أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

الــوعي شرط التحرر (2/4)

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
تتأكد مسألة الوعي كشرط اساس لتحقيق التحرر من لأواء استعمار الاجنبي يوم ندرس تاريخ الشعوب التي تحررت من نير الاستعمار، فما تحررت إلا بعد أن حققت شرط الوعي بمحدداته الفكرية-الثقافية والأخلاقية-التربوية، إلا أنَّ معظم شعوب الارض التي تحررت لم تستوف شرط الوعي لتحقيق الحرية بمعانيها الخلاقة التي تؤسس لحياة كريمة تتداخل فيها شؤون المعارف والحياة، ابتداء من ضمانات حرية التعبير عن الرأي والفكر والقول والعمل ضمن سياج واق حددته معالم التحرر المبنية على أساس الوعي المدرك لخصوصيات الجغرافيا والتاريخ والحضارة لتلكم الجماعات المتحررة من نير الاستعمار.
تعيش الامم اليوم حرية مزيفة، نظنها كذلك إذ هي تبسط ذراعها على معالم الحياة وحركتها فيما يتعلق بالمأكل والمشرب وبعض من الحريات السياسية الخاضعة دائما للرقيب غير المرئي، ويظن هؤلاء أنهم يوم يخرجون للمظاهرات مثلا فقد حققوا كسبا في معاني الحرية، دون أن يدركوا حجم التداخل القائم بين مساحات تتركها الدولة للجموع الغاضبة لتنفيس غضبها وبين حقيقة الكسب المتحصل من بعد هذه الاعمال، ولأننا نعيش في حياة سائلة فالآثار المترتبة على حدث معين في بلد “ما” قد يترك آثاره تنساح في مناطق أخرى من العالم تبعا للضرورات التي يريدها الاستعمار العالمي المعاصر.
في هذا السياق، سنجد مثلا أن شعوبا كثيرة خرجت من أجل الشاب الامريكي جورج فلويد، الذي قتله شرطي ابيض بدم بارد وبالبث المباشر خنقا، لكننا لم نجد مثلا هذه الجموع تخرج غضبا لذبح ملايين السوريين والروهينغا والافارقة، والسبب في ذلك يعود الى آلة الإعلام والميديا الرقمية إلى جانب سياسات عليا تسعى فعلا بعض اطراف هذه السياسات لتحقيق نوع من المساواة في تلكم البلاد المُستعمرة، لصالح ضخ دم جديد في شرايينها يتناسب وسيولة الحياة وتدافعاتها في هذا العصر الرقمي، ويضمن سيطرتها في ظل منافسات تشتد يوما بعد يوم في نادي الكبار حيث كَثُرَ المتزاحمون لدخوله.
الآدمي المبرمج والاحتلال المُقنع
في السياق الفرداني-المجتمعي المحدود، فإنَّ الحرية تصطدم في مسائل العبودية المختارة (الاحتلال المقنع) التي تسيطر علينا وتكاد تجعلنا آدميين مبرمجين. على سبيل المثال لا الحصر، مسائل الدعاية على كل أنواعها تبين جدل العلاقة القائم بين الوعي والحرية، من حيث ارتهاننا كبشر للسيل الجارف من مختلف انواع الدعاية، خاصة في عالمي الشباب والنساء، ومن ثم وقوعنا تحت نوع متجدد من العبودية التي هي صنو الاحتلال: الاحتلال النفسي والأخلاقي والاجتماعي على مستوى الفرد والمجتمع، فنحن يوم نكون مرتهنين للدعاية بكل أشكالها وأنواعها وزخارفها وما ينبثق عنها من انماط حياة بعينها، المُسوقَة عبر تلكم الدعايات كمثل أنواع الطعام واللباس والموضة والعادات، وما يتعاظم بعد ذلك من أنماط حياة تتوافق وقيم وافدة تناقض بعضها قيمنا المنبثقة من موروثنا الإسلامي، كشرب الخمور وما اختلف من مسمياتها، والاختلاط الفاحش وتفشي المواخير المسماة مراقص وبارات، والتحلل من عديد العادات والتقاليد الناظمة للشأن اليومي للحياة، ففي الحقيقة فإن هذا الإنسان فاقد للحرية من جانب ومُستعمَرُّ من جانب آخر، وهذا الاستعمار الذي أشرت إلى طرف منه، هو نوع متقدم من الاحتلال: احتلال العقل والنفس والروح، وفاقد الشيء لا يعطيه، فلا نتصور تحرر أمة تملك مشروعا حضاريا يمكنها أن تتحرر من محتل يملك هو الآخر مشروعا حضاريا، إلا بإتمام شرط الوعي، لذلك كانت مسألة الوعي شرطا للحرية وشرطا للتحرر.
الانفلات في معنى الحرية سبب لتقبل الاحتلال
الاستعمار يبدع بأساليب استعباده للبشر وتشكل الحريات الفردية بما لها وما عليها منفذا أساس يسعى هذا الاستعمار من خلاله للبقاء مسيطرا على الأفراد، ومن ثَمْ على مقدرات الأمم والشعوب، وبفضل الفجوة القائمة بين شعوب الشمال وشعوب الجنوب، تتعزز مكانة دول الشمال لإبقاء سيطرتها، فهذا الغرب امتلك على مدار الخمسمائة عام الاخيرة من عمر البشرية تجارب هائلة ونهض نهوضا مذهلا منحه هذا العلو البشري غير المسبوق، وكان عماد هذا النهوض ثورته العلمية التي بفضلها امتلك ناصية قيادة حركة الحياة إلى هذه اللحظات، وخلال هذه المئين طورَّ مفاهيم خاصة لمعاني الحرية بما يخدم مصالحه التي تؤكد بقاء سيطرته واستبطان الامم التي سيطر عليها لقيمه وأفكاره حين تركه أرضها ليبقي سيطرته الفكرية والاخلاقية والسياسية والاجتماعية، فمن ذا الذي ينكر اليوم أن الغرب عبر مئات السنين طور كافة شؤون الحياة وأصبحت الحياة اليوم أسهل من ذي قبل بفضل ثورته الصناعية والعلمية، بيدَّ أن دراسة تاريخ الحضارات يدعوننا للتريث وبسط الفهم ففي مسائل تدافع الامم وتعارفها وتعاونها ومراكمة خبراتها وإنجازاتها لنصل إلى فهم هذا التطور العلمي الذي نحياه اليوم، خاصة وأن شعوب الأرض شريكة فيه بشرا ومادة، وهو أسس في فهم الوعي لمثل هذه المسألة، والى جانب ذلك يجب علينا فهم تداخل ذلك المنجز العلمي البشري بمنجز الحضارة الغربية المتعلق بسياسة الناس واستعمارهم نفسيا وعقليا من خلال نظرياتهم الاجتماعية والسياسة بمختلف مدارسهم الفكرية العلمانية والعلمانتية اللائكية (العلمانية اللائكية تتخذ طابعا شرسا في فصل الدين عن السياسة وعن الدولة وتتخذ منهج الاستحواذ كأساس في العلاقات مع الآخر، فهي تعمل على تعريته من فكره وقيمه وأخلاقه لصالح المستعمر وتعتبر فرنسا ممثل هذا الفكر والمنهج، كمثال صارخ لهذا الذي أشير إليه علاقة الاستعمار الفرنسي بالجزائر)، وفي هذا السياق تحديدا نحن بحاجة الى سبر وفهم العلاقة بين مورثاتهم الدينية الثاوية في العهدين القديم والجديد، والعلمانية التي طالما ظننا انها تحاربه وتلغيه، والحقيقة أن ثمة جدل فلسفي عميق في المدارس الفلسفية الغربية في جدل العلاقة مع الشأن الديني، مع أننا نشهد حقيقة ماثلة تقول إن الحرية الفكرية وما رافقها من إبداع علمي كان من اسباب النهضة الاوروبية وكانت هذه الحرية شرطُّ أساس في تقدم الحضارة الغربية.
إنَّ الانفلات في الحريات/ الحرية سبب مباشر لبقاء الاحتلال الذي خرج من الابواب المفتحة وعاد الينا من شبابيكنا المشرعة، بعدئذ فقدنا ميزان العلاقة الدقيق بين الحق والحرية وبين العدل والحرية وبين الالتزام والحرية وبين الاستحقاقات الفردية والمجتمعية والحرية.
حتى نحقق الحرية الحقيقية، لا بدَّ لنا أن نتحرر من الأوهاق (حبل في أحد طرفيه عقدة يطرح في عنق الدابة أو الإنسان حتى يؤخذ، جمع : أوهاق) والأغلال التي بتنا نرزح تحتها، ونحن نظن أننا نحسن صنعا، وهو موضوع في غاية الأهمية ويقف عليه كافة من قادوا شعوبهم للتحرر من النير الاستعماري، فأنت لا يمكنك أن تتحرر من الاستعمار أي كانت بضاعته الفكرية والاقتصادية والأدائية وأنت تتغشاه تحت مسمى المصلحة، فإما أن تتبنى منطق المدافعة والمزايلة (المفارقة) والمغالبة بمفاهيمهما العقدية والشعورية والعملية، أو أن تقع في ممالآت الاحتلال والسير في ركابه رغبا وطمعا، بغض النظر عن فكرك الذي تحمله وعقيدتك التي تؤمن بها، فالخروج من فك الاستعمار والاحتلال مرهون بوعيك به أو لا، وبكيفية خلاصك منه ثانيا، وإيمانك العميق أنك لا بدَّ متخلص منه وأنت تتسلح بالعلم واليقين والثقة ومختلف أنواع النضال.
واقعنا المُعاش نتاج تناقضات ما زالت قائمة
واقعنا العربي الإسلامي المشرقي يشير الى ان هذا الذي ذكرت هو نتاج تراكمات لتناقضات حدثت ولا تزال بين الحداثة والأصالة، والتي بدأت بذورها الاولى عمليا في أواسط القرن التاسع عشر (منذ حكم السلطان محمود الثاني 1808-1839، وحكم محمد علي باشا مصر بين سنوات 1805-1848) وقد خلقت تناقضات في مفاصل الحياة وحركتها واختلط حابل العلمنة القادم من أوروبا، وتأثرت به النخب والقيادات والأعيان بنابل التقاليد الاسلامية-ولا اقول الاصول الاسلامية المؤسسة على الكتاب والسنة – التي تعرضت لمزيج من اختلاط قيم الامم والشعوب التي دخلت في الاسلام وما أحدثته الصوفية القبورية في حركة الحياة، والذي سيطر على مشهد الحياة عدد قرون لنصل الى هذه اللحظات التي أراها باتت فاصلة تتهيأ الظروف قاطبة لما بعدها، بعدئذ تبَدَّتْ أحوال الطغمة العلمانية الحاكمة في مشرقنا العربي وكشفت عن كل ما لديها، سواء تلكم التي امتهنت الدين لركوب الشعوب، أو الفاشية التي امتهنت الافكار الوافدة وامتطت محاربة اسرائيل لسرقة مقدرات الشعوب وسحقها وتشريدها.
هذا كله يحدث والعالم اليوم رهين الثورة الرقمية الكونية التي يسيطر على مفاصلها القوى العالمية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصين، حتى بتنا في بيوتنا ومخادعنا نتأثر مباشرة بهذه الحالة والوضعية، وهو ما يعني مزيدا من الأغلال التي تحيط بأعناقنا والتي تعمق الفجوة التي ذكرت ابتداء، وتعمق التبعية والعبودية انتهاء، وهو ما يحتاج الى وعي لفهم تناقضات الواقع الذي نعيش ونفككه بهدوء، بعيدا عن النرجسية التاريخية السلفية بمفهوم التاريخ المتعلق بنا، وكأنه تاريخ ناصع البياض مطلقا وعلى موائدها تربت أجيال دفعت ثمن هذا الوهم “التاريخي” دمارا يكاد يكون شاملا وذهبت أجيال هباء منثورا، وإنْ كان هذا بعضُّ من أثمان ستدفع وبعيد عن التثوير القومي الكاذب الذي أنتج فاشية منذ ثلاثينات القرن الماضي إلى هذه اللحظات تركنا قاعا صفصفا.
كل ما نحتاجه اليوم في ظل الواقع المُعاش تحقيق الوعي المؤسس على فقه المدارسة والمدافعة والمزايلة والمغالبة. فقه يقوم على فهم الآخر وسبر أغواره بعمق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى