أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (32)… الذيــــن قالــــوا “لا”! (11)

حامد اغبارية

مدخل

قليلون هم الذين قالوا “لا”! لكنّهم على قلّتهم فرضوا بمواقفهم الثابتة معادلةً جعلت الذين أرادوهم أن يقولوا “نعم” يُجيّشون لهم جيوشا مدججة بكل أنواع السلاح العسكري والاقتصادي والإعلامي والثقافي، سعيا إلى الشيطنة والتشويه والملاحقة والبطش والاجتثاث، فما ازداد الموقف إلا صلابة، وما ازداد المشهد إلا وضوحا، وما ازداد الذين رفضوا السير في الركب إلا عنفوانا، وما ازداد الذين راودوهم عن مواقفهم إلا فشلا، حتى أصبح العالم وقد انقسم إلى فُسطاطين لا ثالث لهما، اللهم إلا من “فُسَيْطِطِ” المنافقين الذين ربطوا مصائرهم بمن يظنون- مخطئين- أنه غالبٌ في كل الأحوال.

في هذه السلسلة التي قد تستغرق صفحات كثيرة، محاولةٌ لفتح البصائر على حقيقة الصراع الدائر بين الذين قالوا “لا”، وبين الذين يريدون فرض أجندتهم على أهل الأرض جميعا، أو بالأحرى فتح البصائر على حقيقة الحرب التي يشنها فسطاط الشيطان على الذين استقر في نفوسهم قول “لا” في كل الأحوال كذلك.

هذا ليس لغزا من الألغاز، ولا هي طلاسم يصعُب فهمُ كنهها. إنه حديثٌ عن أهل الحق القابضين على الجمر في زمن السنين الخداعة التي يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. إنه حديثٌ عن الذين لم تفارقهم شجاعة المؤمنين ورباطة جأش المرابطين على الثغور، رغم ما يبدو للرائي من ضعف قوّتهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس وتخلي الأقربين عنهم.

هو حديثٌ عن تركيا، وعن ماليزيا، وعن الإخوان المسلمين، وعن الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا، وعن غزة قاهرة الغزاة، وعن العراق ما قبل 2003، وعن العلماء الربانيين الذين رفضوا السير في ركب السلطان، وعن صفحات أخرى مشرقة في بلاد المسلمين التي استهدفها فسطاط الشرّ طوال عقود.

***

رجالٌ صدقوا…

هي ثلٌةٌ من الآخِرين الذين تجري في عروقهم دماء تغلي كالمرجل حُبا في دين الله ودفاعا عن شريعته وذبّا عن الأمة ونصرةً للمستضعفين في الأرض وتضحية في سبيل كل قضية شريفة. أعلنوها “لا” من أول لحظة، بعد أن فهموا دورهم وأدركوا المعنى الحقيقي لوجودهم في هذه الدنيا. فهموا أن الحياة لا تقاس بطولها، ولا بنعيمها الزائل، ولا بأموالها ولا بذهبها وفضّتها، ولا بمناصبها، ولا بجاهها، وإنما تقاس بما يملأ الواحد منهم صحيفته. قالوها “لا” للرضوخ لواقع فرضه اختلال الموازين؛ يوم أن تخلت أنظمة الوظائف العسكرية القامعة ومعها جيوش من علماء السلاطين الذين باعوا دينهم بدنيا أسيادهم، عن أمجاد الأمة، وحادت عن الصراط، وانحرفت عن الطريق، وحرّفت اتجاه البوصلة لصالح الأعداء، فأذلت شعوبها، وباعت مقدرات بلادها، وقهرت شرفاءها في سبيل مُلك زائل ومنزلة وضيعة.

كانوا يعلمون أن الثمن باهظ، وأن الأعداء كُثرٌ من الداخل والخارج؛ من ذوي القُربى ومن فسطاط الشرّ، فما منعهم هذا كله عن قول كلمة الحق والعمل بها، وقد وطّنوا أنفسهم على دفع الثمن أيا كان.

هم كثيرون، لكنّهم قلّة. كثيرون من حيث زخم الأحداث المرتبطة بهم وتأثيرهم على الواقع، وإن قل عددهم في أعين الناس. ولا غضاضة في القلة، فالله تعالى يقول: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ۖ} (الأعراف: 86).

لن نستطيع إحصاء وذكر كل هؤلاء من علماء ربانيين وقادة شجعان من حملة الراية الذين حفظوا العهد ولم ينقضوا البيعة لله وللرسول، ولذلك نكتفي بذكر نماذج منهم:
الشيخ الدكتور العلامة يوسف القرضاوي: يبلغ من العمر اليوم 94 عاما، أفنى جلّها في سبيل الله والدين والمنافحة عن الحق ونصرة أهله والدفاع عن المستضعفين في الأرض وتعليم الناس وتفقيههم. فهو بحق علامة زمانه ونابغة عصره. ومنذ أن وعى الدنيا وعرف الطريق قال “لا” للظلم والظالمين، فدفع من أجل ذلك ثمنا باهظا من سجن وتعذيب وقهر وملاحقة ومطاردة وتشويه وشيطنة ونفي. اعتقله زبانية الملك فاروق عام 1949، ثم زبانية عبد الناصر عدة مرات في 1954، كونه عضوا في جماعة الإخوان المسلمين، ولاقى من التعذيب ما لاقاه إخوانه من قيادات الجماعة في سجون الاستبداد، ما اضطره في ناهية الأمر إلى مغادرة بلده مصر إلى قطر ليستقر هناك.

اتُّهم الدكتور القرضاوي بدعم الإرهاب لمجرد قوْلَةِ الحق التي نطق بها يوم أن ناصر الشعب الفلسطيني في قضيته العادلة، التي اجتمع فسطاط الشر على إنهائها دعما للمشروع الصهيوني. وقد وضعته دول كثيرة منها أمريكا والمؤسسة الإسرائيلية وحتى بلده مصر المخطوفة اليوم من عصابة العسكر في قائمة الإرهاب. ورغم ذلك لم يتراجع الشيخ عن مواقفه قيد أنملة، وظل مناصرا للحق، داعيا إلى مساندة الشعوب المستضعفة التي أنهكها ظلم الاستعمار والاحتلال وقمع الأنظمة، فأشبعوها جوعا وفقرا وتجهيلا وتشتيتا وتفتيتا. ولذلك لم يتردد لحظة في دعم ثورات الربيع العربي التي انطلقت من تونس، ووصلت إلى بلده مصر حتى اقتلعت الطاغية حسني مبارك، ثم ناصر الشعب السوري في ثورته ضد الطاغية بشار الأسد، والشعب الليبي ضد الطاغية معمر القذافي، والشعب اليمني ضد الطاغية علي عبد الله صالح. وبسبب موقفه ذاك جُيّش إعلام فسطاط الشر من عرب وغرب ضدّه وضد أمثاله من العلماء، فالتقت في هذا المعسكر أنظمة العار العربية وعلى رأسها عصابة العسكر في مصر وزريبة آل سعود في جزيرة العرب وحظيرة أبناء زايد في الإمارات وغيرها من الأنظمة؛ اجتمعت مع واشنطن وتل أبيب وعواصم الاتحاد الأوروبي، فكان المشهد فيه جيش يمثل ثلاثة أرباع الكرة الأرضية في مواجهة عالم رباني لا يملك من السلاح إلا عقيدته وقوة الكلمة وقولة الحق. فقد أدرك كل هؤلاء تأثيره وتأثير أمثاله من العلماء العاملين الربانيين، وعلموا أن فيه قوّة لا يملكونها، فسعوْا إلى التضييق عليه وشيطنته ومنعه من التنقل والسفر، فكانت المعادلة في صالحه والكفّة الراجحة كفّتُه رغم كل ما يملكون من وسائل إعلام ساقطة وأدوات بطش وتفنن في افتراء الأكاذيب ومهارة في التضليل. ولم تزده هذه الحرب الشعواء إلا إشراقا ومضاءً وثباتا، وزاده الله تعالى كرامة ومكانة ورِفعة في أعين الناس. ولعلك تفهم وأفهم معك أن السبب الرئيس في هذا العداء للدكتور القرضاوي من فسطاط الشر أنه يُعتبر اليوم المرجعية الإسلامية السنّية الأولى وربما الوحيدة للحركة الإسلامية العالمية؛ تلك الحركة المستهدفة لأنها تشكل أملا لشعوب الأمة الإسلامية من عرب وغير عرب، وتمثل الوسطية التي يدعو إليها الإسلام. فقد أصبحت كتبه ومؤلفاته، التي تقارب 140 كتابا، جامعة إسلامية شاملة تخرجت منها أجيال تلو أجيال وتربت عليها ونشأت على ضوء رسائلها، حتى تخرج من صفوفها قيادات وعلماء في مختلف التخصصات ممن لهم تأثير وثقل ووزن في توعية المجتمعات وتحريك الشارع في مواجه الباطل ودحض الأباطيل والمدافعة والمراغمة على جبهات كثيرة. ولعل مراجعة عناوين كتبه الكثيرة التي لا يكاد يخلو من معظمها أو بعضها بيت من بيوت المسلمين اليوم تعطيك صورة عن شمولية منهجه، ومساهمته الكبيرة في إعادة تشكيل العقل الإسلامي في أيامنا هذه، ومساهمته أكثر في ترشيد الصحوة الإسلامية العالمية وتصويب خط سيرها. ولعلنا نعلم جميعا أن الصحوة الإسلامية التي تضم في داخلها تيارات وسطية على رأسها جماعة الإخوان المسلمين تشكل كابوسا مرعبا لفسطاط الشر، وذلك لعلمه أن هذه الصحوة هي الأقدر على جمع الأمة تحت راية واحدة، والأكثر تأثيرا على المجتمعات، والأكثر قبولا على الناس. وهذا تماما ما لا يريده أعداء الأمة، لأن هذه الصحوة هي الوحيدة التي تملك مفاتيح التغيير وإنهاء هيمنة فسطاط الشر، ووضع الأمة على عتبة عهد جديد تكون هي الممسكة بخيوطه والموجِّهة لبوصلته والصانعة لتاريخه.

(يتبع).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى