معركة الوعي (264) الخطأ القاتل على طريق خط النهاية
حامد اغبارية
1)
“بيرفِكتْ كرايم”.. هكذا يسمونها نظريا، وتعني الجريمة الكاملة. وهي نظرية من ذلك النوع الذي يبقى في إطاره النظري الذي لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع مهما طال الزمن، ومهما تعاقبت الدهور. وربما كانت هذه النظرية هي الوحيدة من هذا النوع، إذ ليست هنا جريمة متكاملة الأركان، تمكّن مرتكبها من النجاة والإفلات من العقاب إلى الأبد.
هناك جرائم تُفَكّ رموزها بعد أيام أو بعد سنة أو خمس سنوات أو عشر سنوات، وجرائم يماط اللثام عنها بعد خمسين سنة، وأخرى بعد سبعين أو سبع وسبعين أو ثمانين أو مائة سنة….
مجرم أحمق ذلك الذي يظن أنه إذا أحكمَ خطّتَه، واستعان بكل الأدوات البشرية والمادية لارتكاب جريمته، وجاءه المدد من شهود الزور من كل لون، ومن القارات السبع، ومن جزر واق الواق، فحكم له القضاء بالبراءة، أنه بريء حقا، أو أنه سيحلو له العيش ويطيب له المقام!
ولذلك تجد في ملفات الجريمة على مستوى العالم، وعلى مستوى المنطقة، وعلى مستوى المؤسسة الإسرائيلية، أن مجرمين كثرا عُرفوا “بالذكاء الخارق” و “التخطيط المذهل” و “العبقرية الإجرامية”، إلى درجة نيل الإعجاب، وإذا بهم، وبعد سنوات أو عقود، يرتكبون حماقة تبدو بسيطة وساذجة، وخطأ فادحا يحسبونه هيّنا، فيوقعون أنفسهم في شر أعمالهم، ويدفعون الثمن ليس فقط على الجريمة التي أحكم حبكتها ونسج خيوطها بإتقان، وإنما على سلسلة الجرائم التي ارتكبها دون أن يحاسَب عليها، أو دون أن يدرك أحد أنه ارتكبها أو أنها جرائم أصلا.
وإن كثيرا من الجرائم عبر التاريخ ما عُدّ لأزمان طويلة من أعمال البطولة، أو من ممارسة الحق الطبيعي، ليتضح أنها لا بطولة ولا حق، وإنما هي من أعمال الزعرنة والبلطجة واستطالة الباطل وانتفاشه في زمن ضعُف فيه صاحب الحق، ولم يكن له نصير ولا ظهير، لا بكلمة حق ولا بموقف ولا حتى بلقمة أو شربة ماء، ناهيك عن مواجهة المجرم والقول للأعور “أعور” في عينه. وهذا ينسحب على الجرائم الجنائية، مثلما ينسحب على الجرائم السياسية والجرائم المتعلقة بتزوير التاريخ والآثار والسرديات؛ التاريخي منها والديني والحضاري.
2)
على مدار 17 سنة حاولت العديد من الجهات، الرسمية وغير الرسمية على مستوى المنطقة والعالم، إقناع الاحتلال الإسرائيلي برفع الحصار عن قطاع غزة، أو على الأقل تخفيفه بين الحين والآخر، لأن مواصلة الحصار، بل وتشديده من حين إلى آخر سيؤدي في نهاية المطاف إلى كارثة إنسانية لن يستطيع العالم تحمّلها وتحمل تبعاتها. لكن الاحتلال الإسرائيلي سدر في غِيّه، ورفض كل هذه التوجهات، بل واتهم بعضها بمساندة “الإرهاب” تارة ومعاداة السامية تارة أخرى. وبدلا من الاستجابة لهذه التوجهات مارس طوال سنوات الحصار تلك أقبح أنواع التضييق، إلى درجة ممارسة القرصنة البحرية ضد كل محاولة لفك الحصار عن غزة ولو بشكل رمزي.
وخلال تلك السنوات شن الاحتلال أربعة حروب لم يحقق من ورائها شيئا مما زعم أو أراد، بل كانت النتيجة عكسية تماما. وجراء ذلك الرفض لرفع الحصار جاءت اللحظة التي انفجر فيها كل شيء في وجه الاحتلال يوم السابع من تشرين الأول 2023، فكانت صدمة يصعب وصفها، ليس فقط للاحتلال وإنما للعالم كله، الغربي منه والعربي على حدّ سواء.
ولم تكن الصدمة لردة فعل غزة على الحصار، التي ربما توقعتها جهات كثير، وإنما لشكلها وحجمها وطريقة تنفيذها، والأهم من ذلك: اتضاح هشاشة كل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وفي مقدمتها الاستخبارية، وغطيط المستوى السياسي الذي لم يقرأ الصورة بشكل صحيح، وظن أن كل شيء على ما يرام، وأنه مسيطر على الأمور تماما!
3)
ولعلّ تجربة غزة تشكل نموذجا مصغّرا لما يمكن أن يأتي لاحقا. فقد فتح هذا النموذج كل الأبواب على كل السيناريوهات المحتملة، وكلّها ليست في صالح الاحتلال، الذي فقدَ خلال سنتين ما “بناه” طوال ثمانية عقود من فرض روايته على الرأي العام العالمي، ومن سيطرة على المشهد الإعلامي، ومن دعم شعبي غربي غير مشروط، ومن دعم اقتصادي وعسكري وسياسي وأمني واستخباراتي حول العالم.
لقد فقدَ الاحتلال الكثير الكثير من هذا، وليس فقط على المستوى الشعبي وإنما، وهو الأخطر بالنسبة له، على المستوى الرسمي في العديد من الدول الغربية التي كانت قبل الأحداث الأخيرة حصنا ضامنا وحضنا دافئا لتل- أبيب.
ولعل أهم ما فقدَه الاحتلال في السنتين الأخيريتين ثقته بقوته وبقدرته على فرض نفسه كقوة مهيمنة في المنطقة. وهذا يعتبر من أهم وأكبر وأخطر التحولات في تاريخ الصراع على فلسطين. وواضح أن هذا سيكون له ما بعده، وهذا ما يمكن تسميته “سيناريو الرعب” بالنسبة للمنظومة الغربية وعلى رأسها المؤسسة الإسرائيلية.
4)
هذا بالضبط ما فهمه الجنرال احتياط “يتسحاك بريك” الذي وجه هذا الأسبوع تحذيرا أمنيًّا لنتنياهو وحكومته حول السيناريوهات المتوقع حدوثها على مختلف الجبهات: غزة والضفة ولبنان وسوريا وإيران… والذي أكد فيه أن تل أبيب قد تُفاجأ بما لا تتوقعه على هذه الجبهات، وأن عليها أن تستعد لهذا وإلا فإن الكارثة ستقع لا محالة…. لكن يبدو أن نتنياهو وحكومته في واد و “بريك” والأحداث القادمة في واد آخر… فنتنياهو لا يصغي إلا لنفسه، و “نفسه” هذه مقيدة بسلاسل من حديد ضربها حولها اليمين المتطرف بقيادة بن غفير وسموطرتش …
5)
لذلك لا بد من سؤال لحوح: ما هي الحماقة التي سيرتكبها نتنياهو وحكومته، وما هو الخطأ القاتل الذي يمكن أن يرتكبه لينفرط العقد ويوصل المنطقة إلى خط النهاية؟!
إذن، لم يكن السؤال إذا ما كان سيرتكب حماقة، وإنما السؤال عن ماهيتها، عن نوعها وشكلها ومكانها وتوقيتها..
في المشهد الحالي تبدو الأمور قد استتبت لنتنياهو وحكومته على مختلف الجبهات. فهو يضرب في غزة خارقا كل الاتفاقات، ناقضا لكل العهود، ويضرب في الضفة، ويضرب في لبنان، ويضرب في سوريا. ولما أن الوضع في هذه الجبهات الأربع يبدو وكأنه يسير كما تريد تل – أبيب، إذ أن غزة ملتزمة بالاتفاقية، وهي تعض على النواجذ أمام كل الخروقات الإسرائيلية، والضفة باتت ساحة مستباحة تماما وسوائب المستوطنين يعيثون فيها فسادا وتخريبا، ولبنان يبدو كمن بات لا يعرف يمينه من شماله، وسوريا الجديدة صامتة، تعض على النواجذ هي الأخرى، فإنّ احتمال ارتكاب نتنياهو للخطأ القاتل وارد بقوة، في الجبهات الأربع، أو في إحداها على الأقل. وقد يبدو هذا الخطأ وكأنه لا شيء، ولن يؤدي إلى ردة فعل تشكل خطرا، تماما كمثال “الجريمة الكاملة” التي ليس لها وجود على أرض الواقع..



