أخبار وتقاريردين ودنيامقالاتومضات

الاستهلاك الجنوني.. حين يفقد الإنسان توازنه

ليلى غليون

الاستهلاك الجنوني أو جنون الاستهلاك لا فرق بين المصطلحين، من أبرز سمات هذه المرحلة التي تشهد تحولات وتغيرات غير مسبوقة في القيم والمعايير ونظرة الناس إلى الأمور.

فمن المفترض، أن أهمية الاستهلاك تكمن في كونه نشاطًا اقتصاديًا يلبي حاجات الإنسان الضرورية والأساسية، ولكن نظرة بسيطة لواقع وصور الاستهلاك في مجتمعنا الذي أنهكته الماديات وأفقدته بساطته، تظهر أن الاستهلاك تحول من كونه حاجة ضرورية إلى نمط حياة عند معظم الأفراد، لا بل في كثير من الأحيان أصبح هو من يحدد مكانة وقيمة الفرد في ذاته وفي نظر الناس، ليصبح وسيلة للتفاخر والمظاهر والمقارنات والبرستيج، خاصة وأن الإنسان المعاصر اليوم يعيش وسط طوفان من الإعلانات الصاخبة التي تغسل العقول بالمواد الإغرائية التي تروّج لمنتجات لا تعد ولا تحصى، وتدغدغ اللاوعي عنده بالصور اللامعة والرموز البراقة، مستميتة لإقناعه بأن السعادة تشترى، بل تقنعه أن مزيدًا من السعادة والرفاهية التي يبحث عنها الإنسان في هذا الزمن الصعب، لا تتحقق إلا بامتلاكه المزيد من المقتنيات والمستجدات على أشكالها وأنواعها المتعددة والمختلفة، سواء كان الانسان بحاجة إليها أم كانت خارج دائرة حاجته، لتمتلكه هي وإن كان يعتقد أنه هو من يمتلكها، ليعيش في وهم كبير لا يمنحه سوى تعب داخلي مستمر، وسعي دائم نحو المزيد دون نهاية، وهذا باعتقادي أخطر أمراض العصر التي لا تنهش بجسده، بل تنهش براحة البال وبالوعي والقيم التي تربى عليها.

وحسب آراء علماء النفس في هذا الصدد، فإن الاستهلاك لمجرد الاستهلاك ودون الحاجة إليه، ما هو إلا محاولة من صاحب هذا السلوك لملء فراغ داخلي أو لتعويض نقص يشعر به، أو لإثبات الوجود في مجتمع يُقاس الفرد فيه بما يملك لا بما يكون، حيث يجد في الاستهلاك الرضا والراحة النفسية، فيلجأ إلى الشراء والاقتناء وتكديس الأشياء والتي ربما لن يحتاجها، أو على الأقل ليس بحاجة إليها آنيًا، ولكن ما أن يحقق ما يريد، حتى يعاوده الشعور بالفراغ ثانية، ويتبخر شعوره بالرضا ليعود لنفس الدائرة التي لا تنتهي إلا بالتعب والقلق وربما الضياع، وهي دائرة الشراء والاستهلاك من جديد التي ليس لها أول ولا آخر، ليستهلك أكثر وأكثر وأكثر، ليتحول إلى مستهلك دائم يعيش في حالة عطش لا يرتوي. يقول الفيلسوف جيل دولوز: “الرغبة لا تُشبَع بالاستهلاك، بل تتكاثر كلما أُشبعت”.

إن أي مجتمع كان، يقوم على الوجاهة الاجتماعية والمقارنات والتنافس الاستهلاكي ويصفق للمظهر ويتغاضى عن الجوهر، هو مجتمع هش ضعيف، بل مجتمع مزيف بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وكيف لا وقيمة الإنسان فيه بما يملك لا بما ينتج ويبدع ويقدم ويعطي، ويُعرَّف بما لديه لا بما هو عليه، فتكون مكانته عالية واسمه لامعًا إذا امتلك سيارة سيقضي سني عمره وهو يسدد أقساطها وربما ورّث دينها لأبنائه لأنه عجز عن سداده، وهو أبو المراجل كلهم إذا كان عرس ابنه مادة للتفاخر والحديث بين الناس، ولو كلفه فوق طاقته، وتكون هي سيدة نساء بلدها لأنها تشتري وتقتني أحدث المنتجات والماركات العالمية ولا تفوّت منتجًا جديدًا إلا وكانت هي السباقة لشرائه ولو تسبب ذلك في مشاكل بينها وبين زوجها، وتكون هي أميرة الأميرات يتحدث عنها القاصي والداني وهي تلبس فستان عرسها ذا التسعيرة الخيالية الذي أحرق ما تبقى من جيب عريسها إن بقي أصلًا في جيبه شيء، ليحتدم التنافس والسباق بين الناس ويكون على أشده، ولكن نحو المظاهر والقشور، بل نحو الهاوية، أقصد الهاوية الاقتصادية التي حتما ستؤول لمزيد من الهاويات، النفسية والاجتماعية والأسرية والزوجية.

لقد آن الأوان أن نسأل أنفسنا السؤال الصعب: حين نستهلك ما لا نحتاج إليه، وحين نحيي مناسباتنا على اختلافها بمبالغ تعجز طاقاتنا المادية عن دفعها، من نحاول أن نرضي بهذا السلوك؟ هل فعلًا نرضي حاجة في أنفسنا أو لملء فراغ في داخلنا؟ أم يا ترى إرضاء لعادات المجتمع والناس؟

هل صرنا لا نرى أنفسنا في مرآتنا الخاصة، ولا في ضمائرنا، وصرنا نراها في عيون ومرآة الآخرين، نقيس ذواتنا بمقاييسهم، ونقيمها بميزانهم، وجل اهتمامنا ماذا سيقولون عنا لا بما نحن فعلًا عليه؟

كم منا من يملك قراراته الاستهلاكية، ولم يقع أسيرًا في عبودية السوق وبهرج الاعلانات التجارية؟

كم منا من يشتري أشياء، أو يرتدي أزياء لأنها فقط موضة، مع أنها لا تعبر عن ذوقه، وأحيانًا يندم بعد شرائها لأنها لم تلائم رغبته؟

كم منا من يقتني أشياء حتى يقال إنه اقتناها مع أنه ليس بحاجة إليها؟

كم منا من يتخلص من أشياء صالحة للاستعمال فقط ليستبدلها بجديد؟

هل غدت حياتنا مجرد عرض نعرضه أمام الآخرين منتظرين منهم بشوق ولهفة تصفيقًا أو إعجابًا أو مديحًا؟

إنني في هذا المقال لن أقدم نصائح في كيفية الترشيد الاستهلاكي أو الاقتصادي، فقد تحدث الكثير من الاختصاصيين الاقتصاديين عن ذلك، وعن كيفية ضبط السلوك الشرائي، وقدموا للمستهلك نصائح ذهبية في كيفية كسر دائرة الاستهلاك الجنوني، تلك النصائح التي لو طبقت لوفرنا على أنفسنا الكثير من العناء والضياع في زحمة الحياة الاستهلاكية المحمومة وصخبها، ووصلنا إلى بر الأمان، إلى قناعة تقول لنا: الاكتفاء وليس الامتلاك.

ولكنني أقول، إن التحرر من قيد الاستهلاك الجنوني وسطوته يكمن بالقناعة والاتزان في الأمور كلها، مقاومته ممكنة بالوعي والتفكير، بأن نملك أنفسنا وإرادتنا، لأننا حين نملك أنفسنا لا تعود الأشياء تملكنا، وإن الإجابة عن السؤال المطروح: من نحاول أن نرضي، تكمن في رضانا الداخلي عن أنفسنا وليس في إرضاء الآخرين، تكمن في أن نصطلح مع أنفسنا قبل أن نصطلح مع الآخرين، لأننا إذا افتقدنا الرضا في دواخلنا حتمًا سنذوب سعيًا لإرضاء الآخرين… ولن نرضيهم أبدًا مهما فعلنا.

آن الأوان أن نتحرر من وهم الامتلاك والمظاهر والشكليات الفارغة التي أرهقت أعصابنا واستنزفت طمأنينتنا واستقرارنا قبل أن تستنزف وتحرق جيوبنا، وأن نتذوق طعم السعادة الحقيقية التي لا تباع ولا تشترى، لا بالاستهلاك ولا بالمقتنيات ولا بكنوز الدنيا كلها، وذلك بالإيمان بالله عز وجل، وما يُزرع في قلوبنا من طمأنينة تغنينا عن اللهاث المحموم وراء كل شيء جديد ومستحدث.

إن السعادة الحقيقية بالقناعة، بالعلاقات الصادقة، بالعطاء، بالحب، بالإيثار، بالتكافل، بالعلاقات الصادقة، وإن سعادة الإنسان لا تأتيه من خارج نفسه، بل إن موقعها في وجدانه، والقلب المعمور بكل هذه القيم السامية والمبادئ الراقية، لا يحتاج للمظاهر والقشور( وشوفوني يا ناس) لملئه، لأنه أصلًا ممتلئ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى