيام ونحن نرى الملوك والرؤساء والأمراء العرب والمسلمين ممن يضحكون ملء أشداقهم، ويبتسمون ابتسامات عريضة بل ويرقصون ويلوّحون بالسيف مع الرئيس الأمريكي ترامب، بينما المسجد الأقصى المبارك شقيق المسجد الحرام والمسجد النبوي أسيرًا وحزينًا مهانًا مُدنسًا من قبل الاحتلال الصهيوني.
استوقفني مشهد وقصة هذا البطل الكردي المسلم، إذ رغم قوة شخصيته وصلابة موقفه يرسل الرسائل إلى الأمراء والملوك من مغروري أوروبا الإفرنج، يحذرهم فيها من استمرار التدنيس للمسجد الاقصى وأن الجواب عنده كان ما سَيَرَون لا ما يسمعونه. استوقفني صاحب هذه الرسائل الحازمة، لكنها الرسالة التي أبكته وأسالت دموعه بل وحولته الى طفل يغرق في دموعه، إنها الرسالة التي وصلت إليه وقد كتبها أحد أهالي القدس المحاصرة المحتلة المدنسة، يكتبها على لسان المسجد الأقصى الأسير يقول فيها :
يا أيها الملك الذي لمعالم الطغيان نكس
جاء اليك ظُلامة تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طهرت وأنا على شرفي أدنس
فما بال الزعماء والأمراء، أصحاب الجلالة والفخامة لا تحرك نخوتهم ولا شهامتهم رؤية المسجد الأقصى يستباح ويدنس ويهان. ما بالهم تتبلد مشاعرهم وتتبدد بقايا نخوة فيهم وهم يرون الحرائر الفلسطينيات يقفن على أبوابه فيعتدي عليهن علوج الاحتلال الإسرائيلي ضربًا وقذفًا وشتمًا وسحلًا.
مررت على المروءة وهي تبكي فقلت علام تنتحب الفتاة
قالت، كيف لا أبكي وأهلي جميعًا دون خلق الله ماتوا
ما بال أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة، وهم الذين اشتهروا بكثرة وإتقان بيانات الشجب والتنديد والاستنكار فيما مضى ضد السياسات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني والمسجد الأقصى. ما بالهم وقد انخرست ألسنتهم وانعقدت الحروف في شفاههم، فلا نسمع لهم همسا. ما بالهم حتى البيانات الميتة والسخيفة قد عزّت عليهم وأصبحت عملة نادرة نتمناها ونبحث عنها فلا نجدها.
ما بال من سمّى نفسه رئيسًا لفلسطين وإذا به يتودّد إلى نتنياهو معزّيًا بقتل الشرطيين، وكان الواجب عليه أن يعزّي الشعب الفلسطيني بكارثة إغلاق المسجد الأقصى واستباحته وتدنيسه بما لم يحصل طوال خمسين سنة مضت.
ما بال خادم االحرمين الشريفين في السعودية يتجاهل أن هناك حرمًا شريفًا آخرًا اسمه المسجد الأقصى، شقيق المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، حرمٌ يدنس وينتهك ويراد له أن يصبح هيكلًا، وقد أُخرس فيه صوت الأذان ومُنعت فيه صلاة الجمعة. ما باله لا يشغله ذلك وهو يستعد لرحلة نقاهة الى المغرب يصطحب معه الطائرات واليخوت وأساطيل السيارات وآلاف العاملين والخدم والحشم. ما باله يجد وقتًا للاستجمام وتطيب نفسه لذلك والمسجد الأقصى تحت الاحتلال الصهيوني، بينما صلاح الدين يكتم بسمته ويستحي من الله أن يضحك بينما المسجد الأقصى ما يزال بيد الصليبيين.
ما بال أصحاب العمائم السوداء في إيران وآيات الله من الذين زعموا بأن لهم جيشا أسموه جيش القدس، قد أعدوه لتحريرها وفتحها وتخليص مسجدها، ما بالهم ضلّوا الطريق وتاهت بوصلتهم وإذا بجيش القدس هذا يحتل دمشق، يدمر حلب، يهدم الموصل، يحتل صنعاء ويكتم أنفاس بيروت. فهل أسلحتكم وصواريخكم فعلًا لتحرير الأقصى أم لتصدير الثورة الشيعّية أم لتدمير حواضر الإسلام، وأنتم تنسقون وتتوافقون مع الأمريكان في العراق ومع الروس في سوريا.
لقد استوقفتني قصة البطل المؤمن صلاح الدين وهو يخوض المعارك تلو المعارك في مصر ضد الفاطميين العبيديين الشيعة، وقد فتحوا مصر وشرّعوا أبوابها لتسهيل عبور جيوش الصليبيين، وفي الشام ضد الأمراء العملاء الفاسدين، لا يهمهم سوى الحفاظ على عروشهم وكراسيهم وهم ينشغلون في معارك وحروب مع بعضهم، فقاتلهم وأدّبهم وأراح البلاد والعباد من خياناتهم. إنه الذي كان كلما رجع من يوم قتال خلع ملابسه ونفض ما علق عليها من الغبار وجمع ذلك الغبار كله في كيس، أوصى أهله إذا مات أن يضعوا كيس الغبار هذا تحت رأسه في قبره، فلما سألوه وماذا يفعل كيس الغبار معك ؟ قال: حتّى إذا جاء الملكان يسألانني في القبر من ربي وما ديني فيريان كيس الغبار هذا فيسألاني عنه، فأقول لهم إنّه غبار الجهاد في سبيل الله، فلعلّ الله أن يغفر لي ويرحمني ويخفف عني عذاب القبر وعذاب النار بفضل قتالي وجهادي في سبيل الله.
ماذا يقول أصحاب الرّتب والنياشين من جنرالات الشعارات البرّاقة؟ ماذا يقول المشير السيسي؟ وماذا يقول وزير الدفاع السعودي محمد بن سلمان؟ وماذا يقول الفريق بشار الأسد وماذا يقول غيرهم؟!! .
هذا العقيد وذا العميد وذا الفريق المارشال
رتبٌ وتيجانٌ لمن خاضوا المعارك في الخيال
وعلى صدورهم نياشين القتال ولا قتال
ماذا يقول أشباه الرجال هؤلاء، الذين لم يخوضوا معارك إلا على شعوبهم أو على أبناء جلدتهم، بينما لم تتجاوز معاركهم مع الأعداء الحقيقيين إطلاق البيانات التافهة وحتى سلاح التهديد بعقد مؤتمر قمة عربي طارئ تدعو اليه الجامعة العربية، ومع أنه سلاح خائب ولا قيمة له، ومع ذلك فلم نراهم ولم نسمعهم يهددوا به لتظل القدس على وحدتها تتجرع وحدها دموع حزنها، وتتلوى حرقة وألمًا على عرب ماتت نخوتهم. إنّها القدس:
فضّوا بكارتها داسوا كرامتها وهام في مقلتيها البؤس والعدم
جزّوا ضفائرها وهدّوا منابرها وفي آذاننا عنها بها صمم
نادت وامعتصماه أدرك عقيلتكم قال الأشاوس نامي مات المعتصم
لكن هناك البديل الفذ في يدنا حتى يسود الحق والعدل والسلم
مباحثاتٌ وتصريحٌ ومؤتمرٌ كذا عناق يليه الوعد والقسم
وإن تمادى العدا فالحل مؤتمرٌ ضخمٌ لنشجب ما عاثوا وما أثموا لكنّه حال الأمة بما هي عليه من فرقة وشتات وعداوات، جعلت حتى مؤتمرًا صوريًا أمرًا غير واردٍ، لينفضح أمر هؤلاء المهازيل الذين لولا تواطؤهم وصمتهم المريب، بل ولولا أنّ تواصلًا خفيا بينهم وبين المؤسسة الإسرائيلية تمهيدا لعلاقات دبلوماسيّة وتطبيع علاقات، لما كان من المؤسّسة الإسرائيلية أن تذهب بعيدًا في صلفها وتماديها بانتهاك حرمة قدس أقداس المسلمين والعرب، المسجد الأقصى.
إنّه التّاريخ يحكي لنا قصة رجال صادقين عرفوا قيمة القدس وعرفوا مكانتها، فقدّموا لأجل القدس أرواحهم ودماءهم إكرامًا للقدس وللمسجد القدس وللنبي صلى الله عليه وسلم الذي أُسري به إلى القدس. وإنه التاريخ يحكي لنا قصة أشباه رجال ماتت كرامتهم وهانت عليهم أنفسهم، فأداروا للقدس ظهورهم وصمّوا عنها آذانهم وتركوها أسيرة يعبث المحتلون بطهرها وشرفها، لا لشيء إلّا لأن أشباه الرجال لا يقدرون على فعل الرجال، لا بل إنّهم لا وظيفة لهم إلا التفريط والتضييع لإنجازات الرجال والعظماء.
وعاشوا سادةً في كلّ أرض وعشنا في مواطننا عبيدا
إذا ما الفسق حلً بأرض قوم رأيت أسودها مُسخت قرودا
إنّها القدس الشريفة لا يحرّرها إلّا الشرفاء، وإنّها طاهرة لا ينتصر لها إلّا الأطهار، وإنّها حرّة لا يقوم بإغاثتها إلّا الأحرار. أما العبيد فإنّ وظيفتهم خدمة أسيادهم. إنّ نصرة القدس والأقصى شرف لا يستحقه هؤلاء الصغار.
لكنّها القدس وكما ظلّت أسيرة مكلومة تنظر كلّ يوم عبر الأفق البعيد ومن بين شقوق أسوارها قدوم فارسها، حتى سمعت ذات يوم صهيل جواده وتكبيرات جنوده، عندما جاءها الرجال بعد تسعين سنة ليزيلوا عن طهرها دنس الاحتلال الصليبي،صلاح الدين عاشق حريّتها بل وحامل منبر مسجدها يقدمه لها يوم الفتح هدية له .
وإنّها القدس الأسيرة من جديد، وإنّها القدس المكلومة، المجروحة المصدومة من بلادة بعض أدعياء النسب إليها. ها هي كلّ يوم ترسل رسائل استغاثة، وتنظر من شقوق أسوارها علّها تسمع صوت فارسٍ شهم من جديد، يقول لها لبيك لبيك. لكأنّي بالقدس وبفطرتها وكعادتها بدأت تشم رائحة مجدٍ قادم وعبق نصر قريب. لكأني بها راحت تنبض بالحياة وتدبّ فيها الرّوح وهي تتهيأ لاستقبال صهيل خيولٍ أصيلةٍ وتكبيرات تملأ الأفق تطهّرها من دنس احتلالٍ صهيونيٍ غاشمٍ جَثَم فوق صدرها منذ خمسين عامًا ولسان حالها يقول:
قد عفّر الوغد وجهي بالدم القاني ومزّق العلج أثوابي وأدراني
فصحت علّ صلاح الدين يسمعني أوعلّ حيدرة الفرسان يلقاني
أين السيوف التي في كفّ معتصم صالت على البغي من فرسٍ ورومان
حتى بدا فارس يزهو بلامَتِهِ وراية الحق قد خفت بفرسان
قلت من أنت قال الله غايتنا والمصطفى قائدٌ والزحف ربّاني
قولوا لمن ظنّ أنّا لن نعود لها قد خاب ظنّك وسوسًا لشيطان
فتزنّري بالصبر يا قدس، فوالله إنّ فجرك يوشك أن يطلُع.وكفكف دموعك يا أقصى، فقريبًا سترى من يمسك بمنديل المجد يمسح به دموعك وإلى الأبد بإذن الله.وإن غدًا لناظره قريب.

رحم الله قارئا دعا لنفسه ولي ولوالدي بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى