أخبار وتقاريرمقالاتومضات

معركة الوعي (246) فشل الاحتلال في اغتيال الحقيقة

حامد اغبارية

1)

منذ اللحظة الأولى لأحداث الحرب المجنونة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على الهيئة الانتقامية الدموية التي يراها العالم على مدار الساعة منذ قرابة السنتين، استمات قادة الاحتلال بكل أفرعه ذات الشأن، سواء كانت إعلامية “مدنية” أو ناطقة عسكرية أو سياسية حكومية، في تسويق روايات حول مجريات هذه الحرب ومبررات الجرائم التي ما تزال تُرتكب بحق الفلسطينيين في غزة من المدنيين، بدءا من الأجنة في بطون أمهاتهم ومرورا بالرُّضّع والأطفال والشبان والنساء والشيوخ، وليس انتهاء برجال الإعلام والعاملين في مجال الطوارئ والإنقاذ والمجال الطبي، سرعان ما اتضح ويتضح بطلانها وعدم علاقتها بالحقيقة، حتى ضجّت الكرة الأرضية من حجم الأكاذيب والتضليل، بعد أن كانت تسعة أعشار الكوكب في صف الاحتلال، في أشهر الحرب الأولى، تدافع عنه وتبرر أفعاله في غزة بحجة “الحق في الدفاع عن النفس”! وتلقي بالتهم والمسؤولية الكاملة على الجانب الفلسطيني.

لم يعد أحد على وجه هذا الكوكب يصدق الراوية الإسرائيلية ولا المبررات السخيفة الممجوجة التي يسوقها، حتى الحكومات الغربية التي هي بمثابة السند الأكبر والحاضن الأمين للمشروع الصهيوني في المنطقة، بل أصبحتَ تجد في الشارع الإسرائيلي من يرفض رواية حكومته وتهريجات رئيسها الإعلامية، ويضعها تحت المجهر، وأحيانا تجد من يفنّدها ويبيّن زيفها؛ وهذا يشمل سياسيين وعسكريين متقاعدين وإعلاميين ومفكرين ومحللين سياسيين وحتى مواطنين عاديين على منصات التواصل المختلفة، ناهيك عن ذوي الأسرى الإسرائيليين في غزة الذين نزعوا ثقتهم بحكومتهم وبروايتها، إلى درجة أنهم لجأوا إلى الخارج لنجدتهم!

ومن المبررات التي ساقها الاحتلال تبريرُ قتله للصحافيين ورجال الإعلام الذين ينقلون صورة الحدث كما هي من قلب المعركة.

ومن ذلك رواية الناطق العسكري السابق، بخصوص سبب اغتيال مراسل قناة “الجزيرة” إسماعيل الغول وزميله المصور رامي الريفي اللذين اغتيلا في تموز من العام الماضي، عقب تغطيتهما حدث اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية من بيته في مخيم الشاطئ.

يومها برر الاحتلال الجريمة بأن الغول كان مجندا في كتائب القسام. وقد نشر الناطق العسكري الإسرائيلي “وثيقة تؤكد” روايته، ليتضح بطلانها مع ما فيها من تضارب في المعلومات تظهر زيف “الوثيقة”. فإسماعيل الغول من مواليد 1997، لكنّ وثيقة الجيش الإسرائيلي التي أكدت مصادر ذات خبرة زيفها وفبركتها، زعمت أن الغول أصبح جنديا معتمدا في الكتائب سنة 2007، أي أنه كان في العاشرة من عمره عندما بدأ “حياته العسكرية”، في حين ذكرت نفس “الوثيقة” أنّ تاريخ تجنيده كان في 2014!!!

هذه واحدة من مئات الأضاليل التي روج لها إعلام الاحتلال منذ الطلقة الأولى. وهذا ما روج له الاحتلال والناطق بلسان جيشه وإعلامه في جريمة اغتيال مراسلَي “الجزيرة” أنس الشريف ومحمد قريقع ومرافقيهما من مصوري القناة. فقد ادّعى الاحتلال أن أنس الشريف ينتمي إلى حركة حماس وإلى كتائب القسام وأنه يتستر بمهنة الصحافة، ولذلك بادر إلى اغتياله، لأنه “هدف مشروع “، وأعلن ذلك على الملأ – بعد دقائق من الاغتيال-دون أن يرف له جفن!!

وقد جاء الاغتيال بعد أشهر طويلة من التهديدات التي تلقاها أنس الشريف من طرف الاحتلال، بما في ذلك التهديد المصور للناطق العسكري باللغة العربية أفيحاي أدرعي. وكان واضحا للجميع أن مسألة اغتيال أنس مسألة وقت. وكان أنس يعلم هذا ولكنه لم يتوقف، وواصل رسالته دون تردد. وكان واضحا لكل ذي عين ثاقبة أن تلك التهديدات كانت تصدر تحديدا في كل مرة ينقل فيها أنس الشريف من المشاهد ما يؤلم الاحتلال ويقضّ مضجعه ويسبب له القلق الشديد.

2)

منذ ظهوره في بداية طريقه مع قناة “الجزيرة”، وحينما كان يقدم تقاريره الميدانية “لصالح قناة الجزيرة”، وقبل أن يُعتمد لدى القناة رسميا، كان واضحا للجميع أننا أمام مراسل يتمتع بشجاعة نادرة وجرأة وإقدام لا مثيل لهما، وخلال فترة قصيرة أصبح يتقدم كتيبة الإعلاميين الفلسطينيين، وسرعان ما تحوّل إلى صوت غزة التي تئن تحت أطنان القذائف والقنابل الأمريكية وتحت ركام البيوت التي سوتها تلك القنابل الغبية بالأرض.

من أجل هذه الحقيقة فقط، وليس لأي شيء آخر، عمد الاحتلال إلى اغتيال الحقيقة التي ينقلها هؤلاء الصحافيون. ومن أجل ذلك قرر الاحتلال سحب ترخيص “الجزيرة” في الداخل، كما أغلق- بأمر عسكري- مكاتبها في رام الله، والتي تبعد مسافة قصيرة عن مقر مقاطعة سلطة دايتون، التي لم تتأخر هي الأخرى عن “أداء الواجب” وقررت منع عمل الجزيرة في “أراضيها” التي لا تملكها حقيقة، وإنما يسيطر عليها الاحتلال بشكل مباشر.

لقد خسر الاحتلال المعركتين، وباعترافه “بعظمة لسانه”: المعركة الميدانية التي فشل فيها حتى الآن من تحقيق أي هدف من أهدافه المعلنة وغير المعلنة، رغم حجم الدمار الذي أنزله على غزة، ورغم ما يملكه من ترسانة عسكرية يمكنه بواسطتها احتلال دول في المنطقة خلا ل ساعات. والمعركة الإعلامية أو معركة الرواية التي تمكن فيها الجانب الفلسطيني من تحريك الرأي العام العالمي، واستطاع أن يقلب الموازين على الساحة الدولية لصالحه، بينما يبدو الاحتلال عاجزا عن فعل شيء يمكنه من إحداث اختراق في الرواية على الرأي العام.

لقد ألحقت الرواية الفلسطينية، والتي ما كانت تحتاج إلى أكثر من مراسل شجاع وكاميرا توثق الحدث، هزيمة إعلامية وصدمة نفسية بالاحتلال مع كل ما يملكه من وسائل وأدوات وعلاقات. لهذا كان لا بدّ من إسكات صوت المراسل واغتيال الكاميرا.

3)

شيء عن أنس من زاوية شخصية: كم كان جريئا شجاعا هذا الفتى الغزيّ الذي كل ذنبه أنه يحب بلده، وأنه مخلص لمهنته ورسالته إلى درجة الجنون، شأنه شأن سائر الإعلاميين والمراسلين الذين يؤمنون بأنهم يحملون رسالة غزة إلى العالم، وسط مخاطر الموت المحقق الذي قد يطالهم في أية لحظة. وقد كان.

كان أنس الشريف ذا أسلوب اندفاعيّ وحماسي مميّز في تقاريره التي كشف من خلالها الكثير من جرائم الاحتلال، خاصة في منطقة شمال غزة ومحافظة غزة، ونقل ألم الشيوخ وأنين الأمهات ودموع الأطفال ومشاهد البحث عن لقمة هنا وشربة ماء هناك، ووجع الجرحى والمرضى في المشافي التي لم تنجُ هي الأخرى من الاستهداف الجنوني، الذي لا تفسير له إلا الرغبة في التنكيل والانتقام والإيذاء.

ثم مؤخرا وإلى لحظة ارتقائه نقله المشاهد التي هزّت الضمائر؛ مشاهد الأطفال والرُّضّع الذين جوّعهم الاحتلال حتى الموت. فقد قالوا، كلهم تقريبا قالوا: ليس هناك بريء في غزة. وقالوا، كلهم تقريبا قالوا: هؤلاء حيوانات يجب التخلص منهم. وقالوا، كلهم تقريبا قالوا: سنُنزل عليهم نكبة أخرى، وسنهجّرهم كما فعلنا أول مرة. فالمسألة إذا ليست قضية مراسل يزعمون أنّه مجنّد لدى حماس ويتستر بغطاء العمل الصحافي، وإنما هي عقيدة مُشربة بفاشية غير مسبوقة.

وكانت لأنس الشريف طريقة خاصة في لفظ الهمزة على الألف. فألِفُه دائما مهموزة في جميع مفرداته الإعلامية. وكنت أهمس له – عبر الشاشة- يا أنس… يا أنس، ارحم حرف الألف قليلا… وأبتسم، ثم أقول: لا بأس. أنه في غزة. وفي غزة التي كُسرت فيها كل القواعد، في غزة وحدها مسموح كسر قواعد اللغة..

رحم الله أنس الشريف ومحمد أبو قريقع وسائر زملائهما الذين ارتقوا معهم والذين سبقوهم على ذات الطريق؛ طريق حمل رسالة الإعلام ونقل الحقيقة التي فشل الاحتلال في اغتيالها رغم أنهار الدماء التي سفكها، وربما فشِل بسبب تلك الدماء.

4)

يبقى فقط سؤال واحد يصمّ الآذان حول العالم: هبْ أن أنس الشريف وإسماعيل الغول كانا فعلا مجنديْن لدى حماس- وهذا ما لم يثبت ولم يقم عليه دليل ولا قرينة- أليس اغتيالهما أثناء أداء مهمة إعلاميّة جريمة في القانون الدولي؟ أليست هذه القاعدة تنسحب على كل إعلامي أيّا كان انتماؤه وهويته، بمن في ذلك الإعلاميين الإسرائيليين؟ أي جنون هذا الذي أصاب الاحتلال حتى يغتال رجال الإعلام بطريقة رجال العصابات؟
ولماذا مراسلو “الجزيرة “تحديدا؟

إنه الوجع والصداع الشديد الذي سببته تلك القناة للاحتلال، وتركته هائما على وجهه في الفضاء الإعلامي لا يدري يمينه من شماله! وعليك فقط أن تتخيل لو أن “الجزيرة” لم تكن حاضرة في المشهد، وبقيت الساحة في غزة خالية لقنوات مثل العربية والحدث وقنوات سلطة دايتون وإعلام السيسي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى