بين عام الفيل وعام غزة

الشيخ رائد صلاح
في عام الفيل حشد أبرهة الحبشي كل قدراته العسكرية وفي مقدمتها كتيبة الفيلة وزحف بها نحو مكة المكرمة حفظها الله تعالى لهدم الكعبة، وفي عام غزة حشدت الصليبية الغربية كل قدراتها العسكرية الأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية والهولندية وزحفت بها نحو غزة، والفرق الأساس بين المشهدين، أن حملة أبرهة الصليبية كانت واضحة الأهداف وهي هدم الكعبة، أما الحملة الصليبية الصهيونية على غزة فكانت في بداية الأمر غامضة الأهداف.
وقد خاض المحللون الخبراء في الشؤون الإسرائيلية في تحليلاتهم من على قناة الجزيرة وغيرها، وأدلى كل منهم بدلوه واجتهد كل واحد منهم أن يكشف لنا عن سر هذه الحملة الصليبية الصهيونية على غزة، إلا أنه لم يستطع أي واحد منهم أن يقدم الجواب الشافي حتى مر عشرون شهرًا على هذه الحملة، فاتضح الجواب وأصبح واضحًا للقاصي والداني أن الهدف الأساس من وراء هذه الحملة هو هدم غزة وتهجير أهلها حتى يقال فيما بعد: كانت هنا غزة وكان فيها أكثر من مليوني فلسطيني يعيشون فيها. ثم كما نعلم، بعد أن انطلق أبرهة بحملته الصليبية لهدم الكعبة، ثار عرب الجزيرة وقامت أكثر من محاولة عربية للتصدي له والحفاظ على الكعبة التي كانت ترمز إلى عزة العرب رغم جاهليتهم يومها، إلا أن كل تلك المحاولات العربية فشلت وذاقت مرارة الهزيمة، وأصبح أبرهة وجيشه وفي مقدمتهم كتيبة الفيلة على أبواب الكعبة وعلى وشك الشروع بهدمها، وهنا بعد أن فشلت إرادة أهل الأرض بالدفاع عن الكعبة، تدخلت إرادة الله تعالى وأرسلت الطير الأبابيل على أبرهة وجيشه وفيلته فأهلكتهم وجعلتهم كعصف مأكول، وحمى الله تعالى الكعبة من محاولة هدمها.
ثمَّ في هذه الأجواء التي شهدها عام الفيل، ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيذانًا ببداية عهد جديد ستعيشه العرب، وهو الانتقال من عهد الذل والعجز والهوان إلى عهد العزة والمنعة والتمكين، والانتقال من عهد العصبية والتمزق والفرقة إلى عهد الأمة والوحدة والنهضة.
وفي المقابل، ها هي كل كيانات القومية العربية وكل كيانات الحكومات المسلمة وفي مقدمتها الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي في عام غزة، باتت عاجزة عن رفع هذا الكرب الشديد عن غزة إلى درجة أنها باتت عاجزة عن إدخال لقمة طعام أو شربة ماء أو حبة دواء أو قطعة كساء إلى غزة، وها هي غزة تناشد كل هذه الكيانات وتطلب نجدتها، ولكن كل هذه الكيانات باتت عاجزة ومكبلة الأيدي ومشلولة الإرادة، ولا تملك القدرة أن تجيب صرخة طفل بغزة ولا صيحة أم ولا نواح ثكلى ولا نحيب أرملة ولا نداء شريد أو شريدة، وهكذا أصبح حال هذه الكيانات المهزوزة كما قال الشاعر: قد أسمعت لو ناديت حيًا ولكن لا حياة لمن تنادي.
ومع ذلك نتساءل بتفاؤل ونقول: إذا كان عام الفيل قد شهد ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا الميلاد إيذانًا بميلاد أمة ذات إرادة وسيادة ومنعة، فهل يكون عام غزة الذي سيسجل نكبة غزة إيذانًا بتجديد ميلاد الأمة الإسلامية وإيذانًا بتجديد ميلاد إرادتها وسيادتها ومنعتها؟ وقد يستبعد الكثيرون ذلك وقد يهزؤون بي ويسخرون من تفاؤلي، ومع كل ذلك لا زلت من منطلق الثقة في الله تعالى، أؤكد أن أشد ساعات الليل حلكة هي التي تسبق طلوع الفجر، وها هي الأمة الإسلامية والعالم العربي في أشد ظلمات ليلها بعد إسقاط الخلافة الإسلامية عام 1924، فهو كرب غزة الذي يكشف لهذه الأمة الإسلامية والعالم العربي عن شدة الظلمات التي يتقلب فيها كل مسلم عربي، ولعل شدة هذه الظلمات هي التي ستلد الفجر الصادق الذي لا يزال ينتظره كل مسلم وكل عربي وكل فلسطيني منذ أكثر من 100 عام.
وها هو قد بات واضحًا لكل حر عاقل فينا، أن كل من أوهمنا أنهم هم الفجر الصادق بعد إسقاط الخلافة الإسلامية قبل 100 عام كانوا خادعين مخادعين، فهو الوهم الذي ثابرت على الترويج له كل من أنظمة القومية العربية العمياء والناصرية والبعثية والملكية والأميرية، ثم زال غبار شعاراتهم وبانت الحقيقة، وها هو الفجر الذي ادّعوا صناعته للمسلمين والعرب والفلسطينيين ليس فجرًا صادقًا بل هو فجر كاذب، ثم ظلت الأمة الإسلامية والعالم العربي ينتقلان من ظلمة إلى ظلمة أشد، ثم إلى ظلمة أشد وأشد، وكلما قيل انقضت الظلمة تمادت، لدرجة أنه ما من بديل عن الإسلام وعن الأمة الإسلامية وعن وحدة إرادتها إلا فرضته هذه الأنظمة الجبرية بالنار والحديد، بداية من مخلفات الإقطاع وتوحش الرأسمالية وفشل الاشتراكية وانهيار الشيوعية وسراب القومية العربية العمياء، ثم ماذا كانت المحصلة بعد مرور أكثر من 100 عام على هذه البدائل الموهومة؟ ها هو الجواب نجده خلال عام غزة في كرب غزة وفي عجز الأنظمة وفي ظلمات القهر والضنك والغثائية التي تخيم على الشعوب المسلمة والعربية.
ومع ذلك أنا متفائل وأعلن عن تجديد تفاؤلي رغم شدة الظلمات المتلبدة التي تحيط بغزة من كل الجهات المسلمة والعربية، فهي الظلمات التي تسبق ميلاد الفجر الصادق المنشود الموعود، سيما وأن عام الفيل الذي شرفه ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان عبارة عن عام ميلاد النور، فهي آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي حدثتنا كما نجد ذلك في السيرة النبوية، أنها لما ولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج نور أضاء ما بين المشرق والمغرب، وهي أم عثمان بن العاص التي حدثتنا وكانت حاضرة لحظات ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الدنيا امتلأت الغرفة التي شهدت مولده نورًا، وهي القابلة التي تدعى الشفاء التي أشرفت على ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدثنا أنها بعد أن شهدت ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت نورًا ارتفع وامتد حتى كشف لها عن قصور الشام، وهذا يعني أن عام الفيل كما شهد ظلمة العرب، فقد شهد ميلاد النور الذي سطع مع ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وها هو يقيني يقول لي، إن عام غزة كما شهد شدة الظلمات التي تخيم على الأمة الإسلامية والعالم العربي، فسيشهد نور تجديد ميلاد الأمة الإسلامية والعالم العربي وسط هذه الظلمات، وحتى نحتفي بنور تجديد هذا الميلاد، فلن يتم لنا ذلك إلا إذا اقتفينا نور ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو النور المبعوث من عند الله تعالى رحمة للعالمين، وهو الذي جاء بالقرآن الكريم من عند الله تعالى نورًا لنا، وهو الذي أنطقه الله تعالى بالسنة النبوية نورًا لنا، وهو الذي تلقى كل ذلك من عند الله نور السماوات والأرض، فهو الله النور، وهو الرسول النور، وهو القرآن النور، وهي السنة النبوية النور، وهي هذه الأصول التي صنعت أمة إسلامية أخرجتها من الظلمات إلى النور، وأخرجتها من ظلمة القومية العمياء إلى نور الأخوة، ومن ظلمة الطائفية إلى نور الجسد الواحد، ومن ظلمة التبعية إلى نور السيادة، ومن ظلمة التسول إلى نور العطاء، ومن ظلمة الصحراء إلى نور الحضارة، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمة الوثنية إلى نور التوحيد، ومن ظلمة الظلم والثأر وقطع الطريق إلى نور العدل والعفو وأمن الطريق، ومن ظلمة الكفر إلى نور الإيمان.
فإذا أراد المسلمون والعرب أن يخرجوا من حندس الظلمات التي يغرقون فيها الآن خلال عام غزة، وإذا ما طمعوا بطلوع الفجر الصادق من جديد، وإذا ما اشتاقوا إلى النور الذي خيم على أسلافهم في الماضي أن يخيم عليهم اليوم، فهم مطالبون اليوم أن يخرجوا من التيه الذي قادتهم إليه الأنظمة الجبرية المشؤومة خلال المئة عام الماضية، وأن يقتفوا نور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعلموا أنهم أيتام اليوم على موائد هذه الأنظمة الجبرية المشؤومة، وأيتام على موائد ما فرّخت هذه الأنظمة من أحزاب وحركات ومراكز دراسات ومنصات إعلامية، وأيتام على مائدة الصليبية العالمية، وأيتام على مائدة الصهيونية العالمية، وأيتام على مائدة هيئة الأمم المتحدة أكبر أكذوبة في التاريخ، وأيتام على مائدة مجلس الأمن دون كيشوت عام 2025، وأيتام على ما فرخّت هيئة الأمم المتحدة من لجان ووكالات ومنظمات دولية، ومع ذلك فإن عام الفيل قد شهد ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيم، إلا أنه إذا كان يتيمًا فقد أحاطت به رعاية الله تعالى ورفعته رغم يتمه إلى المقام المحمود، وآتاه الله تعالى الوسيلة والفضيلة وأكرمه الله تعالى منزلة خاتم الأنبياء والمرسلين.
واليوم ورغم أن عام غزة يشهد يتم غزة ويشهد يتمكم أيها المسلمون والعرب، إلا أن رعاية الله تعالى التي اعتنت باليتيم محمد صلى الله عليه وسلم هي رعاية حية لا تموت، وهي رعاية ربانية إن صدقتم معها كفيلة أن تنقذكم من مرارة يتمكم، وأن تكفل ضعفكم، وأن تطعم غزة من جوع، وأن تؤمنها من خوف، فهل تستيقظون بعد أن طال نومكم، وهل تنتبهون بعد أن طالت غفلتكم، وهل تعودون إلى ذكر الله وهدى الله وكتاب الله بعد أن طال ضنككم؟



