أخبار وتقاريرمحلياتمقالاتومضات

“المدينة”: أصالة الورق وحارسة الذاكرة في زمن التحوّل الرقمي

ساهر غزاوي

بداية، لا بدّ من كلمة تُنصف صحيفة “المدينة” التي تستحق التقدير بجدارة، وهي تُضيء شمعتها السادسة والثلاثين منذ انطلاقتها الأولى في تشرين الأول/أكتوبر عام 1991.

بدأت مشوارها المتألق بـ الأسود والأبيض، قبل ثورة الإنترنت وانتشار الإعلام الرقمي، وظلت منذ ذلك الحين- ولا تزال- مثالًا للثبات على النهج والرسالة.

فقد حافظت “المدينة” على حضورها وهويتها، ممثلة الخط الإسلامي الوسطي والوطني الأصيل، وممارسة دورها الإعلامي بمهنية عالية وانحياز واع لقضايا الداخل الفلسطيني في أراضي الـ48، ولحقوق الشعب الفلسطيني، وقضايا الأمة العربية والإسلامية، والضمير الإنساني العالمي الحر.

ولي مع صحيفة “المدينة” تجربة شخصية أعتز بها، وإن كانت زمنًا قصيرة مقارنة بصحافيين مخضرمين أفنوا أعمارهم في ميادين الصحافة، ولا سيّما في الصحف الورقية التي كانت مهد الكلمة الصادقة وبوابة الوعي الجمعي.

بدأت مسيرتي الصحافية مع “المدينة” عام 2017 بكتابة الأخبار والتقارير التي تتناول القضايا العامة، وتسلط الضوء على الملفات الساخنة، وتفتح النقاش حول موضوعات تمس الإنسان والمجتمع.

واستمر هذا العطاء حتى بدايات عام 2022، في تجربة أعتبرها غنية بكل المقاييس، بل لا أبالغ إن قلت إنها كانت- بمشيئة الله- المرحلة التي هيّأتني نفسيًا ومهنيًا للانتقال إلى كتابة مقالات الرأي الأسبوعية في صحيفة “المدينة”، التي بدأتُها منذ أيلول/سبتمبر 2020 وما زلت أواصلها حتى اليوم.

وقد أخذت على نفسي عهدًا أن أواصل الكتابة في هذا المنبر بكل ما أُوتيت من قوة وطاقة وقدرة، إيمانًا راسخًا بأن هذا المنبر لا يقل شأنًا عن أيّ منبر خطابي أو علمي أو أكاديمي آخر، بل يُكمل رسالته في خدمة الوعي وصون الكلمة الحرة، والدفاع عن قضايا الإنسان والمجتمع، وعن الثوابت والمبادئ التي شكلت- وما تزال- السمة البارزة لصحيفة “المدينة” ونهجها المهني وحضورها الإعلامي المميّز في هذا الوسط.

لا شك أن صحيفة “المدينة”، شأنها شأن سائر الصحف الورقية في هذه المرحلة الحساسة، تمر بتحوّلات عميقة فرضها تطور الإعلام وسرعة الانتقال إلى المنصات الرقمية.

فالعصر الذي كان فيه القارئ يُقدر الورق والحبر، أصبح اليوم زمن الشاشات والهواتف الذكية، حيث تُستهلك المعلومة بسرعة وتُنسى بالسرعة ذاتها. ومع ذلك، فإن الصحف الورقية- و”المدينة” في طليعتها- ما تزال تحتفظ بخصوصيتها الفريدة؛ اللمسة الإنسانية، واللغة الرصينة، والالتزام المهني والأخلاقي في نقل الحقيقة بعيدًا عن ضجيج المنصات وتسارع الأخبار غير الموثقة.

قبل ثورة الإنترنت، كانت الصحف الورقية المصدر الرئيسي للمعلومة والمرجع الأكثر موثوقية لدى القرّاء والباحثين وصنّاع القرار. فقد مثلت نافذة المجتمع على العالم ومنبرًا لتبادل الآراء وصياغة الوعي العام، وأدت دورها بوصفها أرشيفًا للذاكرة الجماعية التي تحفظ الوقائع وتوثّق الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية بدقة، لتبقى محفوظاتها إلى اليوم مرجعًا لا يُستغنى عنه في البحوث التاريخية والاجتماعية والسياسية.

وهنا تستوقفني تجربة شخصية تؤكد هذه الحقيقة؛ فعندما كنت أُعدّ كتاب “الإعدامات الميدانية: مواطنون عرب قُتلوا على يد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية خارج إطار القانون”، الصادر عن مؤسسة ميزان قبل نحو عامين، صادفت اسمًا لأحد الضحايا يتكرر في مواقع إلكترونية عدة على أنه موثّق ومؤكد.

غير أن العودة إلى أرشيف الصحف الورقية كشفت بعد تدقيق أن الاسم لم يكن ضمن الضحايا أصلًا، بل خطأً رقميًا تكرر دون مراجعة. وقد سارعت بعض الصحف الورقية إلى تصحيح المعلومة في عددها اللاحق.

ومن هذه التجربة أدركتُ بوضوح أن الصحافة الورقية تظل مصدرًا توثيقيًا أكثر دقةً ومصداقيةً من كثير من المواقع الإلكترونية، وركيزةً أساسية لحفظ الحقيقة من التشويه.

لقد غيّرت ثورة الإنترنت والاتصالات خريطة الإعلام، فانتقل التنافس من الصحف الورقية نفسها إلى مواجهة مع الإعلام الرقمي الذي يمتاز بسرعة النشر والتحديث اللحظي بالصوت والصورة.

ومع هذا التحوّل، برزت إشكاليات تتعلق بالمصداقية واستدامة الأرشفة، مما أعاد التأكيد على أهمية الصحافة الورقية بوصفها وثيقة مادية أصيلة تحفظ الذاكرة وتمنح الباحثين القدرة على العودة إلى النص كما نُشر أول مرة.

ورغم الحديث عن “نهاية الصحافة الورقية”، فقد أثبت الواقع أنها قادرة على التكيّف مع التحوّلات دون أن تفقد رسالتها، تمامًا كما نجحت سابقًا في التعايش مع الإذاعة والتلفاز. فهي ليست مجرد ناقل للأخبار، بل منبر للمعرفة والتحليل العميق ولسان حال المجتمع، تعبر عن هموم الناس وتُسهم في تشكيل الرأي العام وصنع القرار. كما أنها ما زالت تتميّز بموثوقيتها العالية وجودتها التحريرية، وهو ما جعلها مصدرًا مفضلًا للباحثين والمثقفين وصُنّاع القرار.

وتتجلى أهمية الصحف الورقية كذلك في قيمتها التوثيقية والثقافية؛ فهي سجل حيّ للأحداث ورافد أساسي للبحث العلمي، لما تحتويه من بيانات وصور وإعلانات تعبر عن روح كل حقبة زمنية، وتربط الماضي بالحاضر بصورة لا تقدر المنصات الرقمية على مجاراتها. فهي تمثل ذاكرة الإعلام وتاريخه، وتساعد صُنّاع القرار في فهم اتجاهات الرأي العام واستشراف أولويات المجتمع.

ومن هنا، فإن استمرار الصحافة الورقية لا يُعد ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة مهنية ووطنية ومعرفية للحفاظ على الوعي الجمعي وصون الذاكرة التاريخية في زمن تتسارع فيه الأحداث وتختلط فيه الحقيقة بضجيج السرعة والمعلومة العابرة.

وفي هذا السياق، تبرز صحيفة “المدينة” نموذجًا حيًّا على قدرة الصحافة الورقية الفلسطينية على الصمود والتجدّد في آن واحد. فعلى امتداد أكثر من ثلاثة عقود، ظلت وفيّةً لرسالتها المهنية، محافظةً على نهجها الإسلامي الوسطي والوطني الأصيل، وفي الوقت نفسه منفتحةً على أدوات العصر الرقمي وتحولاته.

تحوّلت من منبر تقليدي إلى مساحة جامعة تعبر عن هموم الناس وتوثّق صوتهم الحر، مؤكدةً أن الصحافة الورقية الأصيلة لا تموت ما دامت الكلمة الصادقة حيّة في وجدان شعب يرى في الوعي خط الدفاع الأول عن الوجود والهوية.

وإذا كانت الصحف الفلسطينية والعربية التي سبقت النكبة قد أسهمت في بلورة الوعي الوطني وتشكيل الخطاب السياسي والثقافي الفلسطيني من خلال تفاعل اللغة والدين والأرض كرموز للمقاومة والبقاء، فإن “المدينة” في عقدها الرابع تُواصل المسيرة ذاتها بروح جديدة وأدوات معاصرة.

فهي امتداد لذلك الإرث الصحفي الرائد، تعبر عن نبض الناس وتوثّق تحوّلات المجتمع، وتواكب التحديات السياسية والاجتماعية التي يمر بها الداخل الفلسطيني. وإن استمرارها في أداء رسالتها بإخلاص ومهنية يؤكد أنّ الكلمة الصادقة- حين تُكتب بوعي ومسؤولية- تبقى شاهدًا حيًّا على التاريخ، وضميرًا ناطقًا باسم الإنسان والوطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى