معركة الوعي (251) غزة الكاشفة التي عرّت الجميع

حامد اغبارية
نحن الآن نقف أمام مشهد عجيب، مضى عليه سنتان، ولا ندري متى ينتهي وكيف ينتهي، أو متى يأتي المشهد الّذي يليه: مشهد غزة في مواجهة الدنيا، في مواجهة جهات الأرض الأربع؛ بعربها وعجمها ورومها وـأبيضها وأسودها وأحمرها. لا ندري متى ينتهي، لكننا على يقين أنه سينتهي على خير ما يرجو المظلوم رغم ما يلحق به من أذى شديد.
مشهد ليس له مثيل من التاريخ سوى مشهدين اثنين، نستلهم دروسهما من حال الأمة الوليدة؛ أمة الإسلام في أصعب مراحلها. أما المشهد الأوّل فكان حصار ثلّة المسلمين قليلة العدد، المستضعفة، الملاحَقة، المستهدَفة. ذلك هو الحصار في شِعب أبي طالب، والذي استمر ثلاث سنوات. يومها خرج من العرب المشركين من أخذته المروءة فقرر نقض صحيفة “القبائل المتحدة”. أمّا المشهد الثاني فهو أشدّ وطأة وإيلاما؛ ذلك هو يوم الخندق أو يوم الأحزاب، الذي جمعت فيه “الأحزاب والقبائل المتحدة” أو قل “ولايات قريش المتحدة” الحشود لاجتثاث شأفة المسلمين.
جاء الحصار في الأولى بعد أن وجّه النبي صلى الله عليه وسلم بلاغَه الذي لا يقبل التأويل، إلى “الهيئة العامة لدار الندوة ومجلس أمنها”، والتي عرضت عليه جاه الدنيا مقابل أن يتخلى عن طريقه ويلحق بالركب: {واللهِ لَو وَضعوا الشَّمسَ في يميني والقمرَ في شمالِي علَى أن أتركَ هذا الأمرَ حتَّى يُظهرَه اللهُ أو أهلِكَ فيه ما تركتُهُ}، وقد أظهره الله رغم أنف “قبائل قريش المتحدة”، وثبت النبيّ عليه السلام وطائفة المؤمنين المستضعفة على موقفهم دون تبديل ولا تغيير ولا تنازل ولا تراجع ولا مهادنة، ودون “قراءة واقعية” للأحداث! فالموقف كان معلّقا بين طريق الحق وطريق الباطل، ولم يكن يحتمل “فقه الأولويات” أو “فقه الموازنات” أو “فقه الواقع” أو قراءة “ذكيّة” لموازين القوى، لأنّ أي تراجع قيد أنملة عن المبدأ، في تلك اللحظة الحاسمة المصيريّة، كان سيهدم كل شيء.
فعلوا ذلك بينما “القبائل المتحدة” تمنع عنهم الغذاء والماء وكلَّ أسباب الحياة الكريمة. وقد آثر المسلمون أن يأكلوا أوراق الشجر وبقايا جلود البهائم النافقة، ولم يطأطئوا ولم يرضخوا ولم يرفعوا الراية البيضاء، ولم يطلبوا عقد مؤتمر للقبائل للتباحث في الأمر والخروج بقرار “أممي” يحمل رقما تسلسليا يضاف إلى أرقام قرارات تكدّست وعلاها الغبار..
وجاء الحصار في الثانية -يا سبحان الله- بعد غزوة بني النضير وإخراجهم من المدينة جرّاء نقضهم العهود وتآمرهم على اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، فحرّضوا القبائل العربية، وخاصة قريش، لقتال المسلمين واجتثاثهم. وقد استغل بنو النضير نشوة “الانتصار” الذي حققته قريش في غزوة أُحُد لتحريضهم. ومن وسط الحصار القاتل، جاءت البشرى بالفتوحات، وليست أي فتوحات، بل كانت مبشرات بهدم غطرسة أكبر إمبراطوريات الأرض يومها. جاءت تلك البشرى بينما كانت تعترض طريق المسلمين صخرة صماء في خندقهم لم تكن لديهم القدرة المادية على إزالتها من طريقهم، وليس لهم بين الناس ظهير يمدّهم بالمعدات والآلات الثقيلة لفتح الطريق وإزالة العقبة. حدث ذلك وهم جياع، عطشى، خائفون، حتى أنّ أحدهم لم يكن يأمن الخروج لقضاء الحاجة.
كانت الدنيا كلها يومئذ ضدّهم، تتآمر عليهم وتضع الخطط وتبني التحالفات للقضاء على ذلك “الخطر” الذي بات يهدد “استقرار” جزيرة العرب، كما يهدد هيمنة القبائل “الكبرى” على السلطة، وعلى مركز اتخاذ القرار، وعلى الحياة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسطوة العسكرية، كما “يهدد” العالم الحرّ في جزيرة العرب في البيع والشراء والتجارة والمال الحرام المغمس بالربا، وهضم الحقوق، واستعباد الناس، وفي الفساد الأخلاقي والدعارة ومظاهر الشذوذ بكل أنواعها وأشكالها.
بعدئذ لم يكن بدٌّ من النتيجة الحتمية: كشفت الأحداث كلّ شيء، كلّ سوءات العالم “الحر”؛ المؤامرة، والخذلان، والنفاق، واللوبيّات، وجماعات الضغط، و”إعلام” التخذيل والتثبيط والتخويف من بطش صليب قيصر ونار جيوش كسرى، والقوى السريّة التي تعمل تحت الأرض وفي الدهاليز المظلمة، وسقطت أقنعة كثيرة، وتهاوت كل أوراق التوت، وتحققت البشرى، وارتفعت راية الحق، وأصبح حصار الشِّعب وضيق الخندق ذكريات تتناقلها الأجيال لعلها تعي وتفهم.
وها هي غزة تستعيد المشهد لتكشف كل شيء وتعرّي الدنيا كلّها.
حصارٌ امتد عقدين من الزمن، ساومت فيه كل قوى الدنيا أهلَها ليلحقوا بالركب ويتركوا الطريق الذي اختاروه، أو اختاره الله لهم، أو اختارهم الله له، فأبوْا ووجهوا رسالتهم التي لا تقبل التأويل: والله لو فرشتم لنا الأرض من المحيط إلى المحيط دولارات واشنطن وشواقل تل- أبيب على أن نرفع الراية البيضاء ما رفعناها. نحولها أكفانا ولا نرفعها.
وبذلت قوى الباطل كل وسيلة لإخضاعهم ودفعهم إلى التنازل ولو قليلا، فأرسلوا إليهم ذوي القربى من “بني هاشم” و “بني عبد المطلب” لإقناعهم تارة وتخويفهم تارة أخرى، ولما فشلت المهمة حرّضوا جناح “أبي لهب” عليهم فسدّوا عليهم المنافذ وأغلقوا في وجوههم السُّبل، فما ضعُفوا وما استكانوا، بل ازدادوا يقينا بأن لهم في هذا الابتلاء شأنا عظيما، فعضّوا على النواجذ وقد أدركوا أنّهم أصحاب دور تاريخي حضاري كدور المحاصرين في شِّعب أبي طالب وفي خندق المدينة المحاصرة.
ثمّ إذا “بقبائل الرجل الأبيض المتحدة” ومعها جيوشٌ من عبيد العرب وآباء رغالهم، تقرر إطلاق السهم الأخير من جعبتها. لكنّ الرياح التي هدمت معسكر قبائل العرب بقيادة أبي سفيان يوم الخندق جاءت بما لا تشتهي السفن. جاءتهم بشعب عجيب لا قِبَل لهم به.
وها هي غزة اليوم تكشف للأعمى والبصير أن ما يسمى المجتمع الدولي إنما هو عصابة من المجرمين.
وأن مبدأ حقوق الإنسان التي يتغنى بها “المجتمع الدولي” هي إحدى كبريات الكذب عبر التاريخ.
وأن القيم والأخلاق التي يتحدث عنها “المجتمع الدولي” إنما هي حكر على الرجل الأبيض دون سائر البشر.
وأن الوجه الحقيقي للاحتلال هو الوجه الذي يراه في غزة الباحثون عن الحقيقة.
وأن دور “الأمم المتحدة” ليس أكثر من تصريح وطحن كلام وتعبير عن القلق والأسف، وأن الدور الحقيقي لهذه المؤسسة هو خدمة أهداف عصابة “المجتمع الدولي”، تلك الأهداف التي وُضعت لخدمة المشروع الصهيوني.
وأنّ الحديث عن السلام والحلول السلمية كان مجرد وهم، وأن أصحاب المشاريع الإمبريالية الاستعمارية لا يؤمنون بهذه الفكرة الساذجة التي صدّقها الحمقى من العرب والمسلمين.
وأن “أوسلو” وسيلة لسويق ذلك الوهم.
وأن السلطة التي خرجت من رحم أوسلو سفاحا ليست سوى أداة بطش وقمع وتسيق أمني، وأن وجهها الحقيقي القبيح الذي انتنت رائحته هو ما يراه كل ذي بصيرة.
وأن الأنظمة العربية لها وظيفة، لكنها وظيفة لا علاقة لها بما قد يخطر ببال البلهاء، بل وظيفة تخدم أجندات الرجل الأبيض وصولا إلى خدمة المشروع الصهيوني.
وأن علاقة هذه الأنظمة بقضية الشعب الفلسطيني عامة وقضية غزة خاصة هي علاقة تواطؤ لا علاقة تواصل.
وأن شعوب الأمة تغط في نوم عميق.
وأنه إذا لم يوقظ هذه الشعوب زلزال كزلزال غزة، فإنه لن يوقظها شيء، ولا يُنتظر منها شيء حتى تفيق من غيبوبتها الطويلة وتغيّر ما بنفسها.
وأنّ الأمةّ تعاني من شلل رباعي وهشاشة لا شفاء منهما إلا بصدمة بُركانيّة مُزلزلة.
وأن الإعلام المهيمن على المشهد هو في الحقيقة إعلام الدجال.
أمّا أعظم ما كشفت عنه غزة فهو أنّ غزة هي غزة التي كنا نقرأ عنها في كتب التاريخ غير مصدّقين، لتعلّمنا وتعلّم غيرنا كيف نصدّق الآن ما نراه عيانا. لقد فضحت غزة جهات الأرض الأربع، وأخبرت الله بكلّ شيء، وأخبرتنا بكل شيء.
أما بعد وأما قبل وأما ما بينهما: فإننا على يقين أنّ ما بشّر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقعٌ لا محالة؛ حرفا بحرف وكلمة بكلمة وحدثا بحدث، كما وقع ما بشّر به عليه السلام وهو يفتّت صخرة الخندق بفأسه، وقد ربط على بطنه حجرين من شدة الجوع، بينما هو وتلك العصابة المؤمنة في حصار الشِّعب وحصار الخندق.



