عُدَدُ الهوى.. وعُدَدُ الوغى

الشيخ عبد الله عيّاش- عضو حركة الدعوة والإصلاح
ينظر الناس اليوم إلى أهل غزة -سيما أطفالها- فلا يرون إلا البؤس والمعاناة، ولا يشعرون إلا بالحزن والأسى، ويتبادر إلى أذهانهم سؤال: أي مستقبل ينتظر هؤلاء المساكين؟ وهذه في الحقيقة نظرة قاصرة، تدل على جهل بالتاريخ والسنن، وحتى أوضح لكم قصدي، سنترك أطفال غزة قليلًا، على أن نعود إليهم بعد قليل إن شاء الله.
سأعود بحضراتكم إلى بدايات الدعوة الإسلامية؛ إلى السنوات الأولى من عمر هذا الدين العظيم.
فبعدما هاجر المسلمون إلى المدينة؛ لم يزل الإسلام في ازدهار وانتشار؛ نجح النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بفتح مكة والانتصار على قريش، وأَحكَمَ الصدّيقُ قبضته على الجزيرة العربية بهزيمة المرتدين، وأزال عمر مملكتي فارس والروم؛ أعظم مملكتين في ذلك العصر، وفتح عثمان ليبيا وتونس وقبرص وأرمينيا وبلاد القوقاز في النصف الأول من خلافته، ثم بدأ يقلّ زخم الانتصارات، وبدأت تتباطأ وتيرة الفتوحات، وظهرت الفتن والانقسامات؛ لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها الآن، ولكننا سنذكر واحدًا منها، ولعله من أهمها؛ ألا وهو كثرة الخير والنعم، ووفرة الطعام واللباس، بكلمات أخرى: أقبلت الدنيا وشبع الناس!
تقول عائشة رضي الله عنها، وهي التي عاشت هذه المراحل كلها، وواكبت هذه التطورات والتغيّرات، تقول: (أول بدعة حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشبع، إن القوم لما شبعت بطونهم؛ جمحت بهم نفوسهم إلى الدنيا)، إذن؛ أول تغيّر سلبي حصل للمسلمين وَفَتَّ في عضدهم هو أنهم: شبعوا!
قال الحسن البصري رحمه الله: أدركت عثمان -وأنا يومئذ قد راهقت الحلم- قَلَّما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون فيه خيرًا؛ فيقال لهم: يا معشر المسلمين، اغدوا على أعطياتكم، فيأخذونها وافرة.
ثم يقال لهم: يا معشر المسلمين، اغدوا على أرزاقكم فيأخذونها وافرة. ثم يقال لهم: يا معشر المسلمين اغدوا على كسوتكم، فَيُجاءُ بالحُلَل فتقسم بينهم. قال الحسن: حتى والله سمعت أذناي: يا معشر المسلمين، اغدوا على السمن والعسل!
نعم، إنها الدنيا التي لطالما قرأنا في القرآن أنها عدوٌ لنا؛ وأن الاغترار بها مهلكة، والركون إليها مفسدة، كانت هي السبب في الانتقال من الفتوحات الخارجية إلى الفتن الداخلية.
ثم اسمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول وكأنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق: “وَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ”.
هذا الكلام له من واقعنا -نحن أهل الداخل الفلسطيني- أعظم شاهد وأكبر دليل؛ فمشكلتنا الحقيقية أننا شبعنا، وهي ذات المشكلة التي فتكت بالمسلمين في الزمن الأول، انظروا إلى طعامنا ولباسنا وسياراتنا وبيوتنا، انظروا إلى أعراسنا ورحلاتنا، بل انظروا إلى نفاياتنا! لقد عمّ الخير وزاد الرزق وكثر المال، فوقع التنافس والتنازع والتحاسد والخصام، ثم ثارت الفتن، وفسدت العلاقات.
هذا واقعنا نحن، ولكن واقع غزة وأطفالها مختلف، مَن أقرب إلى زمن الإسلام الأول؟ نحن أم هم؟ أي ظروف تصنع التغيير؟ أي تربية تنهض بالأمة؟ أي شباب؟ أي جيل؟ جيل الـ (إكس إل، والتيك توك، والعالم الافتراضي)؟! هل تُعقد الآمال على هذا الشباب الغافل المخدّر، الذي يجرح خديه لمسُ النسيم، ويدمي بنانَه مسُّ الحرير! أبدًا والله.
فلا يقلق أحد على أطفال غزة، فهؤلاء الفقراء الجوعى، أصحاب الوجوه المغبرّة والأقدام الحافية والثياب الممزقة، هؤلاء هم أمل الأمة، وغدها المشرق، وعزّها المرتقب، ودليل هذا الاستشراف ما سبق بيانه أن المسلمين لما كانوا فقراء يربطون الأحجار على بطونهم من الجوع دوّخوا الدنيا، وفتحوا العالم، ولما شبعوا… رتعوا!
وإليكم هذه القصة التي توضّح الفرق بين جيل وجيل، وشباب وشباب: كان لمعز الدولة البويهي مملوك تركي في غاية الجمال، وكان شديد المحبة له؛ فأراد معز الدولة هذا أن يبعث جيشًا لحرب بعض أعدائه، فجعل المملوكَ المذكورَ مُقدَّمَ الجيشِ وقائدَه، فقال له وزيره المهلّبي: يا سيدي هذا من عُدَد الهوى لا من عُدَد الوغى؛ يعني هذا محسوب على أهل اللهو واللعب، هذا يصلح للغناء والرقص والسهر والسمر، ولا يصلح للمهمات الصعبة والقضايا المصيرية، ولكن معزّ الدولة أصر على توليته. فكانت النتيجة كما تنبأ الوزير؛ لقي الجيش شر هزيمة، ورجع القائد الجميل المؤنّق يجر أذيال الخيبة، تاركًا جيشه وراءه بين قتيل وجريح وأسير، فلما رآه الوزير أنشد قائلا:
طِفلٌ يرقُّ الماءُ في وَجَناتِه ويرفُّ عودُه
ويكاد من شَبَه العذارى فيه أن تبدو نهودُه
ناطوا بمعقد خصره سيفا ومِنطَقَةً تؤوده
جعلوه قائد عسكرٍ ضاعَ الرعيلُ ومن يقوده
يقول العلامة ابن خلدون: الأوقات الصعبة تصنع رجالًا أقوياء، والرجال الأقوياء يصنعون أوقاتًا جيدة.
والأوقات الجيدة تصنع رجالًا ضعفاء، والرجال الضعفاء يصنعون أوقاتًا صعبة، اللهم نسألك أوقاتًا جيدة لإخواننا المظلومين المكلومين.


