أخبار عاجلةدين ودنيا

املأ قلبي باليقين ثبتني على هذا الدين (3)

مارية محاجنة

إن الايمان يزيد وينقص، يزيد بالوصل والطاعة وينقص بالمعصية والبعد عن الله. إن مما لا شك فيه أنّ الإيمان الحقيقي يظهر في المحن والأزمات ولا تقوى كل مناهج الأرض أن تخفف عن أهل الابتلاء بلاءهم سوى ايمان عميق بالله ورسله وكتبه وملائكته والقدر خيره وشره واليوم الآخر، وجميعها تندرج تحت الإيمان بالغيب.

فالإيمان بالغيب قضية مركزية في التصوّر الإسلاميّ، ولهذا بدأت سورة البقرة بالتركيز عليها وخُتمت كذلك بالتأكيد عليها، وفي ثنايا السورة تم الحديث عن أركان الإسلام ومنظومته التشريعية، كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 2-3]،

وختمت السورة كذلك بالتركيز على الإيمان بالغيب في قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].

يقول أ. خالد حنفي: “وعالَم الغيب يقابل عالَم الشهادة، وهو كل ما غاب عنا. كما يقول ابن عباس رضي الله عنه: “الغيب كل ما أُمِرْتَ بالإيمان به مما غاب عن بصرك، وذلك مثل الملائكة والجنة والنار والصراط والميزان ونحوها”، ونحن اليوم بحاجة ماسة إلى تعميق الإيمان بالغيب لدى شبابنا في عالم التشكيك والإثارة وعدم اليقين إلا في المُشاهد المحسوس.

وقد شرع الله الكثير من التشريعات والأحكام لترسيخ واختبار الإيمان بالغيب. الإيمان بغيوب أحداث الدنيا كالإيمان بغيوب الآخرة

والغيب هنا لا يقصد به غيب العوالم الخفية في الآخرة فحسب كالجنة والنار والحساب والصراط، وإنما أيضا غيوب الدنيا وأحداثها كالرزق، والفوز، وعقوبة الظالم الدنيوية والأخروية، فالله سبحانه وتعالى أقسم على أمر الرزق فقال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 22-23] وفي الحديث: “إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي، أنَّ نفسًا لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها، وتستوعِبَ رزقَها، فاتَّقوا اللهَ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ”، لكنَّ ضعف الإيمان بالغيب عند بعض الناس جعلهم يخافون على أرزاقهم ويخشون فواتها ويسعون إلى تأمينها وضمانها بوسائل قانونية مشروعة أو غير مشروعة، وقد ألمح إلى هذا المعني فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى حين قال: الوظيفة تضعف العقيدة. ولمّا سُئل: كيف ذلك؟ قال: هل رأيت موظفا يقول في الصباح: اللهم ارزقني!

والفوز كذلك غيبٌ، والقرآن الكريم حافلٌ بالآيات التي تقطع بنصر الله للمؤمنين كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، وقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173]، وقوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60]، ولكن هذا النصر وإن كان حدثا دنيويا مشهودا فهو غيبٌ قدَّر الله وقته عند استيفاء شرطه بحق المؤمنين، فاليقين فيه لا يصح أن يتزعزع لتأخره عنا بنظرنا القاصر، وهو المعنى الذي قصده ابن عطاء الله السكندري رحمه الله في الحكمة السابعة من حكمه العطائية: “لا يشككنّك في الوعد عدم وقوع الموعود وإن تعين زمنه؛ لئلا يكون ذلك قدحا في بصيرتك وإخمادا لنور سريرتك”. يتبع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى