أخبار وتقاريرمقالاتومضات

معركة الوعي (256) عقليّة ساديّة ونفسيّة مهزومة

حامد اغبارية

1)

هذا السلوك ليس جديدا، ولا هو ردّة فعل لسلوك مقابل مماثل، وهو أيضا ليس طارئا لارتباطه بحدثٍ ما، وإنما هو جزء من العقلية، منغرس في أعماق النفسيّة، حتى بات مميِّزا لصاحبه، يُعرف به بين الناس. هو في حقيقته حالة مرضيّة مزمنة يصعب، بل يستحيل علاجها والشفاء منها.

2)

هناك صنف من البشر يعتقد أن الله تعالى- حاشاه سبحانه- منحه ترخيصا مفتوحا ليفعل بسائر البشر ما يشاء، مع وعد أنه لن يعاقبه ولن يسائله ولن يلومه ولن يعاتبه ولن يغضب منه ولا عليه بل سيفرح بأفعاله، لأنه أصلا خلق الكون بما فيه من أجله هو فقط، ثم خلق هذا الصنف “المميز” من البشر ليسرح ويمرح في الكون الفسيح، ويرفس يمنة ويسرة، ويذبح ويسلخ، ويلطم هذا ويصفع ذاك، يقتل ويدمر ويتسلى ويتلذذ ويستمتع بما يفعل، ويرقص ويغني ويتشفّى بآلام الآخرين، لأنّه قد استقر في وعيه أن الآخر أقل منه شأنا، ولأنّه تربى منذ الرّضعة الأولى أنّ الآخَر، وإن كان يشبه البشر في الخلقة، إلا أنه ليس من البشر، وفي التالي لا بأس من تحقيره والتنكيل به وحرمانه من حقوقه ونهب ممتلكاته وتملّكها ظلما وغدرا. وتجد داخل هذا الصنف قطاعا واسعا يعتقد اعتقادا سماويا، أن الآخر ليس فقط أنه ليس طبقة مستحقرة من البشر، بل هو إما حيوان وإما حشرة وإما أفعى من الواجب قتله وسحقه، تقرّبا من الله وإرضاء له!!

3)

إن لكل سلوك وتصرف تفسيرا منطقيا أو علميا أو طبيا بسيخولجيًّا.

فبأي تفسير وشرح وتوضيح وتحليل يمكن وصف السلوك الإسرائيلي في التعامل مع الأسرى الفلسطينيين أثناء تنفيذ صفقات التبادل، بما فيها الصفقة الأخيرة هذا الأسبوع؟!!

بماذا يمكن تفسير التنكيل المتعمد بالأسير، مع تكبيل اليدين، وعصب العينين، والضرب والإذلال والسب والشتم والإهانة حتى آخر لحظة قبل إطلاق سراحه؟!

بماذا يمكن تفسير اقتحام بيوت الأسرى، قبل تحررهم، وتهديد أُسَرهم وعائلاتهم وتحذيرهم من أي مظهر من مظاهر الفرح والاحتفال؟!

بماذا يمكن تفسير منع أي مظهر من مظاهر الاحتفال بتحرير الأسرى في بلدات الضفة الغربية المحتلة عام 1967، وبيوتها وشوارعها، وحرمان الأهل من مجرد زغرودة، أو صرخة فرح، أو رفع علم، أو حتى إطلاق أبواق السيارات تعبيرا عن الفرح؟!

بماذا يمكن تفسير حرمان عشرات الأسر الفلسطينية من السفر للقاء أبنائها الأسرى المبعدين خارج الوطن؟!

بماذا يمكن تفسير تعمّد تجويع الأسرى الفلسطينيين في سجونهم، وتعطيشهم وحرمانهم من العلاج، وتعذيبهم جسديا ونفسيا؟

بماذا يمكن تفسير عرض فيديوهات قصيرة، على الأسير، يحتوي مشاهد من الدمار الذي أحدثه الاحتلال في غزة، ثم يقال للأسير: هذا ثمن حريتك؟!!

بماذا يمكن تفسير ما قاله قائد جهاز الاستخبارات العسكرية، أهارون حليفا من أنه مقابل كل قتيل يهودي يجب قتل خمسين فلسطينيا، ولا يهم إن كان بينهم أطفال، وإن قتل فلسطينيين في غزة وإذلالهم هو جزء من أهداف الحرب؟!

لا أجد لهذا كله، ولغيره الكثير من ممارسات الاحتلال ضد كل ما هو فلسطيني، سوى تفسير واحد: إنه الاستشعار الداخلي في اللاوعي المتراكم، بالاستعلاء والشعور بأن هذا سلوك طبيعيّ.

إنّها العقلية الغارقة في قاع الساديّة. لكنّ الأهم من ذلك هو الشعور النفسي بالهزيمة، وإن لم يعترف بها، وإن حاول استبدالها، في خطابه المهزوز للرأي العام، بمظهر المنتصر!

إن المنتصر حقا، وإنّ الذي نجح في تحقيق أهدافه التي أعلن عنها لا يسلك هذا السلوك، ولا يمارس كل هذه الأفعال والفظائع، بل هو سلوك المهزوم، الذي يحاول تعويض هزيمته، ميدانيا ونفسيا، بأفعال انتقاميّة ذات خلفية عقائدية.

4)

لا تجد أكثر نذالة وانحطاطا ووضاعة من امرئ يعطي العهود وينقضها، ويقدم الوعود ويخلفها، ويوقّع على عهوده ووعوده على الملأ ثم يخرقها، ثم يلقي بتهمة خرقها ونقضها على الآخرين، في الوقت الذي يعرف كلُّ مَن حوله أنه يكذب ويضلل ويزوّر…

وأكثر منه نذالة ذلك الذي لا أخلاق له، لا على المستوى الشخصي، ولا في السياسة ولا في الحرب.

نعم! فللحروب أخلاقيات وضوابط وقوانين، وللحروب أعراف عليها إجماع بشريّ.

ولقد كان فيما مضى من أزمان أن يقدّم العدوّ التحية لعدوّه في ميدان المعركة، تقديرا لفروسيته واحتراما لشجاعته وانبهارا بأخلاقه. فأين الثرى من الثريا؟!

5)

هناك قائمة طويلة من الأكاذيب والأضاليل والقصص الخيالية المخترعة تتعلق بالوضع الراهن، وجدت لها من يروجها ويدعمها ويصدّقها ويبني سياساته ومواقفه بناء عليها، حتى لو فقدت هذه الأكاذيب والأضاليل والقصص دليلا، مهما كان صغيرا، أو قرينة مهما كانت مشبوهة.

بعد أن ينجلي الغبار، وتهدأ العاصفة، ويمضي الوقت اللازم، سوف تنكشف الحقيقة المتعلقة بتلك الأكاذيب والأضاليل والقصص الخيالية. وإن الذي سيكشفها هو مخترعها. وسوف يقول لك: كانت هذه الأكاذيب والأضاليل والقصص الخيالية ضرورية للتجييش والحشد وكسب التأييد وتبرير الممارسات.

6)

يقول لك ترامب: الحرب انتهت. لقد تعب منها الناس!

سنرى إن كانت الحرب قد انتهت! لأن هناك من يؤزها أزًّا ويشعل فتيلها كلما هدأت. وترامب يعرف من هو، لكنه لا يجرؤ على قول الحقيقة.

نعم! هناك أناس تعبوا من الحرب!

والسؤال: من هم الذين تعبوا من هذه الحرب؟ حقًّا، من هم؟!!!!!!

إنهم الذين حشدوا كل ذي رجلين، واستنجدوا بكل دابّة رباعية الدفع على كوكب الأرض، من أجل وقفها!

ذلك أنهم وصلوا مرحلة بات فيها واضحا أنه إذا استمرت المعركة الحالية فإنه سيكون من المستحيل حتى مجرد الوقوف أمام الكاميرات، والتحدث مجرد حديث عن انتصارات.

7)

ستخرج لك، الآن، مخلوقات لتقول لك: عن أي شيء تتحدث ونحن نرى كل هذا الدمار، والخراب، وهذا العدد الرهيب من الضحايا؟ لقد شطحت بخيالك ورُحت بعيدا؟ أنت لا ترى الواقع!

نعم. إنه الواقع الذي تراه العيون ولا ترى أبعد منه. ولا تقرأ الحروف الصغيرة في كتاب التاريخ، بل تتعلق بالعناوين البراقة الضخمة، كتعلق الطفل وانبهاره بـ “بالعمالقة” الذين يظهرون له على شاشة السينما.

نحن نرى بعين البصيرة لا بعين الرأس.

ونحن نصدّق الحبيب ونصدق ما قال.

وقد قال لنا أشياء كثيرة بالتفصيل، وكانت كلها طبق الأصل؛ تاريخا وحاضرا ومستقبلا.

أتريدني أن أكذّب إبراهيم وأصدّق النمرود؟

أتريدني أن أكذب موسى وهارون وأصدّق فرعون؟

أتريدني أن أكذب عيسى وأصدق قيصر والكتبة والفريسيين؟

أتريدني أن أكذّب حبيبي وأصدّق أبا جهل؟

8)

رغم الحديث المكثف عن السلام، كما يتردد على مدار الساعة على لسان ترامب والقطيع التابع له في المنطقة، إلا أن ما شاهدناه في الأيام الأخيرة لا يحمل أية بوادر سلام أو ما يشبهه. إنه كلام يسحرون به أعين العامة من الناس.

ليس هناك سلام الآن. ولن يكون سلام غدا ولا بعد غد ولا بعد سنة ولا بعد قرن.

أقول هذا ليس رفضا للسلام، ولا استيآسا منه، بل لأن الذين يتحدثون عنه كذابون ولصوص. إنهم لا يريدون سلاما، بل استسلاما على مقاسهم.

أما السلام الذي نعرفه ونريده فلا علاقة له بـ “سلامهم”، ولا يعرفه من قريب أو بعيد.

حركة التاريخ تسير في اتجاه، وهم يسيرون في اتجاه آخر.

9)

لذلك فإن خطة ترامب التي يجري التعامل معها في الوقت الحاضر، لا تحمل أي خير، لا لشعبنا ولا لأمتنا. وفي المعايير الحقيقية هي صفعة وإهانة لكل الأنظمة التي اصطفّت تحت لوائها.

ولقد قلت سابقا إن ترامب سيعود إلى لغته الأم الحقيقية. وها هو، وبعد بضعة أيام فقط من خطته، عاد يهدد ويتوعد ويرعد ويزبد بلغة البلطجة والزعرنة التي لا يتقن غيرها، هو ومن لفّ لفّه.

إنها خطة تحمل في مرحلتيها الثانية والثالثة شرا وسوءا ولؤما وأفخاخا كثيرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى