مصير غزة مفتاح لمصير البشرية

الشيخ رائد صلاح
إنَّ الذي في عقل ترامب هو وقف إطلاق النار وليس إنهاء الحرب في غزة. وهو يقول، من ضمن تصريحاته الأخيرة، إن هناك تفاصيل سيتم العمل عليها خلال المفاوضات.
وهذا يعني في حساباته أن مصير غزة لا يزال رهين المفاوضات حول بعض تفصيلات الخطة التي عُرفت باسم “خطة ترامب”، والتي أشرف على صياغتها الثعلب توني بلير. وهذا يعني أن هناك غموضًا لا يزال يحيط بغزة؛ ولذلك صرَّح الوزير الإسرائيلي ساعر أن الخطوة القادمة، بعد إعادة الأسرى الإسرائيليين الأحياء والأموات، هي نزع سلاح حماس، وهذا ما يتطلب تدمير الأنفاق، على حد قوله.
وتدمير الأنفاق يعني عودة التوغل العسكري الإسرائيلي في غزة وخان يونس، مما يعني عودة الحرب على غزة بكل ما حملت من كوارث عليها.
ومن المطلوب، وفق التفاهمات المعلن عنها حتى الآن، أن يتم تسليم الأسرى الإسرائيليين الأحياء والأموات حتى يوم الاثنين الموافق 13/10/2025. فهل سيصبح كل شيء متوقعًا بعد ذلك؟
سيّما والكل يرى بوضوح أن البيت الأبيض لا يخفي سلوكياته التي تؤكد أنه هو والطرف الإسرائيلي في موقف واحد وفي كفّة واحدة مقابل غزة. فهو ويتكوف؛ المبعوث الأمريكي الذي ألقى كلمة في ميدان الأسرى بتل أبيب.
وهو ويتكوف وقائد القيادة الوسطى الأمريكية اللذان تفقدا حال القوات الإسرائيلية في غزة عند الخط الأصفر الذي وقفت عنده هذه القوات بعد انسحابها من غزة وخانيونس.
وهو ترامب الذي ألقى كلمة في الكنيست يوم الاثنين الماضي وهو الذي كان قد قال لنتنياهو خلال البلورة الأخيرة لخطة ترامب: إن إسرائيل لا تستطيع أن تحارب كل العالم، وهي فرصة لتحقيق النصر على حد قوله.
وهو الذي كان قد قال: “الاثنين يوم عظيم عندما يعود الرهائن”. فهو عظيم في حسابات ترامب لأنه سيشهد، قبل كل شيء، عودة الأسرى الإسرائيليين الأحياء والأموات.
وإلى جانب كل ما أوردتُ أعلاه، فقد بات واضحًا أن الضمان الوحيد لتنفيذ خطة ترامب هو ترامب وحده، وهو كما نعلم شخصية متقلبة، ولا يمكن لأحد من أهل الأرض أن يضمن ثباته على موقف.
ثم ما أسهل على نتنياهو أن يفتعل أي شيء، وأن يقول بعد ذلك إن الطرف الآخر خرق الاتفاق. وهذا قد يعطي مبررًا لعودة الحرب على غزة من جديد. وماذا تملك أن تفعل عندها السبع دول:
السعودية، والأردن، والإمارات، ومصر، وتركيا، وباكستان، وإندونيسيا؟!
وهل سيجدي عندها دور قطر كوسيط ناشط ومثابر بين كل هذه الأطراف؟!
ولذلك نحن أمام مشهد ترقّب شائك ومجهول، ويحق لشعبِنا الفلسطيني أن يُمازِج فيه بين الفرحِ لغزةَ والخوفِ على مصيرِها، وبين التفاؤلِ بعد وقفِ إطلاقِ النارِ بغزةَ من جهةٍ أولى، وبين التساؤلِ حول اليومِ الثاني بعد إطلاقِ سراحِ الأسرى الإسرائيليين الأحياءِ والأمواتِ من جهةٍ ثانية!!
ويحق لشعبِنا الفلسطيني أن يتساءل: هل ستلتقط غزة أنفاسها وتباشر بتوفير أدنى الخدمات، وهي توفير الماء النقي، وعلاج العطب في شبكات الصرف الصحي، وفتح الشوارع التي تكدَّست فيها جبالٌ من الركام، وإزالةُ النفايات، بعد أن تحوَّل كلُّ من ظلَّ حيًّا في غزة إلى مشرَّدين ومشرَّدات؟!
وهل ستتمكّن غزة، فيما بعد، من ترميم الرعاية الصحية والرسالة التعليمية بعد أن وقع الدمار على الكثير من المستشفيات والمدارس والجامعات؟!
وهل ستُمنَح غزة فرصةَ إحلال السكينة والطمأنينة في قلوب أهلها بعد أن نال القصفُ والهدمُ من 80% من بيوتها، والكثير من مساجدها، وبعض كنائسها؟!
وماذا عن 9500 مفقود؟!
هل سيتواصل وقفُ إطلاقِ النار حتى تتمكّن غزة من معرفة مصير كلّ واحدٍ منهم؟! وهل هو حيٌّ أم ميت؟! وهل هو تحت الأنقاض أم في السجون الإسرائيلية؟!
وهل هو جسدٌ بلا روحٍ أم جسدٌ أكلته الكلابُ الضالّة؟!
وهل هو تحت الأرض أم ابتلعَه البحر؟!
ثم ماذا عن مصير سبعةَ عشرَ ألف مريضٍ باتوا بأمسِّ الحاجة إلى السفر إلى الخارج لتلقّي العلاج؟!
هل ستستطيع إمكانيات الدول الراعية لخطة ترامب أن تفتح الطريق لهؤلاء المرضى من معبر رفح المصري وغيره لتلقّي العلاج في الوقت المناسب؟!
أم سيموت الكثير منهم بسبب العجز عن علاجهم في غزة؟!
وماذا عن مليونٍ ونصفِ المليون الذين فقدوا منازلهم في غزة وباتوا من سكّان الخيام المتنقّلة؟!
هل ستهدأ عاصفة التشريد في غزة؟!
وهل ستؤويهم غزة بما يتيسر من خيام قد لا تصمد في وجه رياحِ الشتاء الذي بات على الأبواب؟ وهو عددٌ لا يستهانُ به، سيما إذا عرفنا أن هذا العدد يفوقُ التعدادَ السكانيَّ لكثيرٍ من الدول العربية ذاتِ الاستقلالِ والسيادةِ، والتي تحظى بعلمٍ وجوازِ سفرٍ واعترافٍ أممي؟!!
ولو ضربنا رقمَ مئةِ ألفٍ- الذي قد يصل إليه عددُ شهداء غزة – بخمسةٍ فقط لكانت النتيجةُ نصفَ مليونٍ، وهذا يعني أن هناك نصفَ مليون يتيمٍ على الأقلّ يبكونَ على شهدائهم.
فماذا لو أضفنا رقمَ مئةٍ وسبعينَ ألفًا- وهو عدد المصابين- إلى رقمِ النصفِ مليونٍ لوصلنا إلى نتيجةٍ عصيبةٍ تؤكّد للقاصي والداني من أهلِ الأرضِ أنه ما من بيتَ في غزةَ إلا وفيهِ شهيدٌ أو جريحٌ أو أسيرٌ أو مفقودٌ. وقد تجتمع كل هذه الفواجع في البيت الواحد!!
فهل بعد كل ذلك ستنال غزة حقها كأي بقعة في الأرض كي تدفن شهداءها وأن تداوي جرحاها، وأن تعالج مرضاها، وأن تطعم جياعها وترضع رضّعها، وأن تُؤوي مشرّديها، وأن تسقي عطشاها، وأن تكسو عراتها، وأن تلتقط أنفاسها، سيّما وشهرُ رمضان المبارك بات على الأبواب، بما يحمل للأمّة الإسلامية من صيامِ نهاره وقيامِ ليله، وما يحمل لها من سحور وفطور وليلة قدر، وما يحمل لها من أفراح رائحة الكعكةِ وأفراح عيد الفطر وصلاة عيد الفطر وأغاني الأطفال، وتكبيرات المساجد، وصِلة الأرحام، وتزاور الجيران، وتزيين البيوت والحارات والشوارع!! فهل ستبقى غزة محرومةً من كلّ هذه الأفراح كما حُرمت منها العامين الماضيين؟!
أَوَليست هي من الأمّة الإسلامية؟! فلماذا تُستثنى من هذه الأفراح؟!
لكلّ ذلك، فغزة في مشهدٍ متوتّر، والشعبُ الفلسطيني في موقفٍ مترقّب، والأمّة الإسلامية والعالمُ العربي في انتظارٍ صعب، وسائرُ الدول المسلمة والعربية في امتحانٍ شديد، سيّما قطر والسعودية والأردن ومصر والإمارات وتركيا وباكستان وإندونيسيا، فهي هذه الدول الراعيةُ لخطة ترامب الملغومة إلا إذا ثبت العكس، وهي هذه الدول الشاهدةُ قبل ذلك على ميلاد هذه الخطة، عندما كان لها ذلك اللقاء مع ترامب، وعندما كشف لها ترامب عن خطوط هذه الخطة.
وهي هذه الدول التي تملك مصيرَ الكثير من المصالح الأمريكية، بدايةً من النفط، وما تملك من مواقعها الجغرافية وممرّاتها المائية الإستراتيجية، وما يحيط بها من بحار، وما تتمتّع به من أجواءٍ في السماء، وثرواتٍ في الأرض، وقوّةٍ شرائيةٍ وقدرةٍ استهلاكية.
وهي هذه الدول التي يزيد عددُ سكانها على خمسمائةِ مليونٍ، سوى سائرِ الدول المسلمة والعربية.
وهي هذه الدول التي من المفروض أن يكون لها الوزنُ النوعيُّ الجيوسياسي.
وهي هذه الدول التي من المفروض أن تكون لها كلمةٌ نافذةٌ في هيئة الأمم المتحدة وما تفرّع عنها من مجالس ومنظمات ووكالات.
وهي هذه الدول التي تملك أن تُقيم سوقًا إسلاميًّة عربيًّة مشتركًة تُنافس السوقَ الأوروبية المشتركة، وأن تُقيم اتحادًا إسلاميًّا عربيًّا يُنافس الاتحادَ الأوروبي، وأن تُقيم عملةً نقديّةً إسلاميّةً عربيّةً تُنافس الدولار الأمريكي واليورو الاوروبي، وأن تُقيم منظومةً إعلاميّةً عالميّةً، وشبكةَ تواصلٍ تُنافس فيسبوك وإنستغرام وتيك توك وسائرَ أسماءِ هذه الشبكاتِ المتغطرسةِ المغرورة.
وهي هذه الدول التي باتت أنفاسُها تحت أعين شعوبها، وباتت شعوبها تُحصي عليها كلَّ ما يصدر عنها من قولٍ أو فعلٍ أو موقف، وتُراقب كلَّ حركةٍ تصدر منها، وتَرصد كلَّ نفسٍ تتنفَّسه.
وكذلك فهي هذه الدولُ في امتحانٍ شديد، أصعبُ ممّا هو عليه امتحانُ غزة.
ويا لها إن أضاعت هذه الفرصة الآن إذا صمتت عن عودة كربِ غزة إلى غزة! فلا أظنّ أن شعوبها ستلتمس لها عذرًا، ولا أظنّ أنّها ستتسامح معها، ولا أظنّ أنّها ستمهلها فرصةً أخرى.
فهي شعوبها المحتقنة بالآلام والهمّ وتأنيب الضمير. وهي شعوبها التي توجَّهت إليها بألفِ رجاءٍ كي تتصالح مع هذه الشعوب، ومع طموح هذه الشعوب، ومع إرادة هذه الشعوب، على مدار عشراتِ السنين الماضية؟!
لذلك هي غزة الآن المفتاح المفصلي لمصير أهل غزة، وهي غزة الآن المفتاح المفصلي لمصير شعبنا الفلسطيني، وهي غزة الآن المفتاح المفصلي لمصير الشعوب المسلمة والعربية، وهي غزة الآن المفتاح المفصلي لمصير الدول المسلمة والعربية. فإذا تعافت إنسانية غزة بعد أوجاع عامين، فسوف ينعكس هذا التعافي إيجابًا على شعبنا الفلسطيني، وعلى الشعوب المسلمة والعربية، وعلى الدول المسلمة والعربية.
وإلا، إن نكثت بعض الأطراف هذا التوافق الاضطراري، الذي عرف بخطة ترامب، تحت أي ادعاء كان فقد تدخل الأمة الإسلامية والعالم العربي في تيهة دهيماء كلما قيل إنقضت تمادت ثم هي البشرية كلها التي ستزداد غضبًا، وهي التي ستخرج إلى الشوارع بأضعاف ما كانت عليه؛ وهي التي ستسيّر أساطيل الصمودِ والإغاثةِ بأضعاف ما كانت عليه. وقد تخطو بوعيها وضمائرها وتطلعاتها نحو بشريةٍ جديدةٍ ذاتِ قيمٍ إنسانية جديدةٍ لا يحكمها الجورُ والظلمُ،
ولا تتحكَّم بها الأحلافُ الجشعةُ العابرةُ للقارات، سواء كانت أحلافًا صليبيةً صهيونية، أو أحلافًا استعماريةً مارقة، أو أحلافًا رأسماليةً متوحشة، أو أحلافًا رِبويةً انتهازية، أو أحلافًا إباحيةً منفلتة، أو أحلافًا باطنيةً وثنيةً متحجِّرة، أو أحلافًا متكبّرةً تعبُدُ ذاتَها وقوتَها.
وأنا على يقينٍ أن هذه الشعوبَ المسلمةَ والعربيةَ النائمة لن تبقى نائمة، ولن تبقى تطبطب على حكامِها؛ فهو التغييرُ قادمٌ على صعيدِه العالمِي والإسلاميِّ والعربي، وهي الأيامُ حُبالى بكلِّ خيرٍ إن شاء الله تعالى.



