نداء الحجيج

ليلى غليون
من بين ظلمات تعلوها ظلمات، من بين آلام فوق آلام، من بين غيوم القهر وضباب المرحلة، نتنسم نفحات أيام وليال مباركات، أقسم الله عز وجل فيها لعظيم خيرها، أيام فيها مواكب الحجيج قدمت من كل فج عميق، تصدح حناجرها وتملأ جنبات الدنيا بصدى تكبيراتها، وترفل بثياب بيضاء نقية طاهرة وهي تنادي بهمسات ندية دافئة بدعاء رددت جبال مكة وشعابها صداه: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك” نداء يطرق أبواب القلوب ليستقر في أغوارها يبث فيها الأمن والأمان والإشراق والحنين لزيارة بيت الله، نداء يشعر فيه الحجيج وهم يلبون، بترابطهم مع سائر المخلوقات والتي تتجاوب معهم في وحدانية الله عز وجل وعبوديته.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلم يلبي إلا لبى عن يمينه وعن شماه من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا” يعني عن يمينه وشماله.
نعيش هذه الأيام المباركات والحال يحكي بمرارة فصول مآس طاحنة تعيشها أمتنا، ويسكب الدموع مدرارة على واقع بتنا نعايشه ونتعايش معه كل يوم، ننام ونصحو على أشواكه الواخزة، ونتنفس من هوائه الملوث ملء رئاتنا التي تكاد تختنق من سواده، ولا نملك من تغيير هذا الواقع شيئًا إلا جعجعات وهمهمات هنا وهناك تتلاشى مع نسيمات المساء.
واقع وصلت فيه القلوب إلى حد التصحر والقسوة والجفاء، كما وصلت فيه القطيعة والعنف والقتل وسفك الدماء.
نتنسم نفحات أيام عظام من أيام الله، تمخر سفينتها عباب بحر واقعنا الهائج والمائج بفتن عاتية صبت عليه صبًا، ينادينا حاديها كالأم الرؤوم والأب الحنون، يهدينا نفثات من وجدانه ونبضات من شعوره، ورأفة على حالنا المؤزوم:
(يا بني اركب معنا) اركب معنا إن كنت ترجو السلامة والنجاة، اركب تنجُ وينج حالك، وينجُ مجتمعك، بل تنجو أمتك بأكملها وإلا: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس… أنى لك الصحو من سكر وأنت متى تَصحُّ من سكرة تغشاك في نكس. اركب معنا فالركب آمن، والطريق واضحة والنهاية مأمونة بإذن الله، وقل يا الله وفي كل حال قل يا الله: جئتك متسربلًا بثياب الندم والتوبة والأوبة. اركب معنا وابسط يدك ومدها لتنقذ نفسك وتنقذ غيرك من الغرقى من غياهب الضلال فهم كثر ينتظرون النجاة. إنه ركب الحجيج، ركب التلبية، ركب التكبير، ركب العبودية لله عز وجل، يدعو الجميع ليصافحهم ويحتضنهم ويقول لهم: كل عام وأنتم إلى الله أقرب، كل عام وأنتم إلى الله أخشى وأتقى، كل عام وصدوركم أنقى، كل عام وقلوبكم عادت لفطرتها وتخلصت من لوثتها ومزقت سواد كسائها، تنبض بالحب والتسامح والإيثار وكل مفردات الخير العميم.
إنه نداء الحجيج وأهزوجة الانقياد للمولى عز وجل للتسامح والتغافر منقوشة ومصفوفة كالفسيفساء بألوان خلابة على صفحة هذا الموكب العظيم.
إنه نداء الحجيج، دعوة الإخلاص والتوحيد، لتجفيف منابع الحقد والبغض من القلوب بحرارة المحبة ودفء المشاعر الأخوية الجياشة.
دعوة لتحطيم أسوار شاهقة من القطيعة والخلافات والتفكك انتصبت وأحاطت النفوس بأسلاكها الشائكة، وبناء جسور التواصل الحقيقي والتزاور والمسامحة والمصالحة وإصلاح ذات البين والتعاون على البر والتقوى وحسن الظن فيما بيننا.
دعوة نبللها بعبير الصفاء، ونكتبها بمداد الوفاء، نخلع عنا ثياب الكره والبغض والأنانية، نهب بعضنا رأفة وعفوًا، أعفو عنك وتعفو عني، أسامحك وتسامحني، أتجاوز عن زلاتك وتتجاوز عن زلاتي، عسى الله الكريم أن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله… لقد طفح الكيل يا ناس وبلغ السيل الزبى، فمتى نعود ومتى نصحو؟!
دعوة ننشد فيها نشيد المحبة والأخوة، ونتذوق فيها معنى الوحدة من جديد، نستحضر صورة الحجيج الرائعة التي تجسد صورة وحدة ما لها من مثيل ولن يكون لها مثيل، جاءوا من كل حدب وصوب، لغاتهم مختلفة ألوانهم مختلفة ثقافاتهم ومشاربهم مختلفة، ولكن الحج جمعهم وصهرهم في بوتقة الإيمان وكأنهم على قلب رجل واحد، مرددين: لو كبّرت في جموع الصين مئذنة سمعتَ في الغرب تهليلَ المصلينا. إنه نداء الحجيج: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنه نداء التوحيد العظيم رفعه إمام الموحدين سيدنا إبراهيم عليه السلام، بعد أن كانت الأرض غارقة في ظلام الشرك الدامس، فشق آفاق الأرض وقرع كل القلوب والأسماع، ولا يزال وسيبقى صداه يتردد في جنبات المعمورة حتى يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها.
إنَّه نداء الحجيج يملأ القلوب خشوعًا وسكينة، بل إنه دعوة لعودة صادقة إلى المولى عز وجل لتجديد العزم وشحذ الهمم واستجاشة حنين ثائر ورغبة جامحة وشوق متأجج لأيام خلت، كنا فيها خير أمة أخرجت للناس. تقبل الله منا ومنكم الطاعات.