إبكِ يا حبيب وكلكم أحباب

الشيخ كمال خطيب

إنها رسالة من محب إلى كل الذين أحبهم…. إلى كل الذين أريد وأتمنى لهم في الدنيا عيش الأخيار… وفي الآخرة العتق من النار… رسالة إلى كل من صدّقوا مثلي وآمنوا أن لا خوف على الإسلام لأن المستقبل -والمستقبل القريب- له بإذن الله تعالى، لأن الله ناصره وحافظه.

ولكنه الخوف ثم الخوف على هذه النفوس من أن تزيغ وتعصي فتكون في الآخرة حطب جهنم. إنه الخوف الذي يجعلنا نشمّر عن ساعد الجد والعطاء والبذل والعبادة، ومع هذا كله فما أعظم أن نريق دمع الأسف على قبيح الذنب لأن أنجح المراهم لجراحات الذنوب هو البكاء.

 

فابك يا حبيب وكلكم أحباب..

إذا قال العبد إلهي عصيت، يقول الله عز وجل وأنا رأيت، فإذا قال العبد إلهي بالفضول نطقت، يقول الله عز وجل، عبدي وأنا سمعت، فإذا قال العبد إلهي وإلى الحرام نظرت، يقول الله عز وجل، وأنا شهدت، فإذا قال العبد إلهي تبت، يقول الله عز وجل وأنا يا عبدي قبلت.

 

فابك يا حبيب وكلكم أحباب..

كن مثل تلك الفتاة التي لقيها ذلك الصالح، فقال لها: من أين ؟ قالت من عند الحبيب، فقال لها: وإلى أين؟ فقالت: إلى حيث الحبيب. فقال لها: ما الذي تريدين من الحبيب؟ فقالت: ما يفتر لساني عن ذكر الحبيب ولا يجفّ مدمعي شوقًا إلى الحبيب حتى ألقى الحبيب.

 

وحرمة الود ما لي عنكم عوض            وليس لي في سواكم بعدكم غرض

ومن حديثي بكم قالوا: به مرض            فقلت : لا زال عني ذلك المرض

 

فيا ليت شعري، ما اسمي عندك يا علام الغيوب؟ وما أنت صانع بذنوبي يا غفار الذنوب؟ وبم تختم لي عملي يا مقلب القلوب؟ فوعزتك إني أحبك، فوعزتك لو ألقيتني في النار يوم القيامة لأحدّثن أهل النار أني أحبك، ولكني سأظل أبكي… وكيف لا أبكي وأنا الذي سوّدت كتابي بالخطايا والسيئات، ولكني سأظل أبكي لأنك أنت الذي قلت لداود عليه السلام عليك بالبكاء فإنه يمحو السيئات ويثبت الحسنات، فبحرمة ما قد كان بيني وبينك إلا غفرت لي.

 

فابك يا حبيب وكلكم أحباب..

كن بين يدي مولاك سبحانه كمن يسلك سلوك الأطفال، فإن الطفل إذا طلب من أبيه شيئًا وأراد تحصيله فإنه يبكي ويلح بالبكاء، فإذا قمت بين يدي مولاك فابعث إليه برسائل الأحزان مخطوطة بدموع الليل وآهات السحر، واكتب قصة الندم بمداد الدمع، وابعثها مع ريح الزفرات لعلّ الجواب يصل إليك {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الحجر 49 أو لعلّ الجواب يكون: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} آية 53 سورة الزمر. فيا جامد الدمع اليوم، غدًا تدنو الشمس من الرؤوس فتنفتح أفواه صمام العروق، فتبكي كل شعرة فيك، ولكن يومها لا ينفع البكاء {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} الزمر 56.

 

الماء عندك مبذول لشاربه     وليس يرويك إلا دمعة الباكي

 

فابك يا حبيب وكلكم أحباب..

قف بباب مولاك يا حبيب ولا تبرح الباب وإن طردت، ولا تغادر الأعتاب ولو أُبعدت، وقل له بلسان المتملق المنكسر: إلى من أذهب يا حبيبي، وعلى باب من أقف إذا لم أقف على بابك؟ قل له: إلهي بحبك إلا غفرت لي، قل له: إن الكريم إذا قدر عفا، وإذا وعد أوفى وأنت أكرم الأكرمين، وعدت بالعفو عن التائبين فاعف عني يا كريم.

 

قل له: إلهي ومولاي … أنا واقف ببابك فلا تطردني من رحابك، عبيدك غيري كثير، أما أنا فليس لي رب سواك..

 

أنت تدري يا حبيبي               من حبيبي أنت تدري

قد كتمت الحب حتى              ضاق بالكتمان صدري

ونحول الجسم والدمع             يبوحان بسري

 

ابك يا حبيب وقل لمولاك مرة ومرة عبيدك غيري كثير، أما أنا  فليس لي رب سواك، قل له أتحرقني بالنار يا غاية المنى فأين رجائي فيك وأين مخافتي، ابك يا حبيب ليوم تصمت الألسن وتتكلم فيه العيون بلغة الدموع. ولكن لتعلم أن الدموع التي ستطفئ النار هي دموع الخشية والتقوى اليوم وليس دموع الندم يوم القيامة..

 

فابك يا حبيب وكلكم أحباب..

ابك يا حبيب وكن مثل ذلك التلميذ الذي دخل على أستاذه أبي سليمان الداراني فوجده يبكي فقال له: يا أستاذ ما الذي يبكيك؟ فقال أبو سليمان: يا أحمد… إذا جنّ الليل على المحبين أجروا دموعهم على خدودهم أسفًا وجزعًا من ذنوبهم فيشرف عليهم الحق سبحانه وينادي: يا جبريل ناد فيهم، ما هذا الجزع الذي أراه بكم؟ هل أخبركم مخبر أن حبيبًا يعذب حبيبه في النار. فبعزتي حلفت لأجعلنّ هديتي لهم إذا وردوا علي يوم القيامة أن أكشف لهم عن وجهي الكريم ثم أنظر إليهم وينظرون إليّ … أفتلومني يا أحمد إن بكيت عن تخلفي عن هؤلاء القوم ولم أكن واحدًا منهم؟

فيا حبيب طر بجناح الجد وغادر وكر الأمل والكسل… يا شباب الجهل … يا كهول التفريط يا شيوخ الغفلة.. هلموا إلى مأتم الأسف على ضياع العمر {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ، يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}اية 23-24 سورة الفجر. فيا سحائب الأجفان أمطري على خراب القلوب، أمطري دموع التوبة على قلوب الغفلة لعلها تنبت أزهار القبول والمغفرة من الله سبحانه.

 

فابك يا حبيب وكلكم أحباب..

ابك يا حبيب في هذه الدنيا التي ينفع فيها البكاء… لأنه إذا كان يوم القيامة واستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار – أعاذنا الله تعالى منها- نادى أهل النار يا أهل الجنة، يا معشر الآباء والأمهات والإخوة والأخوات، إنا أُخرجنا من الدنيا عطاشًا، ودخلنا النار عطاشًا فأفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله. فيقول لهم أهل الجنة: إنها محرمة عليكم {وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} آية 50 سورة الأعراف. ثم ينادوا “مالك” خازن النار: فلا يكون جوابه لندائهم إلا {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} آية 108 سورة النور، إنكم فيها أبد الدهر ماكثون، فعند ذلك يبكون الدموع حتى تفنى وتجف المآقي، فتقول لهم زبانية النار: يا أشقياء.. تركتم البكاء في الدار التي يُرحم فيها من بكى، وبكيتم في دار لا ينفع فيها البكاء؟! {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ۖ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ، لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} آية 77-78 سورة الزخرف.

فابك يا حبيب لتبلل بدموعك اليوم عطشك يوم القيامة، ابك لتجعل من دموع التوبة والأسف قطرات الندى التي تبرّد قلبك الخائف المحزون يوم القيامة..

 

فابك يا حبيب وكلكم أحباب..

ابك يا حبيب واستحِ من ذنوبك.. لا تنظر إلى صغر المعصية أو كبرها، ولكن انظر إلى من عصيت، إنه الله سبحانه، فابك بين يديه وقل له: إلهي ومولاي، لا تعاملني بما أنا أهله، وعاملني بفضلك، بما أنت أهله، فأنا أهل الذنوب والخطايا وأنت أهل التقوى وأهل المغفرة، فابك على ذنوبك واستحِ أن يراك الجليل على معصية، وادع الله الكريم أن لا يفضحك يوم القيامة بين الخلق؟

يروى أن أحدهم مات فرآه أحد الصالحين في المنام بعد أيام، فقال: أقامني بين يديه وأعطاني كتابي، فجعلت أقرأ سيئاتي: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} آية 14 سورة الإسراء. فمررت بسيئة فخجلت أن أقرأها، فقال لي: لا بد من قراءتها، فقلت له: إلهي لا تفضحني بين خلقك، فقال لي الله جل في علاه: يا عبدي بالوقت الذي لم تكن تستحيي مني سترتك ولم أفضحك، أفأفضحك الآن وأنت تستحيي مني. فعفا عني وغفر لي..

فابك يا حبيب واستحِ من الله سبحانه حق الحياء، ولا يغرنك ظلام الليل فيه تعصي أو غيابك عن عيون الناس!!

 

وإذا دعيت لريبة في ظلمة        والنفس داعية إلى الطغيان

فاستحِ من نظر الإله وقل لها:    إن الذي خلق الظلام يراني

 

فابك يا حبيب وكلكم أحباب..

يحكى أن إبراهيم الخليل عليه السلام لمّا أُري ملكوت السماوات والأرض رأى عاصيًا يقيم على معصية، فقال إبراهيم: إلهي أهلكه…فأهلكه الله. ثم رأى آخر يعصي فقال: اللهم أهلكه … فأهلكه الله ، ثم رأى ثالثًا ورابعًا فأوحى الله تعالى إليه كُفّ يا إبراهيم، فلو أهلكت كل عاص رأيته لما بقي منهم أحد، ولكني أحلم عليهم، فإن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، وإن أصروا فلا يفوتني شيء.

ولقد ورد في صحف إبراهيم عليه السلام أن الله تعالى يقول للعبد العاصي والمقصّر والمذنب: “يا ابن آدم لو شئت أمرت الأرض فابتلعتك في حينها، أو البحار فأغرقتك في معينها، ولكني أؤجلك لأجل أجلته ووقت وقّته فوعزتي وجلالي لا بد لك من الورود إلي والوقوف بين يدي، أعدد لك أعمالك، وأحصي لك أفعالك، حتى إذا أيقنت بالبوار، وظننت أنك من أصحاب النار قلت لك لا تحزن يا عبدي فمن أجلك أسميت نفسي العزيز الغفار”.

وحكي أن رجلًا مقصرًا مسرفًا مذنبًا قال لبعض الأنبياء: كم أخالف الله وأعصيه فلا يعاقبني مباشرة، فأوحى الله عز وجل إلى ذلك النبي قل له: لتعلم أني أنا أنا، وأنّك أنت أنت.

نعم يا حبيب… أنت أنت، وهو هو سبحانه، أنت أهل الذنوب والخطايا، وهو سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة. فنادِه وابك بين يديه وقل له: يا رب.. أنا عصيت وأنت غفرت وأنت عفوت، فيا عفو عفوك.. يا عفو عفوك.. يا عفو عفوك.

 

فابك يا حبيب وكلكم أحباب..

رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة

والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون