أخبار وتقاريرمقالاتومضات

مواقع التواصل الاجتماعي في قفص الاتهام (4)

ليلى غليون

لا يزال الحديث موصولًا بسابقه حول قضية الطلاق المستشرية في مجتمعنا والتي أشعلت ألف ضوء أحمر للتحرك وللعمل الجاد للوقوف عند أسبابها ومسبباتها لعلنا ننجح في تشخيص الداء وتقديم الدواء.

لقد تبين من المعطيات الأخيرة التي قدَّمتها المحاكم حول نسبة الطلاق وأسبابه المتعددة في مجتمعنا، أن هناك أسبابًا غير تقليدية ساهمت وتساهم في تقويض البناء الزوجي، ومن أبرزها مواقع التواصل الاجتماعي، والتي من شدة سطوتها باتت الحياة الزوجية تواجه تحديات غير مسبوقة.

وباتت الشاشة الصغيرة تتسلل بهدوء إلى تفاصيل الحياة اليومية تسرق الوقت وتشتت الانتباه وتباعد المسافات بين من يُفترض أن يجمعهم أقدس رباط، فالخصوصية في هذا الزمن الرقمي عملة نادرة، بل مفقودة في كثير من الأحيان، والخيالات مفتوحة على الشاشات الصغيرة، وكل شيء أصبح معروضًا على الملأ، هناك من يرجع الأمر للتسلية أو الفضول، وهناك من يريد الهروب من واقع أرهقه نفسيًا وجسديًا، وهناك… وهناك… ولكن في غالب الأحيان ما تكون هذه التسلية أو هذا الهروب أو الفضول أو… بداية شرخ عميق في البناء الأسري وتمزق حاد في نسيج العلاقة بين الزوجين.

فالحياة الزوجية عند الكثير من الأزواج وفي ظل هذا الواقع الرقمي، لم تعد بين شخصين اثنين فقط الزوج والزوجة، بل صار يشاركهما أطراف رقمية أخرى: متابعون، مؤثرون، معجبون، معلقون، غرباء، من كلا الجنسين، لتكون بداية الانهيار الزوجي من مجرد “لايك” عابر بريء قد لا يُلتفت إليه، يتطور إلى تعارف طويل يدق ألف مسمار في نعش الزوجية، أو من متابعة لحسابات ظاهرها قضاء الوقت وقتل الفراغ والتسلية، ولكن باطنها معول هدم خفي بدأ يتحرك نحو أسس الزوجية، أو من مقارنات مدمرة بين الحياة الواقعية التي يعيشها معظم الناس وبين الحياة المثالية الوردية الوهمية التي تصورها وتصدرها هذه المواقع، ليشتعل فتيل الأزمة بين الزوجين الذي ربما يصعب إخماده.

وبفضل الادمان على متابعة هذه المواقع يتسلل الانفصال العاطفي بين الزوجين، وتفقد الحياة بينهما روحها، ويتراجع التواصل الحقيقي، وبفضل التأثر بالمحتويات السلبية والمغلوطة عن الزواج، كل هذا بالتأكيد سيخلق بيئة خصبة من وعدم الثقة والمشاحنات وسوء الظن وعدم الرضى والمراقبة ومشاكل تتراكم حتى تنفجر، لتكون العاصفة الي تنذر بالطوفان

فهل يمكن أن يبني الزوجان سور حماية لعشهما الزوجي من هذه مخاطر؟

وهل يمكن تحصين الحياة الزوجية في زمن مواقع التواصل؟

باعتقادي من الخطأ أن نقول إن مواقع التواصل الاجتماعي بحد ذاتها سبب مباشر لدمار البيوت، مع أنها أداة تأثير قوية، فهي ليست شريرة بطبيعتها، بل، المشكلة تكمن في سوء استخدامها الذي أدى ويؤدي لنتائج مدمرة ليس على الزوجين فقط بل على المجتمع برمته، فهي قد تهدم العلاقة الزوجية نعم، ولكن عندما تكون هذه العلاقة هشة ومخلخلة من أصلها، فهي تشعل شمعة على شيء مقلق وغير صحي في داخل هذه العلاقة، فالعلاقة المتوترة بين الزوجين لم تبدأ من الشاشة ذاتها، وإن كانت الشاشة قد ساعدت على اشتعالها وتفاقمها، ولكن حسب رأيي العلاقة المتوترة بينهما قائمة في الأصل نتيجة فجوة أو فجوات متراكمة لم تعالج في حينها، وتُركت ملفات المشكلات بعضها فوق بعض دون حل حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، ربما من فراغ عاطفي وأسري فشلا كلا الزوجين في ملئه، أو من مشاعر لكليهما لم تحترم، أو… أو… لتكون المواقع الرقمية هي القشة التي قسمت ظهر البعير وسرّعت من عملية الانفصال وأسدلت الستار على الحياة المشتركة بينهما.

ففي هذا الزمن الصعب، وفي ظل قوة تأثير منصات التواصل على سيرورة حياتنا بصورة عامة وعلى الحياة الزوجية بصورة خاصة، ما هي العوامل المهمة التي تحافظ على تماسك العلاقة الزوجية؟ كيف يمكن التصدي لهذا التهديد؟

• عامل الثقة المتبادلة والتفاهم المستمر بين الزوجين: فمن العوامل المدمرة للحياة الزوجية، أن يتحول الزوجة أو الزوجة أو كلاهما إلى ما يشبه البوليس أو المحقق السري الذي يتتبع كل حركة وكل سكنة وكل اتصال وكل رنة رسالة وكل إعجاب أو تعليق أو متابعة لشريك حياته، فلا أعتقد أن حياة كهذه تسودها أجواء الشك والريبة يمكن أن تُكتب لها الديمومة أو الاستقرار، فعلى الزوجين أن يتجنبا مواضع الشك والظنون أثناء متابعتهما لأي موقع من مواقع التواصل، أو أن يستغرقا أوقاتًا كثيرة في هذه المتابعة أو في استخدام الهاتف بصورة عامة، أو التعليقات والإعجابات غير المناسبة، حتى لا يثير أحدهما في نفس صاحبه الظن والشكوك ليشتعل فتيل الأزمة بينهما، فالثقة تُبنى بالمحبة أولًا والتفاهم والوضوح والصراحة ثانيًا، ولا تبنى في الظلام والهمهمات والهمسات والضبابية حتى لو كان الشخص بريئًا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “…..فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه….”.

• إنه من المؤسف حقًا أن العديد من الأزواج باتوا يصاحبون الهاتف أكثر من مصاحبة بعضهم بعضًا، بل حتى أكثر من مصاحبتهم لأبنائهم أو آبائهم أو أسرتهم الممتدة، ليتحول الهاتف إلى شريك ثالث إن صح التعبير، فتراه حاضرًا في كل لحظة، على مائدة الطعام، غرفة الجلوس، غرفة النوم، في السيارة… وباتوا ينصتون للهاتف أكثر من إنصاتهم لبعضهم، الأمر الذي بالطبع أحدث تباعدًا شعوريًا وجسديًا، وهذا خطر محدق في مسيرة الحياة الزوجية، فإذا لم تنصت لها، وإذا لم تسمعي له، ففي العالم الرقمي آذان صاغية لا تعد ولا تحصى مستعدة للاستماع وللتوجيه وللتدخل وللمشاركة ولكن بأي صورة؟ ومستعدة للنصيحة ولكن إلى الخير أم إلى الشر؟

فإدمان الهاتف من قبل أحد الزوجين أو كليهما يعني إهمال صاحبه، الذي يشعر بأنه مجرد شخص على الهامش، فلا وقت للحديث معه عن الأسرة أو احتياجات البيت أو احتياجاته هو أو الأولاد أو أي شيء آخر، فالوقت مستهلك بتصفح المنصات أو مشاهدة الفيديوهات أو بكتابة التعليقات أو الاعجابات، والنتيجة فراغ عاطفي يبدأ بشكل بسيط يتبعه فتور ثم انفصال عاطفي ثم انفصال حقيقي. وليعلم كلا الزوجان أن مسؤوليتهما ومهماتهما تجاه أسرتهما بحاجة ماسة لكل وقت مهدور وبلا سبب يقضيانه بصحبة الهاتف.

• في العالم الافتراضي، وداعًا للخصوصيات كما ذكرنا في بداية المقال، ولكن حياتكما أيها الزوجان حقيقية وليست افتراضية، وهي ليست مشاعًا ولا مؤسسة عامة يدخلها من يشاء في الوقت الذي يشاء، فلحظاتكما وخصوصيتكما رابط مقدس، فهي لكما وحدكما لا تُصور ولا تُنشر ولا تُشارك حتى مع أقرب الأقرباء. فهي الأكسجين الذي يُبقي على علاقتكما حية تتنفس.

• لماذا لا يكون هناك اتفاق بين الزوجين يلتزمان به على أوقات بلا هواتف، بلا شاشات، بلا عالم افتراضي، يضعان معًا حدودًا لاستخدام الهاتف، أوقات يكون فيها التواصل حقيقيًا بعيدًا عن كل هذه المشتتات.

• العلاقة التي تصمد في الزمن الرقمي هي العلاقة المبنية على أسس راسخة، تُروى بالاهتمام والاحترام، وتُحمى بالخصوصية والثقة، والعلاقة التي بنيت على تواصل حقيقي لن تهدمها أو تهددها الشاشات، بعكس العلاقة الهشة التي يستدرجها العالم الرقمي ويسحبها فيغرقها،لأنها بالأصل مخروقة قابلة للغرق.

فلا نظلم مواقع التواصل الاجتماعي وإن كانت رأس الحربة، فهي مجرد أدوات بأيدينا، ولكننا نظلم أنفسنا حين نستخدمها في غير محلها، وعلى الزوجين أن يتحليا بالحكمة والتعقل في استخدامها، وأن يحرصا على التواصل الحقيقي والثقة والاحترام المتبادل والحوار والمشاركة، فهذه هي الأسس الحقيقية التي يقوم عليها الزواج المتين، وكل ما يهدد هذه الأسس يجب أن يُتجنب ويعالج قبل أن يتفاقم الوضع. فلتكن الشاشة الصغيرة وسيلة للتقارب لا جدارًا للتباعد، ولتكن نافذة يطل منها الزوجان معًا لا حاجزًا يفصل بينهما، والحل ليس بالابتعاد عنها بل ببناء جسور من الوعي العميق والثقة والتفاهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى