يوسف عليه السلام بين حسد الإخوة ومكر الأعداء
الداعية مارية محاجنة
يتقلب المؤمن في سيره إلى الله بين خمس شدائد: شدةُ مؤمنٍ يحسده، ومنافقٍ يُبغضه، وكافرٍ يُقاتله، ونفسٍ تُنازعه، وشيطانٍ يُضِلّه…
تأتي سورة يوسف لتربط على قلب المؤمن المبتلى، تُبصّره الطريق، وتمنحه اليقين بأقدار الله.
إذ يجد نفسه نبيّ الله يوسف مُلقى في غياهب الجُبّ، بفعل الحسد من إخوته، تاركينه وحيدًا شريدًا. وجاءوا أباهم عشاءً يبكونه كذبًا، متّهمين الذئب المسكين بأكله، وقد جهّزوا دليلًا مُضلّلًا بدمٍ كذب على قميصه!
رموه في الجُبّ، ولا ناصر له ولا معين إلا مولاه عزّ وجل. فتشاء الأقدار أن يكون الفرج على يد الغريب لا الإخوة، والبعيد لا القريب، لما مرّت السيارة به فأدلى دلوه والتقطوه.
فيُباع لعزيز مصر، ويوعز لزوجته بإكرام مثواه، عسى أن ينفعهما عندما يبلغ أشدّه. وقد آتاه الله حكمًا وعلمًا، جزاء إحسانه.
ثم يكون ابتلاء الفتنة: شاب وسيم، جميل، كأن وجهه القمر، في خلوة مع امرأة ذات منصب وجمال. فيعتصم بالله مولاه، فيرى برهان ربه. ولمّا تشتدّ به البلوى، يلهج بالدعاء:
“ربّ إنّ السجن أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه”.
فيكون العوض بعد سنوات من السجن والقهر وأسر الحرية، ببراءته وطهره. بل أصبح من أسيرٍ ظُلمًا إلى عزيزٍ لمصر، متصدّرًا مشهد القيادة، لما آتاه الله من فضله: من تأويل الأحلام، وعلم الإدارة، ورعاية شؤون الدولة.
ولتُتلى آيات الله إلى يوم الدين، فـلا يُمكّن حتى يُبتلى، ويكون الابتلاء وقود التمكين:
“قالَ اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظٌ عليمٌ”
وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
وليحتسب الأجر من أثخنته الدنيا بمصائبها، وعثرات الطريق، ولأوائه، متوجهًا إلى مولاه، يبتغي الآخرة، وما عند الله خيرٌ وأبقى.
لا دنيا تطوّعه، ولا نفسٌ تنازعه، ولا شيطانٌ يُضِلّه، مبتهلًا يلهج بقول ربنا: “ولأجر الآخرة خيرٌ للذين آمنوا وكانوا يتقون”
وليصبر، ويتصبّر، رغم الأذى ومرارة الفقد، ليحوز معية الله: “والله يحبّ الصابرين”…
“إنه من يتّقِ ويصبر فإن الله لا يُضيع أجر المحسنين”.
ولتُسطّر السورة أن لا يغلب عُسرٌ يُسريين، وأن مع العسر يُسرًا، إلى قيام الساعة.
سُنّة الله، ولن تجد لسُنّة الله تبديلاً.
وليكون الصبر مشتركًا بين يوسف وأبيه يعقوب عليهما السلام، فيُسطّران: “فصبرٌ جميلٌ، والله المستعان على ما تصفون”…
وليكون الشكوى لله، لا لأحدٍ من خلقه: “قال إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون”.
وليكون جزاء الصبر والذود إلى الله، التكريم بعد النكران، والتمكين بعد الابتلاء: “ورفع أبويه على العرش، وخرّوا له سُجّدًا، وقال: يا أبتِ، هذا تأويل رؤياي من قبل، قد جعلها ربي حقًّا، وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن، وجاء بكم من البدو، من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي، إنّ ربي لطيفٌ لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم”.
وليَهجر السائر في دروب الخالدين اليأس: “ولا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون”.
وليستشعر معية الله، والافتقار إليه، حتى بعد التمكين، فلا يرتدّ على عقبيه بفعل الغرور والعُجب، بل يديم الافتقار إلى الله تعالى: “ربّ قد آتيتني من الملك، وعلّمتني من تأويل الأحاديث، فاطر السماوات والأرض، أنت وليّي في الدنيا والآخرة توفّني مسلمًا، وألحقني بالصالحين”..
واشدُدْ يديك بحبلِ الله مُعتصمًا
فإنّه الركنُ إن خانتكَ أركانُ
من يتّقِ الله يُحمَدْ في عواقبه
ويكفِهِ شرّ من عزّوا ومن هانوا
وأوّل وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
نشر هذا المقال في مجلة الدرر المقدسية في عددها الأخير تشرين الأول 2025


