أخبار عاجلةمقالات

المثقّف المأجور وأمّة الإسلام

محمد شباط

يُعتبر التّشخيص الخطوة الأولى التي يتّخذها الطّبيب في محاولته معالجة أيّ حالةٍ تصل إلى عيادته، والتّشخيص الصّحيح ضرورةٌ تمهّد الطّريق أمام الطّبيبِ لكي يتمكّن من معرفة حالة المريض وبالتّالي التّعامل معها بأنجع الطّرق.

ولأجلِ تشخيصٍ صّحيح يتجّه الطّبيب إلى الاطّلاع على التّاريخ الصحيّ للمريض؛ ليرى أين ساءت حاله. ثمّ يطرح الأسئلة ليعلم مسبّبات السّقم وآثاره على المريض، ثمّ يطلب معرفة بيئة حياة هذا المريض الآنيّة فيقارن بين الحالتين ويضع المفارقات تحت الملاحظة الدّقيقة لكي يكسب نظرةً أوسع لتلكَ الحالة؛ والتي تعينه على اتّخاذ أحسن سبلِ العلاج وأبعدها عن الزّلل الذي قد يودي بمريضهِ إلى التّهلكة، ومن ثمّ فقط يعقد العزمَ على البدء بالعِلاج، لأنّه يُدرك أنّ الصّبر على المرضِ في سبيل امتلاك المعطيات التي تُبين له المسلك الصحيح، أهون من العجلة في تقديم العلاج غير المناسب ومعاينة الأضرار التي ستطرأ على حالة المريض بعد ذلك.

وإنّ المجتمعات والأُمم لتمرض كما يمرض الفردُ منّا، ولهذا أسبابٌ أكثر من أن يشار إليها بالبَنان، وقد أكرمنا المؤرخون بتدوين الأخبار ونقلها إلينا في صحائف تحمل أنباء المشاكل وفنون الحلول، وتُبرِزُ عبقريّة العقل البشريّ في الإبداع في طرحها وصدقهُ بالاجتهاد في السّعي وراءها لترقية المجتمعات من الانحطاط، ودفع عجلة عربتها خارج المُستنقعات التي وقعت فيها مِرارًا وتكرارًا تأويلًا لقوانين الدّهر التي تُعمل في المجتمعات الإنسانيّة أعمالها فلا تُغادرُ منها أحدا. وقد كان الأطبّاء في تلك اللحظات في الغالب من المفكّرين المحلّيّين الّذين تكبّدوا الجهد في سبيل التقاط ثمار المعرفة، وكان لهم من سعة الاطّلاع ما يعادله من سعة الأفق، ومن العِلمِ الغزير ما يواطئهُ من حُسن التّدبير؛ فشّخصوا الحالات أحسن تشخيص وطرحوا حلول السّابقين بصيغةٍ تلائم مشكلاتِ العصر أحيانًا وأبدعوا في إيجاد حلولٍ لم يُسبقوا إليها أحيانًا أخرى، ودرسوا مواطن السّقوط فعرفوا أسبابها وتشاوروا في كيفيّة الصّعود؛ فنجح قسمٌ وفشل آخرون. ولم نقرأ يومًا في تاريخ هذه الأمّة العريض أنّ مفكّريها وعلماءها قرّروا في ليلةٍ وضحاها أن يتنكّروا للقيم التي قامت عليها هذه الأمة ونشأت وترعرعت حتى نالت المجد العلميّ والحضاريّ والأخلاقيّ قبل أن تلج في المنحدر الأخير الذي لم تخرج منه بعد. وعلى الرّغم من مرور هذه الأمّة بالعديد من التّحديات العِظام والمشكلات الجِسام؛ فقد أثبتت مرّة تلو الأخرى أنّها قادرةٌ على التّشافي ممّا ألمّ بها من الأسقام والعِلَل؛ مستمدّةً إيمانها من أسلافها ومحافظةً على قيمها الّتي فرّقت بينها وبين سائر الأمم على سطح الغبراء.

وقد غابَ عن مدّعي الإصلاح الجُدد من أهل التّنويرِ ومن شابههم أنّ الظّاهرَ من اللّمعان لا يخدع إلا المغرور الأرعن، وأنّ سراب الواحة لا يروي الظمآن للماء العذب الزُّلال. وفي واقع أمّتنا العصيب الذي عصفَ بها من قمّة الأمم إلى أدناها، مُعملًا فيها سُنّة التّدافع التي لم تترك أمّةً بعد علوٍّ إلّا ودفعتها يدُ الزّمانِ لتحلّ محلّها أخرى، وبعد ترك هذه الأمّة لوسائل السموّ وأسباب رجاح الكفّة لصالحها.

أنجبت هذه المصائب في واقع الأمّةٍ رتقًا لا يواريه راتق، واشتعلت الحيرة في صدور العِباد وأحدثت هذه السّقطة بسقوط دولة العثمانيّين واقعًا جديدًا في الرّبع الأوّل من القرن المُنصرم؛ حين استيقظت الأمّة لتجد نفسها قد تأخرت عن ركبِ الأمم تأخّرًا ملحوظًا ولاقت هوّةً عظيمةً بينها وبينها، وأخصّها أمم الغرب التي أنشبت مخالبها في شرقِنا الإسلاميّ ونحن ننظر إليهم في ذهولٍ ودهشة. وفي لحظات حاجة هذه الأمّة الماسّة لالتفافها حول نفسها لتلعق جراحها وتداري سوءتها لكي تبدأ بطرحِ المشكلاتِ استعدادًا لإيجاد الحُلول؛ جاءنا الاستعمارُ وأهلهُ بداءٍ جديدٍ على هيئةِ زُمرةٍ من الضّالّين الباحثينَ عن المالِ والمنصبِ والسُّمعة وجنّدتهم لتفتح بابِ حربٍ آخرَ لَم يُغلق حتّى اليوم، وتلكُم حربُ الوعي.

كثّف الباحثون المُسلمون خلال القرن الفائت والحاليّ الحديث في شأنِ الوعي، وليس هذا من باب التّقليدِ ولا هو لقلّةِ الموضوعات الأخرى التي تستحقُّ الحديثَ عنها والبحثَ فيها وتبيينها؛ ولكنّهُ لأهميّةِ هذا الموضوع على بقيّة المواضيع. في حديثه صلّى اللهُ عليه وسلّم قال: “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن.” ولهذا هذا الحديث الشريف المبارك دلالاتٌ عديدةٌ نكتفي منها بجزئيّةِ غياب الإيمان عن المؤمن حين يرتكب هذه المعاصي والآثام الكبيرة، وهل يغيبُ إيمانُ امرئٍ ووعيهُ معه؟ كلّا؛ فالإيمانُ وإن كانَ حالةً قلبيّةً فإنّما يُسيّرهُ العقلُ حين يسيطرُ الإنسان بهِ على أهوائهِ ورغباتهِ ويُسلّطهُ عليهما، وهذا ما يجعلُ الإنسانَ مميّزًا بين المخلوقات الأخرى، فإذا غابَ عنهُ وعيُهُ بحالهِ صار قادرًا أن يرتكب الزّنى ويشربَ الخمرَ ويمدّ يده للحرام بلا رادع. وإنّ من أهلِ الغرب من عرف هذا؛ ليبني سياستهُ الاستعماريّةَ المُستمدّةَ من فِكرهِ العُنصريّ على أسس تغييبِ الوعي ودثر العقيدةِ لدى كافّة ضحاياهم، ومنهم المسلمين.

في مقدّمته يشير ابنُ خلدون –رحمه الله- إلى سِمة العصبيّة لدى الأُمم، وينوّه إلى أنّ غياب هذا الطّبع من أيّ أمّة يعني غيابَ شراستها ومطالبتها بالتقدّم، وفي وضعنا يعني توقّفها عن طلب التّحرّر من أيدي الغاصبينَ والطّغاة. وهنا يأتي دورُ كيّ الوعي الإسلاميّ بأوامر غربيّة وأقلامٍ عربيّة؛ إذ صار بين صفوفنا من يدّعونَ أنّهم مِنّا ثمّ يعيثون في تراثِ أمّتنا فسادًا، مشكّكينَ بصحّة تفاسير القُرآن وصِحاح الأحاديثِ وناشرينَ هذا القيء الفكريّ بين عوام المُسلمين دافعينَ إيّاهم للوقوع في دوّامةِ حَيرةٍ سحيقةٍ ما عادت تعالجُها النّدواتُ الإيمانيّةُ كما كان معهودًا، ليتكوّن لدينا مجتمعٌ تائهٌ أكثرهُ ضلّ السّبيل وبعضهُ انسلّ من الدّينِ بفعلِ هذه الزّمرةِ المخرّبةِ المُفسدة. وليس لأمّةِ الإسلامِ قيامةٌ إلّا بالأخذِ بالأسبابِ التي جاء بها النبيّ الأكرم هاديًا ونذيرا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى