لعبة اليمين واليسار ولعبة الكنيست واللعبة المركبة
الشيخ رائد صلاح
لفت انتباهي مارتن شو؛ عالم الاجتماع البريطاني، حيث قال في مداخلة له: إن الذي يتحمل مسؤولية الإبادة الجماعية، التي تقع على غزة الآن، هي الحكومة الإسرائيلية والمعارضة الإسرائيلية ونشطاء اليمين الإسرائيلي والأبواق الإعلامية اليمينية في المجتمع الإسرائيلي، ويتحمل هذه المسؤولية أمريكا ومعظم الدول الغربية وبخاصة بريطانيا.
وهكذا حسم عالم الاجتماع هذا الأمر، ووضع النقاط على الحروف، واعتبر أن كلًا من نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالية، ولبيد رئيس المعارضة الإسرائيلية الحالية يتحملان، كلاهما، مسؤولية هذه الإبادة، إلى جانب كل مكونات الحكومة الإسرائيلية والمعارضة الإسرائيلية.
وهذا يعني أن لعبة اليمين واليسار في المؤسسة الإسرائيلية تقوم على الاختلاف في التكتيكات والاتفاق في الاستراتيجيات.
وعلى سبيل المثال، ها هو مئير غولان، الذي يصنفه البعض أنه من المعارضة الإسرائيلية؛ لا بل قد يصنفه البعض أنه من اليسار الإسرائيلي، ها هو قد قال قبل أيام إن الاعتراف بدولة فلسطين هو تدمير لأمن إسرائيل.
وقد قرأت هذا التصريح على لسانه في الشريط الإخباري لقناة الجزيرة بتاريخ 21/9/2025. وهذا يعني أن المعارضة الإسرائيلية ترفض مبدأ قيام دولة فلسطينية، وتعتبر قيام هذه الدولة الفلسطينية تدميرًا لأمن إسرائيل، بالضبط كما هو موقف الحكومة الإسرائيلية.
وهكذا نجد أن كلا المعسكرين؛ اليمين الإسرائيلي واليسار الإسرائيلي، يتفقان في الاستراتيجيات، وقد يختلفان في التكتيكات. وغنيٌّ عن البيان أن موقف كلا المعسكرين من ملف القدس المباركة، وملف اللاجئين، وملف حق العودة هو موقف واحد.
وقد تختلف لغة الخطاب السياسي والإعلامي بين هذين المعسكرين حول هذه الملفات، ولكن رغم هذه الاختلافات فجوهر موقفهما من هذه الملفات هو موقف واحد.
وهذا يؤكد أن جوهر موقفهما من مصير الضفة الغربية هو موقف واحد، رغم وجود الاختلاف الشكلي بينهما حول هذا الملف تحديدًا، حيث أن اليمين الإسرائيلي بات يطالب علانية بفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية كلها، بينما اليسار الإسرائيلي يوافق على الإبقاء على السلطة الفلسطينية، وعلى الإبقاء على تقسيم الضفة الغربية إلى (A, B, C)، وعلى اشتراط التنسيق الأمني على السلطة الفلسطينية، مما يجعل الضفة الغربية، في المحصلة الأخيرة، تحت السيادة الإسرائيلية، ولكن بالأسلوب الباطني الناعم، بعيدًا عن فظاظة أسلوب اليمين الإسرائيلي وفظاظة تصريحاته حول مصير الضفة الغربية، والتي بات يطلقها نتنياهو وسموتريتش وبن غفير وغيرهم.
وهكذا بعد أن تسقط شكليات الاختلاف بين معسكر اليمين الإسرائيلي ومعسكر اليسار الإسرائيلي حول مصير الضفة الغربية، نجد أن جوهر موقف كليهما هو موقف واحد. ولعل هناك عشرات الشواهد التي تؤكد وحدة استراتيجيات هذين المعسكرين، مع وجود الاختلاف بينهما في التكتيكات. ولذلك لا يزال يحيك في صدري سؤال منذ عامين تقريبًا مفاده أن اليسار الإسرائيلي- كما يسمي نفسه- لو كان في الحكم خلال هذين العامين الماضيين، هل كان سيتصرف بخلاف ما قام به اليمين الإسرائيلي، أم أنه سيرتكب ما يرتكبه الآن اليمين الإسرائيلي، ويوقع على غزة من الحروب والمآسي والشدائد ما يوقعه عليها الآن اليمين الإسرائيلي؟
ثم إن تقسيم المعسكرات السياسية إلى يمين ويسار لا يقف عند حد تقسيم قادة هذه المعسكرات، بل إن هذا التقسيم يتغلغل حتى يشمل تقسيم القاعدة الجماهيرية لكل من هذين المعسكرين. فكما أنه توجد هناك قيادة يمينية إسرائيلية في معسكر اليمين الإسرائيلي، فهناك قاعدة يمينية جماهيرية في معسكر اليمين الإسرائيلي. وكما أنه يوجد هناك قيادة يسارية إسرائيلية- كما يسمون أنفسهم- في معسكر اليسار الإسرائيلي، فهناك قاعدة يسارية جماهيرية في معسكر اليسار الإسرائيلي.
ولكن كل هذه الفوارق ذابت في الحرب على غزة، وكلا القاعدتين الجماهيريتين في معسكر اليمين الإسرائيلي ومعسكر اليسار الإسرائيلي قد انخرطت في هذه الحرب على غزة، ولم يعد هناك شيء اسمه جماهير يمينية وجماهير يسارية.
وعلى سبيل المثال، فإن الطيار الإسرائيلي الذي لا يزال يقصف غزة قد يكون من الجماهير اليمينية الإسرائيلية أو من الجماهير اليسارية الإسرائيلية، وهكذا الحال في سائق الدبابة الإسرائيلية وقائد كتيبة المشاة الإسرائيلية والجندي الإسرائيلي الذين انخرطوا في الحرب على غزة. قد يكون أحدهم من الجماهير اليمينية الإسرائيلية أو الجماهير اليسارية الإسرائيلية.
ووفق قناعتي فإن مصير المؤسسة الإسرائيلية الآن، ونحن في أواخر عام 2025، معلّق الآن بمن يطلقون على أنفسهم اليسار الإسرائيلي!!
لماذا؟
لأن ممارسات حكومة اليمين الإسرائيلي في الحرب على غزة قد جلبت على المؤسسة الإسرائيلية غضبًا عالميًا لا يقف عند حد غضب الفلسطينيين والعرب والمسلمين، بل هو غضب الشعوب كلها في كل الأرض على المؤسسة الإسرائيلية.
ولا يقف هذا الغضب عند حد غضب الجماهير فقط، بل بات هذا الغضب يشمل غضب معظم حكومات أهل الأرض ورؤسائها ووزرائها.
وقد تجلى ذلك بخروج معظم ممثلي حكومات الأرض من الجمعية العامة عندما وقف نتنياهو ليلقي كلمته على منصة هذه الجمعية.
بل بات هذا الغضب يشمل المشاهير من لاعبي كرة القدم وكرة السلة، والمشاهير من الممثلين والممثلات، والمشاهير من رؤساء النقابات العمالية، وحقوق الإنسان، ووكالات الغوث، والجمعيات الطبية، والاتحادات الإعلامية، ومنظمات الطلبة الجامعيين.
لدرجة أن الواحد منا يكفيه أن يشاهد نشرة أخبار واحدة، في قناة “الجزيرة” وغيرها، حتى يدرك أن معظم أهل الأرض باتوا في غضب على المؤسسة الإسرائيلية.
ويبقى السؤال: من هو الذي يمكنه أن يرد هذا الغضب عن المؤسسة الإسرائيلية؟
والجواب: هو اليسار الإسرائيلي- كما يسمي نفسه- بناءً على قواعد لعبة اليمين واليسار في المؤسسة الإسرائيلية. ولذلك فإن القيادات الإسرائيلية في معسكر اليسار الإسرائيلي- كما تسمي نفسها- قد بدأت بتنفيذ هذه المهمة.
وقد تضاعف دورها في أداء هذه المهمة، وستواصل قولها علانية كما سمعنا مثل ذلك أو شبيهًا به من لابيد وباراك ومن يدور في فلكهما، ستواصل قولها علانية: يا أهل الأرض، لتعلموا أن حكومة نتنياهو لا تمثلنا، فهي حكومة يمينية إسرائيلية، ونحن اليسار الإسرائيلي ولسنا اليمين الإسرائيلي، وهي حكومة يمينية إسرائيلية لا تمثل إلا أشخاصها، وهي لا تمثل الشعب الإسرائيلي المحب للسلام والتعايش وحسن الجوار، وهي لا تمثل القيم الصهيونية، ولا تمثل وثيقة استقلال المؤسسة الإسرائيلية!!
نعم، سيواصل قادة معسكر اليسار الإسرائيلي- كما يسمون أنفسهم- تصدير هذا الخطاب بكل لغات أهل الأرض، لأنهم باتوا يدركون أن المؤسسة الإسرائيلية قد تتعرض لقطع حبل الناس عنها، وعندها ستجد نفسها وحيدة، وقد تجد نفسها معزولة ومنبوذة ومحاصرة، وستجد أنها لا تملك القدرات الذاتية الدائمة على استمرارها.
ولذلك فإن قادة معسكر اليسار الإسرائيلي- كما يسمون أنفسهم- باتوا يدركون أنهم هم الوحيدون الذين قد ينجحون في تحرير المؤسسة الإسرائيلية من الغضب العالمي الرسمي والشعبي الذي بات يطاردها في مطارات الدنيا وموانئها البحرية وفنادقها ومطاعمها ومدرجاتها الرياضية وجامعاتها ومسارح فنها وسائر مرافق حياتها، ولن ينفعها عما قريب مراهقات ترامب السياسية، ولا خساسة النفاق السياسي اللئيم الذي لا تزال تمارسه الكثير من الدول الأوروبية، ولا يزال يمارسه الكثير من رؤساء الدول الأوروبية، وفي مقدمتهم رؤساء كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا.
ومن الواضح لكل عاقل، ولأن انتخابات الكنيست باتت على الأبواب، فسيواصل قادة معسكر اليسار الإسرائيلي – كما يسمون أنفسهم – التأكيد أنهم بأمس الحاجة إلى الصوت الإسرائيلي في انتخابات لعبة الكنيست القريبة، لينجحوا بتفكيك حكومة اليمين الإسرائيلي، وكي ينجحوا بتشكيل حكومة يسارية إسرائيلية تجمع رف كلّ الحمام الإسرائيلي المكون من لبيد وليبرمان وآيزنكوت ومئير جولان ويعلون وسائر بطانتهم.
بل إن هؤلاء القادة قد يطالبون، صراحة، مجتمعنا في الداخل الفلسطيني أن يدعمهم بصوته في انتخابات لعبة الكنيست القادمة، وقد يقدمون لمجتمعنا، المأزوم في كل شيء، سيلاً من المواعظ السياسية، وقد يقولون لمجتمعنا المتعثر: لا تفوّتوا الفرصة، واخرجوا عن بكرة أبيكم إلى صناديق انتخابات لعبة الكنيست القريبة حتى لو أدليتم بأصواتكم إلى القوائم العربية التي ستخوض انتخابات هذه اللعبة، وحذاري ثم حذاري أن تقاطعوا انتخابات هذه اللعبة، فستكونون سببًا في عودة حكومة نتنياهو وسموتريتش وبن غفير إلى الحكم!!
وقد تقول قيادات معسكر اليسار الإسرائيلي- كما يسمون أنفسهم- أكثر من ذلك. قد تقول لمجتمعنا، وكأنها أصبحت مع جماهير مجتمعنا التائه في سفينة نجاه واحدة: معًا لنكنس الكنيست من اليمين الإسرائيلي. ومعًا لنوقف الحرب، ومعًا لنعيد الرهائن من المجتمع الإسرائيلي، ومعًا لنجتث جذور الإرهاب، ومعًا لنبني المستقبل الأفضل.
وكم سيسحر هذا الخطاب المركب البعض من جماهير مجتمعنا المضروب على رأسه. فهو خطاب يلمع، ولكن ليس كل ما يلمع ذهبًا، حيث أن هذا الخطاب، وإن مازج بين لعبة اليمين واليسار من جهة، وبين لعبة الكنيست من جهة أخرى، إلا أنه خطاب باطني مركب، حيث قد يتحدث في ظاهره عن السلام والمساواة، وهو يخفي غايته الحقيقية، وهي الوصول إلى سدة الحكومة، وتشكيل حكومة من اليسار الإسرائيلي- كما يسمون أنفسهم- كي تبذل قصارى جهدها ووقتها لإنقاذ المؤسسة الإسرائيلية من الورطة العالمية التي لا تزال تغرق فيها الآن.
ولن يجد حرجًا هؤلاء القادة لهذا المعسكر اليساري الإسرائيلي- كما يسمون أنفسهم- أن تشارك أصوات جماهير مجتمعنا في انتخابات لعبة الكنيست القريبة، ولو بأسلوب غير مباشر، في مهمة إنقاذ المؤسسة الإسرائيلية من هذه الورطة العالمية الحادة.
لا بل إن هؤلاء القادة لهذا المعسكر اليساري الإسرائيلي- كما يسمون أنفسهم- لن يجدوا حرجًا بفتح الباب على مصراعيه لأي قائمة عربية كنيستية كي تنضم إليهم وإلى ائتلافهم.
وقد يرضون لأنفسهم أن يشعروها أنه سيكون لها وزن واعتبار، وسيكون لها تأثير، وستحقق إنجازات تاريخية، ما دامت هذه القائمة العربية الكنيستية، وفق حسابات قادة هذا المعسكر اليساري- كما يسمون أنفسهم- ستسهم من حيث تريد أو لا تريد، في مهمة إخراج المؤسسة الإسرائيلية من ورطتها العالمية الحادة.
وهكذا ستتشابك جدليات المشهد، وستتعقد، وقد يصعب ترتيب الأوراق فيها. وسيلتقي في هذا المشهد لعبة اليمين واليسار الإسرائيلي، ولعبة الكنيست، واللعبة المركبة التي ستجمع بين هاتين اللعبتين.
ولذلك، ووفق قناعتي، يخطئ من يظن أن هناك زاوية بصرية واحدة لفهم جدليات هذا المشهد المركب، وموازين الربح والخسارة فيه متضادة وكثيرة، وموازين الطمع والوهم فيه بلا حدود، ولن يفك طلاسمها بيان اللجنة القطرية الذي دعا إلى تشكيل قائمة طوارئ مشتركة وموحدة في انتخابات لعبة الكنيست القادمة!! لذلك سلفًا أقول: رحمةً بجماهيرنا، ورحمةً بوعيهم قبل كل شيء!! وللحديث تتمة.



