أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

فقه الوقاية من الفتن

د. أنس سليمان أحمد
من أراد الوقاية من الفتن فله في مدرسة عبد الله بن عمر رضي الله عنه المرشد العملي الذي يدله على كيفية الوقاية منها، ويمكن لنا أن نلخص أصول هذه المدرسة بما يلي:
حرصت هذه المدرسة على تجنب القتال وعلى حقن دماء المسلمين:
فعن القاسم بن عبد الرحمن قال: قالوا لابن عمر في الفتنة الأولى: ألا تخرج فتقاتل؟ فقال: قد قاتلت والأنصاب بين الركن والباب حتى نفاها الله عز وجل من أرض العرب، فأنا أكره أن أقاتل من يقول: لا إله إلا الله. قالوا: والله ما رأيك ذلك، ولكنك أردت أن يفني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم بعضاً، حتى إذا لم يبق غيرك قيل: بايعوا لعبد الله بن عمر بإمارة المؤمنين. قال: والله ما ذلك فيّ، ولكن إذا قلتم حي على الفلاح أجبتكم وإذا افترقتم لم أجامعكم، وإذا اجتمعتم لم أفارقكم. ولم يكتفِ ابن عمر رضي الله عنهما بالحرص على كفّ نفسه وتجنيبها إراقة دماء المسلمين، بل سلك بعض السبل التي تؤدي إلى تجنّب المسلمين إراقة الدماء فيما بينهم، من ذلك محاولته الجادة – خلال الخلاف بين عبدالله ابن الزبير وعبد الملك بن مروان- لإنهاء القتال بينهما حقناً للدماء.
نهيه عن إثارة الفتنة وتفريق الكلمة: قال إبن عمر رضي الله عنهما: جاءني رجل في خلافة عثمان، فإذا هو يأمرني أن أعتب على عثمان، فلما قضى كلامه قلت له: إنا كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل أمة محمد بعده: أبو بكر وعمر ثم عثمان، وإنا والله ما نعلم عثمان قتل نفساً بغير حق أو جاء من الكبائر شيئاً، ولكنه هذا المال، إن أعطاكموه رضيتم، وإن أعطاه قرابته سخطهم، إنما تريدون أن تكونوا كفارس والروم، لا يتركون أميراً إلا قتلوه، ففاضت عيناه بأربع من الدمع ثم قال: اللهم لا تُرد ذلك. وكان ابن عمر رضي الله عنهما كثيراً ما يركز في نصائحه للعامة على لزوم الجماعة والأعراض عن دماء المسلمين وأموالهم، فكتب له رجل: إكتب إلى بالعلم كله، فكتب إليه: إن العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كافاً لسانك عن أعراضهم، لازماً لأمر جماعتهم فأفعل والسلام.
إستجابته لكل من دعاه إلى الخير: ورد أنه كان لا يأتي أميراً – في زمان الفتنة- إلا صلى خلفه وأدى إليه زكاة ماله، وقيل له: أتصلي مع هؤلاء ومع هؤلاء، وبعضهم يقتل بعضاً؟! فقال: من قال: حي على الصلاة أجبته، ومن قال: حيّ على الفلاح أجبته، ومن قال: حيّ على أخيك المسلم وأخذ ماله، قلت: لا. وكان إبن عمر يتبوأ مكانة رفيعة في الأمة لصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه وعبادته وزهده، وكان عبدالله بن محيريز – رحمه الله- يراه أمانا في الأرض، حيث قال: والله إن كنت أعد بقاء ابن عمر أمانا لأهل الأرض.
لم تدع هذه المدرسة إلى وجوب الخضوع المطلق للسلطان: حيث لم يدع ابن عمر رضي الله عنه إلى جواز البيعة القهرية، ولم يوجد في حياته ما يدل على عدم إهتمامه بأمور المسلمين السياسية أو عدم المشاركة فيها، وكان أسلوبه هو الحوار واللجوء إلى الشورى، والابتعاد عن الاقتتال، وكانت محايدته كنوع من البعد عن المشاركة في سفك الدماء بسبب التصارع على السلطة، مع العمل على تهيئة الظروف والمناخ السياسي الملائم ليجمع شمل الأمة. وكان يقول: كففت يدي عن القتال فلم أندم، والمقاتل على الحق أفضل. وروى حبيب بن ثابت: أن ابن عمر عندما حضرته الوفاة قال: ما أجد في نفسي شيئاً إلا أن لم أقاتل الفئة الباغية مع علي. ورُوي عته أنه قال: ما آسى على شيء من هذه الدنيا إلا على ثلاث: ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا. قال الذهبي: يعني الحجاج. وهذه الأقوال من ابن عمر رضي الله عنهما تدحض وتبين ضعف الرأي الذي جعل إبن عمر رائداً لمدرسة الخضوع السياسي للسلطان، وخاصة أن ابن عمر هو الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث: ” على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر في معصية فلا سمع ولا طاعة”، والحديث يدل على عدم طاعة الحاكم إذا أمر بمعصية أو خرج عن حكم الله، ولا يمكن لإبن عمر أن يخالف حديثاً رواه. وعلى ذلك فإن مدرسة إبن عمر تقوم على أن الطاعة للحاكم الشرعي الذي بويع بالإجماع أو إتفاق الأغلبية، واجبة ما لم يأمر بمعصية، فإن ظلم أو جار فلا طاعة له، بل يجب مناصحته، فإن لم تُجدِ المناصحة يجب عندئذ اللجوء إلى المعارضة الصريحة، مع التأكيد أن هذه المدرسة كانت تكره اللجوء إلى العنف والإقتتال، لما في ذلك من سفك الدماء وإضعاف لوحدة الجماعة. فإذا كان من البديهي في أصول هذه المدرسة عدم وجود حاكم معصوم وإن كان شرعياً، فمن باب أولى عدم وجود أمير معصوم، سواء كان أميرا في صلاة أو حج أو كان أمير علم أو أمير سفر أو أمير هيئة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر أو أمير حركة او جماعة إسلامية، وإذا كان من المؤكد عليه في أصول هذه المدرسة أن طاعة الحاكم الشرعي واجبة ما لم يأمر بمعصية، وأنه إذا ظلم أو جار فلا طاعة له، بل يجب مناصحته فإن لم تُجدِ المناصحة يجب عندئذ اللجوء إلى المعارضة الصريحة الراشدة البعيدة عن إثارة الفتن، فإن من باب أولى أن طاعة أي أمير دفعته الأحداث أن يتأمر على مصلحة من مصالح الدين أو الدنيا أو كلاهما ليست واجبة إذا أمر بمعصية، وأنه إذا ظلم أو جار فلا طاعة له، بل يجب مناصحته فإن لم تُجدِ المناصحة يجب عندئذ اللجوء إلى المعارضة الصريحة الراشدة البعيدة عن إثارة الفتن. وبناء على ما تقدم فأن الوقاية من الفتن وكيفية التصرف عند وقوع الفتن تقوم في الأساس على فهم شرعي وليس على مجرد فهم سياسي أبتر أو تقدير مصلحة دنيوية زائلة، أو فرض رأي شخصي مقطوع عن الفهم الشرعي، ولذلك نحن مطالبون أن نتعامل مع الوقاية من الفتن على إعتبار أنها علم شرعي وليست مجرد موضوع عابر دنيوي سطحي يجوز للجميع أن يخوض فيه، ويجوز لكل الأقلام أن تكتب عنه بعلم شرعي أو بغير علم شرعي، ويجوز لصفحات التواصل أن تنشر عنه نشراً منفلتاً من أصول العلم الشرعي المحدد لكيفية التعامل مع الفتن ما ظهر منها وما بطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى