أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

من الالتباس إلى الوضوح…المنطق الاستعماري وراء إنشاء السلطة الفلسطينية

د. طارق دعنا- محاضر جامعي وباحث فلسطيني

حاولت إسرائيل لسنوات إنشاء جسم سياسي يُسيطر على الفلسطينيين نيابة عنها. وقد كان قادة حركة التحرر الوطني هم الذين ساعدوها على تحقيق هذا الهدف.

أدى مقتل الناشط السياسي نزار بنات بشكل وحشي على يد قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، وما تلاه من قمع واسع النطاق واعتقالات تعسفية للمتظاهرين والنشطاء والصحفيين الفلسطينيين، إلى توسيع دائرة النقاش بين الفلسطينيين حول موقع ووظيفة السلطة الفلسطينية داخل منظومة الاستيطان-الاستعماري الإسرائيلي.

وما يجعل هذا النقاش الأخير مهمًا بشكل خاص أنه اجتذب شريحة كبيرة من الفلسطينيين غير المسيسين أو تاركي السياسة، حيث صار رفض الكثير منهم للشعارات الوهمية التي تروج لها السلطة مثل “الدولة الفلسطينية” و “بناء الدولة” صارخًا. وأصبح من الشائع، على وسائط التواصل الاجتماعي وفي النقاشات العامة والشعارات التي يرفعها المحتجون، وصف قيادات السلطة الفلسطينية بـ “المتعاونين”، والأجهزة الأمنية بأنهم “حماة المستوطنات”، في الوقت الذي يزداد فيه التهكم من مقولة “المشروع الوطني” الذي يجهد المدافعون عن السلطة الفلسطينية للترويج له. ولعل الأمر الأكثر لفتًا للنظر هو أن الكثيرين من بين الجمهور الفلسطيني اليوم ينظرون إلى السلطة الفلسطينية على أنها تقف حاجزاً أمام نضالهم للتخلص من أغلال الاحتلال. بمعنى آخر، أصبحت السلطة بنظر الكثيرين تمثل امتداداً غير رسمياً للاحتلال الإسرائيلي.

لقد أقيمت السلطة الوطنية في عام 1994 بموجب اتفاقيات أوسلو كتسوية ما بين نخب منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وشركاء الأخيرة الغربيين، وقد قايضت فعليًا نضال التحرير الفلسطيني مقابل شكل محدود من الحكم الذاتي محاصر بالكامل ومعتمد على إسرائيل في كل المجالات تقر.

لم تفرض السلطة الفلسطينية قيودًا بنيوية على مقاومة الفلسطينيين للسياسات الإسرائيلية فحسب، بل تعاونت أيضًا مع إسرائيل بشكل فعّال وبطريقة خدمت المصالح الأمنية والاقتصادية والسياسية العديدة للأخيرة. كما أدى ظهور السلطة الفلسطينية إلى انحسار منظمة التحرير الفلسطينية، الأمر الذي أنهى تمثيلها للشتات الفلسطيني المتواجد خارج الكانتونات التي أنشأتها أوسلو، وأخضع الحركة الوطنية الفلسطينية واحتواها.

يتقاطع هذا المسار التاريخي تمامًا مع منطق إسرائيل في الحكم الاستعماري. فقد اتبعت الحركة الصهيونية لأكثر من قرن، عقيدة “الحد الأقصى من الأرض مع الحد الأدنى من العرب”، في محاولة للتخفيف من حدة “العبء الديموغرافي” الفلسطيني الذي يعوق السيادة اليهودية على الأرض من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط. ولكن، ونظرًا لعدم قدرتها على تكرار حملة مماثلة من التطهير العرقي الواسع كالتي حدثت في عام 1948 – بسبب المقاومة الفلسطينية، بالإضافة للضغوط الإقليمية والدولية – شرعت إسرائيل بدلًا من ذلك في رسم استراتيجيات متعددة الأوجه لإدارة السكان والسيطرة عليهم لتغيير معادلة السكان-الأراضي لصالح المشروع الاستيطاني الاستعماري. بعد احتلال الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية عام 1967، أصبحت الأولوية لضمان استمرار التوسع الاستعماري وضم الأراضي إقصاء الفلسطينيين ومحاصرتهم في بلداتهم في الضفة الغربية.

كان أحد الركائز الأساسية لهذا المنطق إنشاء سلطة “محلية” مكلفة بالسيطرة على الفلسطينيين في المناطق المكتظة بالسكان. هذه الفكرة مستقاة من العديد من السوابق التاريخية، من إفريقيا إلى جنوب شرق آسيا، حيث قامت القوى الاستعمارية -بالتحديد بريطانيا- بشكل روتيني بخلق سلطات محلية وتقديم الدعم لها من أجل ضمان استمرارية التوسع الاستعماري.

وغالبًا ما وُضعت هذه السلطات في أيدي النخب التقليدية التي عملت على التوسط بين المستعمِر والمستعمَر، وفرض الأمن والاستقرار السياسي، وتقليل تكاليف البيروقراطية والعمليات العسكرية للقوى الاستعمارية. كما طورت السلطات شرطة محلية أو قوات ميليشيا لفرض النظام العام وحماية النخبة من أي معارضة داخلية وقمع أي شكل من أشكال المقاومة. وعندما ظهرت حركات التحرر الوطني في وقت لاحق بهدف تحرير بلادهم من الاستعمار، كان يُنظر إلى هذه السلطات المحلية على أنها أدوات استعمارية ينبغي مقاومتها وتفكيكها.

صيغة الحكم الذاتي

لطالما حاولت إسرائيل تطبيق هذا المنطق الاستعماري من خلال تشجيع رؤية محددة عن “حكم ذاتي فلسطيني” يقبع تحت سيطرتها المباشرة. فعلى سبيل المثال، قاد وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه دايان في أعقاب حرب 1967 مباشرة، سياسة “الجسور المفتوحة”، وهي استراتيجية لمكافحة التمرد شجعت القيادات المحلية التقليدية مثل زعماء العشائر على إدارة شؤون مجتمعاتهم، كوسيلة لتهدئة وضبط السكان الفلسطينيين.

في موازاة ذلك، تبنت إسرائيل بشكل غير رسمي “خطة ألون” التي اقترحها وزير التربية والتعليم في حزب العمل آنذاك، إيغال ألون، والتي نصت على “الخيار الأردني” لحكم الأراضي المحتلة – والذي يمنح شكلًا من أشكال الحكم الذاتي في مناطق الضفة الغربية المكتظة بالسكان تحت رعاية الأردن، بينما تبقى الأرض تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية.

قدم رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن النموذج الأكثر تنظيمًا وتفصيلاً للحكم الذاتي الفلسطيني في محادثات كامب ديفيد عام 1978 بين إسرائيل ومصر. استند اقتراح بيغن إلى إنشاء “مجلس إداري” يتمتع بالحكم الذاتي، يتولى إدارته 11 عضوًا فلسطينيًا، ويشرف على الشؤون المدنية من دون أن يكون له سلطات سياسية أو تشريعية حقيقية. وبحسب تصور بيغن، سيسمح للمجلس الإداري بنشر قوة شرطة محلية داخل المراكز السكانية الفلسطينية بالتنسيق مع السلطات الإسرائيلية، في حين يقوم الجيش الإسرائيلي بفرض الأمن والسيطرة على معظم الأراضي.

ولوضع رؤية الحكم الذاتي هذه موضع التنفيذ، شكّلت إسرائيل “روابط القرى” في عام 1979، وتمثلت بشبكة من شيوخ العشائر والمخاتير المتعاونين مع الاحتلال، والذين مارسوا سياسات قسرية ضد السكان تحت إشراف الجيش الإسرائيلي (كان آرييل شارون، الذي شغل منصب وزير دفاع بيغن في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، من أبرز المؤيدين لهذه السياسة). كما أعربت الحكومة الإسرائيلية عن أملها في أن تعمل روابط القرى على تقويض قدرة منظمة التحرير الفلسطينية في الأراضي المحتلة وتشتيت أي محاولات لتعبئة الناس ضد الحكم الإسرائيلي. وعلى الرغم من ذلك، رفض الفلسطينيون حكم روابط القرى إلى حد كبير ونزعوا عنها الشرعية، ما أدى إلى انهيارها مع اندلاع الانتفاضة الأولى في عام 1987.

وفي نهاية المطاف، تمكنت إسرائيل من تحقيق طموحها مع توقيع اتفاقيات أوسلو في عام 1993. لكن في حين أن السلطة الفلسطينية هي بالتأكيد نسخة مستحدثة من الصيغ الاستعمارية السابقة، إلا أنها تتمتع بميزة خاصة تتمثل في أن الطرف الموقع للاتفاقيات هو حركة التحرر الوطني نفسها.

وبرغم أن الظروف الدولية والإقليمية في تلك الفترة قد وضعت منظمة التحرير في أوضاع صعبة، إلا أن قبول قيادتها لهذا الترتيب كان مدفوعًا جزئيًا بأجندة ذاتية ضيقة: فقد ساهمت الانتفاضة الأولى التي ولَّدت أشكالًا جديدة من القيادات الوطنية والشعبية داخل الأراضي المحتلة في تهميش قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في المنفى تدريجيًا، وبسبب ما يشكله هذا التهديد من خطر على وجودها، سعت منظمة التحرير الفلسطينية إلى استعادة موقعها المهيمن على السياسة الفلسطينية من خلال استثمار نتائج الانتفاضة من أجل التفاوض سرًا على تسوية سلمية مع إسرائيل، وبدعم من الولايات المتحدة.

هذا النوع من الالتقاء الواعي بين حركة التحرر الوطني والقوة الاستعمارية لم يسبق له مثيل في تاريخ النضالات ضد الاستعمار. وكانت النتيجة كارثية على النسيج الوطني الفلسطيني ، إذ حرمته من القدرة على مقاومة السياسات الإسرائيلية، ومنحت اسرائيل موضعاً مريحًا في تكثيف استعمارها للأراضي المحتلة.

نقيض التحرير

على الرغم من أن بناء الحكم الذاتي تم تحت شعار “عملية السلام”، إلا أن الهدف الأساسي من إنشاء السلطة الفلسطينية هو أن تكون مشروعًا أمنيًا، تتمثل عقيدته في التعامل مع القوات الإسرائيلية ليس كمحتل، ولكن كشريك في الحفاظ على الأوضاع القائمة. صُممت معظم مؤسسات السلطة الفلسطينية ووظائفها، بما في ذلك أنماط الحوكمة وسياساتها الاقتصادية خصيصًا للقيام بأدوار مكافحة التمرد لتهدئة وترويض الفلسطينيين – وهي مهمة مركزية للسلطات المحلية التي تعمل في ظل الحكم الاستعماري.

يُعتبر التنسيق الأمني الواجهة الأهم في فهم حالة التناغم بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، حيث يتبادل الطرفان المعلومات حول السكان ويقومان باعتقال أو قتل الفلسطينيين، سواء كانوا معارضين سياسيين أو مجموعات مقاومة. وعلى الرغم من أن التنسيق الأمني كان بدايةً شرطًا إسرائيليًا للحفاظ على بقاء السلطة الفلسطينية، فقد أصبح أيضًا من أولويات السلطة الفلسطينية لمواجهة المعارضة الداخلية المتزايدة. ومن أبرز الأمثلة على هذه الشراكة المتبادلة قتل الناشطين الفلسطينيين باسل الأعرج ونزار بنات: في حين قتل الأعرج على يد جنود إسرائيليين في قلب رام الله الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية بعد إطلاق سراحه من سجن السلطة الفلسطينية، فإن بنات قتلته قوات السلطة الفلسطينية في منطقة تحت السيطرة الاسرائيلية في مدينة الخليل.

ثمة سمة محددة تميز السلطة الفلسطينية عن النماذج السابقة، ألا وهي الاستثمار المالي والتقني العالي المستوى من قبل المانحين الغربيين – وهذا لربما يمثل النموذج الأكثر فعالية لعمليات التدخل الخارجي في العصر الحديث. ساعدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في إنشاء وتدريب وتجهيز قوات الأمن للتركيز على الأمن الداخلي؛ أي لمنع أي شكل من أشكال المقاومة الفلسطينية المنظمة والفعالة.

حتى يومنا هذا، يحتفظ قطاع الأمن الفلسطيني، الممول من قبل الحكومات الأجنبية ، بنصيب الأسد من الموارد المالية والبشرية للسلطة الفلسطينية: فهو يوظف ما يقرب من نصف جميع موظفي السلطة الفلسطينية، ويستهلك ما يقرب من 29 إلى 34 في المائة من الميزانية – وهو ما يتجاوز القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة والزراعة مجتمعة.

يدرك الممولون الغربيون تمامًا أن ضمان امتثال السلطة الفلسطينية لإسرائيل يتطلب حتمًا كلًا من الفساد لتحفيز النخبة الفلسطينية ماليًا من جهة، والحكم الاستبدادي لحمايتها من المعارضة الشعبية من جهة أخرى. وقد رأت نخبة السلطة الفلسطينية وأعوانها في هذا الواقع صناعة مربحة: أصبحت المساعدات الخارجية، والامتيازات الممنوحة من إسرائيل، واحتكار الموارد، والمشاركة في الأعمال التجارية الخاصة، واختلاس الأموال العامة مصادر رئيسية للثراء الشخصي. ولم يتحرك المانحون الرئيسيون مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ضد هذا الفساد المستشري أو انتهاكات حقوق الإنسان طالما كان بإمكان السلطة الحفاظ على التعاون الأمني مع إسرائيل وفرض الاستقرار السياسي.

استطاعت السلطة تأمين استقرار مؤسساتها من خلال إشراك قواعد حركة فتح في شبكات المحسوبية لضمان ولاءاتهم واحتواء المعارضين منهم. كما أن التوظيف في القطاعين العام والأمني في السلطة الفلسطينية مسيّس للغاية، ويهيمن عليه أعضاء الحزب الذين يهدفون إلى إطالة عمر السلطة الفلسطينية على الرغم من خضوعها لشروط إسرائيل القمعية. وفي نفس الوقت، أصبحت الوظيفة العامة أحد أدوات السيطرة حيث يواجه الموظفون العموميون الذين ينتقدون سياسات السلطة الفلسطينية سياسات الفصل على الفور أو يُجبرون على التقاعد المبكر.

في ظل هذا الواقع المؤسف، فلا عجب إذن أن يعتقد الكثيرون من الفلسطينيين اليوم أن السلطة الفلسطينية في تعارض مع آمالهم التحريرية. كان لاستسلام منظمة التحرير وهزيمتها الذاتية بموجب شروط أوسلو المهينة عواقب مدمرة بعيدة المدى على كافة جوانب الحياة الفلسطينية، وقد ألحقت أضرارًا لا حصر لها بالقضية الفلسطينية، وخلقت انقسامات سياسية واجتماعية عميقة في النسيج الوطني، وأفسدت الحركة الوطنية الفلسطينية، وأضعفت قوة التأثير الدولي للصوت الفلسطيني من أجل الحرية والكرامة.

لا يمكن اعتبار إصرار نخب السلطة وقواعدها في الاستمرار على هذا النهج سوء تقدير سياسي بقدر ما هو اختيار منهجي. وفي الحقيقة، فإنه لا يمكن إصلاح السلطة الفلسطينية ولا يمكن تغييرها، فقد أُنشئت بالضبط لكي تقوم بهذه الأدوار.

فإما أن ينتزع الفلسطينيون زمام المبادرة ويتجاوزوا هذا المسار، أو أنهم سيجدون أنفسهم أمام مسارات أكثر سوءًا وتعقيدًا في المستقبل غير البعيد.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى