أخبار وتقاريرمقالاتومضات

الإعلام العربي والبعد المفقود

الشيخ رائد صلاح

‎سلفًا أؤكد أن البعد المفقود في الإعلام العربي الإخباري، وفق قناعتي، هو غياب التوجيه المعنوي القائم على الاستفادة من التاريخ واستنباط آليات الخروج من المأزق لمستقبل الشعوب والأمة، وليس مجرد نصائح ومواعظ.

‎ولو نظرنا إلى القنوات العربية كمثال، نجد أنها بعامة قد تزودت بعشرات المحللين الذين باتوا يعرّفون أنفسهم بأنهم خبراء في الشأن الإسرائيلي.

‎وهكذا اجتمع ما يزيد على المائة محلل سياسي في كافة القنوات العربية، وكل بات يُكتب تحت صورته، لدى إطلالته علينا في إحدى القنوات العربية الإخبارية، “خبير في الشأن الإسرائيلي”.

‎وهكذا بات يطل علينا كل هؤلاء الخبراء يوميًا، ليلًا ونهارًا، في شتى القنوات العربية الإخبارية، وبات يقدم لنا وجبة تحليلية للشأن الإسرائيلي، وإسقاطات الشأن الإسرائيلي على غزة، وإسقاطات حكومة نتنياهو على مسار التفاوض، وإسقاطات خطاب رئيس الحكومة الإسرائيلية، ووزير الحرب الإسرائيلي، أو رئيس أركان الجيش الإسرائيلي على مستقبل الرهائن، وإسقاطات تصريح المعارضة الإسرائيلية، أو تصريح رئيس جهاز المخابرات “الشاباك” الإسرائيلي، أو تصريح رئيس جهاز المخابرات “الموساد” الإسرائيلي على فرص وقف إطلاق النار، وإسقاطات المظاهرات الشعبية الإسرائيلية في تل أبيب وحيفا وقيسارية على موقف نتنياهو وترامب وويتكوف على مستقبل حصار غزة.

‎وهكذا، بتنا نتلقى كل يوم، كشعب فلسطيني، وكعالم عربي، وكأمة إسلامية، عشرات وجبات تحليل الشأن الإسرائيلي، والشأن الأمريكي، والشأن الأوروبي، وإسقاطات كل ما يدور في هذه الدوائر الثلاث مجتمعة أو منفردة على فاجعة غزة، وعلى قصف قطر واليمن وسوريا ولبنان وإيران، وعلى تصاعد سخونة التوتر التركي الإسرائيلي، وعلى فرص إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، ووقف ترحيل أهل غزة، وإعادة دور الأونروا.

‎وهكذا، أبدع نخبة من محللي قناة الجزيرة بإحداث وعي شعبي فلسطيني عربي إسلامي عالمي بما يحدث في غزة المنكوبة، ومع ذلك ظل هذا البعد المفقود في إعلام الجزيرة، وفي إعلام سائر القنوات العربية بعامة ألا وهو غياب التوجيه المعنوي كمشروع متكامل وليس مجرد نصائح ومواعظ.

‎وسلفًا أقول: لا يمكن أن نساوي بين إعلام قناة الجزيرة وأخواتها ومحلليها وبين إعلام قناة العربية وأخواتها ومحلليها، ففي خطاب قناة الجزيرة وأخواتها هناك سعي لإظهار حقيقة ما يجري في غزة، ولإبراز ما يقع على غزة من إبادة جماعية وحصار وتجويع وترحيل وقصف للمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس، مما يجعل من كل هذه الممارسات ترقى إلى جرائم حرب وإلى جرائم ضد الإنسانية.

‎ولكن في خطاب قناة العربية وأخواتها، هناك جرأة على الرقص على جراح غزة ودمائها، وعلى دموع أراملها وأيتامها، وعلى أنين جياعها ومرضاها، بهدف مواصلة التمهيد لتوسيع رقعة قافلة التطبيع وتمدد اتفاقية (أَبراهام) طولًا وعرضًا. وكأن قناة العربية وأخواتها تريد أن تقول للشعوب العربية والمسلمة: أنتم بين خيارين لا ثالث لهما، إما أن تصفقوا للتطبيع واتفاقية (أَبراهام)، وإما أن يقع عليكم ما وقع على غزة من كوارث متلاحقة وويلات مستمرة.

‎ومع وجود هذا الفرق الصارخ بين قناة الجزيرة وأخواتها وقناة العربية وأخواتها، لدرجة أن القنوات العربية في المحصلة انقسمت إلى فسطاطين: فسطاط قناة الجزيرة وأخواتها، وفسطاط قناة العربية وأخواتها، ومع ذلك أعود وأؤكد، وفق قناعتي، أنه ظل هذا البعد المفقود حتى الآن في كلا الفسطاطين. وأقصد بالبعد المفقود غياب التوجيه المعنوي كمشروع متكامل عن هذين الفسطاطين حتى الآن.

‎وهذا الغياب لهذا التوجيه المعنوي كمشروع متكامل انعكس بالسلب على نفوس وعقول ومشاعر الشعوب العربية والمسلمة، لماذا؟ لأن هذه الشعوب باتت تعتاد كل يوم أن تشاهد صور المشاهد المروعة للجياع والمرضى والشهداء والقصف في غزة، حتى بات يخيل إليها أن هذا الواقع لا يوجد غيره، ولا يوجد إمكانية لوقفه، ولا قدرة عربية أو مسلمة أو أممية على تغييره، وهو واقع كارثي في تصاعد دون أن تلوح بارقة أمل لصرفه عنغزة، حتى بات البعض منا يصارح للبعض الآخر، وبات يقول له محزونًا موجوعًا: ما عدت أطيق النظر إلى قناة الجزيرة ولا إلى غيرها من قنوات عربية، بل وبات البعض منا يقول للبعض الآخر: ما عدت قادرًا على النوم ليلًا ولا نهارًا، وما عدت قادرًا على الأكل، بل وبات البعض منا يشك في نفسه ويشك في من حوله، وبات يتساءل علانية دون تلعثم: هل نحن على حق أم ماذا؟ والشواهد على ذلك كثيرة، وهي أكثر مما ذكرت.

‎وهذا يعني أن هناك حاجة ملحة لتقييم أثر إعلام القنوات العربية على الشعوب العربية والمسلمة.

‎ومرة بعد مرة أقول: في الوقت الذي لا يزال فيه فسطاط قناة الجزيرة وأخواتها يؤدي دورًا توعويًا على الصعيد الفلسطيني والعربي والإسلامي والعالمي، فلا يزال هناك غياب للتوجيه المعنوي كمشروع متكامل.

‎فالذي كنت أتمناه على فسطاط قناة الجزيرة وأخواتها
‎كحد أدنى أن تواصل استضافة علماء تاريخ من بني جلدتنا العربية والمسلمة، بشرط أن يكونوا من المنتمين إلى تاريخنا الإسلامي العربي، وبشرط أن يكونوا ممن ينظرون إلى هذا التاريخ على بصيرة وفهم في العمق، وبشرط أن يكونوا ممن يحسنون القراءة الراشدة لهذا التاريخ والاستنباط الراشد للدروس والعبر من هذا التاريخ، وبشرط أن يكونوا ممن يحسنون عقد المقارنة المتدبرة الحكيمة بين هذا التاريخ وواقعنا المعاصر على الصعيد الفلسطيني والعربي والإسلامي، وبشرط أن يمنحهم فسطاط قناة الجزيرة وأخواتها الفرصة الكاملة والمستديمة للقيام بجانب من تغطية هذا البعد المفقود، وهو التوجيه المعنوي كمشروع متكامل.

‎حيث إنني على يقين أن هذا التمني الذي أتمناه لو تحقق، ولو أطل علينا هؤلاء العلماء المؤرخون المنتمون إلى تاريخنا والقارئون لتاريخنا على بصيرة، لحدثونا بلغة الشواهد التاريخية أن الكرب الشديد الذي يقع على غزة الآن ليس هو أول كرب شديد وقع عليها، بل وقع عليها عبر القرون الماضية أكثر من كرب شديد، وكانت بعض الكروب الماضية التي وقعت على غزة أشد من الكرب الشديد الواقع عليها الآن، ومع ذلك تجاوزتها غزة بعد أن قيل في الماضي: انتهت غزة، ثم وقفت غزة على قدميها بعد أن قيل: أبيدت غزة، ثم أحبطت كيد زحوف المستعمرين في الماضي بعد أن قيل: كانت هناك غزة.

‎ومن يقرأ على بصيرة تجربة غزة مع المشروع الصليبي بقيادة البابا أوربان، وتجربتها مع المشروع التتاري بقيادة هولاكو، يجد مصداق ما أقول.

‎ولو واصل فسطاط قناة الجزيرة وأخواتها استضافة هؤلاء الثقات من علمائنا المؤرخين يوميًا أو أسبوعيًا في أضعف الأحوال، لحدثونا عن فاجعة خروج القدس والمسجد الأقصى المباركين من سيادة الأمة الإسلامية، ووقوعهما تحت الاحتلال لأول مرة، والذي كان احتلالًا صليبيًا، ولحدثونا أنه طال ذلك الاحتلال على القدس والمسجد الأقصى المباركين حتى كاد أن يبلغ المائة عام، ولحدثونا عن أسباب سقوط القدس والمسجد الأقصى المباركين تحت الاحتلال الصليبي، وهل ظهرت فينا أسباب هذا السقوط اليوم، ولحدثونا كيف عادت الأمة الإسلامية وحاسبت نفسها، ووقفت على تلك الأسباب، ثم وقفت على أسباب التغيير، ثم كيف تحققت بأسباب التغيير، ولحدثونا أن أسباب التغيير التي أصلحت الأمة الإسلامية بالأمس قابلة اليوم أن تصلح الأمة الإسلامية والعالم العربي والشعب الفلسطيني.

‎ثم لو واصل فسطاط قناة الجزيرة وأخواتها استضافة هؤلاء الثقات من مؤرخينا المنتمين إلى تاريخنا، لحدثونا عن فاجعة الأمة الإسلامية يوم أن وقعت بغداد، عاصمة الخلافة الإسلامية، ولأول مرة تحت الاحتلال وكان الاحتلال تتاريا، ولحدثونا أن زحوف التتار يوم أن اقتحمت بغداد، عاصمة الخلافة الإسلامية، قتلت مليونًا من أهلها على أقل تقدير، ولحدثونا عن أسباب تلك الفاجعة التي وقعت على الأمة الإسلامية، ولحدثونا عن عدم رضوخ الأمة الإسلامية لتلك الفاجعة، وعن مبادرتها للأخذ بأسباب التغيير، ولحدثونا عن تجربة الشيخ ابن تيمية ومدرسته التي كانت من عوامل التغيير، ولحدثونا عن مشهد تكامل دور العلماء والحكام والشعوب في تلك الحقبة المزلزلة التي قادت إلى التغيير. وما تطرقت إليه من أمثلة هو غيض من فيض، وإلا لو أتيحت الفرصة الإعلامية لهؤلاء الثقات من المؤرخين المنتمين إلى تاريخنا، لحدثونا عن تجربة الشيخ عبد القادر الجيلاني ومدرسته، وما هي الدروس المستفادة منها، ولحدثونا عن تجربة السلطان نور الدين زنكي، وكيف جمع كل علماء الأمة الإسلامية الثقات من حوله، وكيف بنى المدارس لكل المذاهب الإسلامية السنية لتأخذ دورها في حركة التغيير، إلى جانب تجربة السلطان صلاح الدين الأيوبي، وكيف حشد كل طاقات الأمة وقدراتها وفكرها وفقهها وروحانيتها وقيمها لتأصيل مسيرة التغيير. ومرة بعد مرة أقول: إنني لا أقصد بهذه الأمثلة مجرد السرد التاريخي، ومجرد التغني بالماضي، ومجرد التفاخر بالسلف، أو الهروب من واقعنا المأزوم، أو التستر على عيوبنا المعاصرة القبيحة، بل أقصد من وراء ذلك إحداث توجيه معنوي يومي مبصر كمشروع متكامل يكمل الدور الإعلامي التحليلي الذي يقوم به فسطاط قناة الجزيرة وأخواتها الآن.

‎وهكذا ستتلقى الشعوب العربية والمسلمة جرعة يومية تجمع بين التحليل الإخباري اليومي بكل مأساويته، والتوجيه المعنوي كمشروع متكامل يحصن هذه الشعوب من خطر الإحباط والاستسلام والقبول بثقافة الهزيمة التي يروجها فسطاط قناة العربية وأخواتها، والذي يدعو إلى القبول بلهفة وشوق مسيرة قافلة التطبيع والتصفيق الحار لاتفاقية(أَبراهام).

‎وفي الوقت الذي نشاهد فيه، من على شاشات فسطاط قناة الجزيرة وأخواتها، حوارات دائمة حول آخر مستجدات فاجعة غزة، وآخر مستجدات علو الحلف الصليبي الصهيوني المعاصر، وآخر موقع عربي وإسلامي وقع عليه قصف هذا الحلف التوراتي البروتستانتي، ما أشد حاجة الشعوب العربية والمسلمة الآن أن ترى إلى جانب ذلك حوارات دائمة تضم نخبًا من مفكري الأمة الإسلامية والعالم العربي الراشدين الناضجين الذين لا يباعون ولا يشترون بسقط الدنيا ودولاراتها باسم الدعم وأخواته، كيما تتحدث لنا هذه النخب الصادقة المنتمية إلى جراحنا ودموع أراملنا وأطفالنا عن هذا الواقع المأساوي الذي نغرق فيه، وعن الحل وسبل النهضة والتغيير، سيما وقد بات كل حر عاقل منا يدرك أن الذي يقع على غزة الآن، وعلى العالم العربي والأمة الإسلامية الآن، هي حرب دينية صليبية صهيونية.

‎ومع كل احترامي لكل المحللين الخبراء في الشأن الإسرائيلي الذين قد يتقنون تحليل الواقع على مأساويته، ولكن نحتاج إلى من يكمل دورهم ويقول لنا: ما هو الحل؟ فإذا بيّن هؤلاء المحللون ورطة المأزق الذي نعيش فيه، فنريد الثقات العصاميين الأوفياء الذين يقولون لنا: ما هو المخرج؟ وإذا بادر هؤلاء المحللون وقالوا لنا علانية: هي حرب دينية صليبية صهيونية، فإننا نحتاج إلى من يقوم بالتوجيه المعنوي كمشروع متكامل يحافظ على وعي ومعنويات ورؤية وهمة الشعوب العربية والمسلمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى