الاعتراف بالخطأ خلق الأقوياء.. اعتذر ولا تتعذر، اعترف بخطئك ولا تسقطه على الآخرين
ليلى غليون
ليس جرمًا ولا هو خطيئة ولا عيبًا أن نخطئ أو نفشل، فلسنا ملائكة ولا معصومين، بل الخطأ جبلة بشرية فطرها المولى عز وجل، فهو أمر طبيعي يقع فيه كل بني البشر، ولكن العيب كل العيب أن لا يعترف أحدنا بخطئه أو يتهرب من فشله أو يعلقه على شماعة ما جاهزة عنده، إمَّا على الآخرين أو على الظروف أو على الحظ أو على الزمن أو في مسعى منه لتبرئة نفسه من الانتقاد أو اللوم، أو ليصرف أنظار الناس عن عيوبه وعلاته وذلك بإسقاطها عليهم أو على أحدهم.
تمامًا كما فعلت امرأة العزيز عندما راودت يوسف عليه السلام عن نفسه، فأبت نفسه الطاهرة العفيفة وقال بكل استعلاء وإباء: “معاذ الله”، ولكن هذه المرأة بكيدها العظيم لم يرق لها هذا الجواب وبدل أن تتوب وتعترف بخطئها وتتراجع عنه، هداها شيطانها أن تسقط خطيئتها على يوسف عليه السلام وتتهمه بأنه أراد النيل منها، لا بل وأمرت بإنزال العقوبة عليه بإيداعه في السجن بتهمة هو بريء منها براءة الذئب من دمه، لتخرج نفسها من هذه القضية وتصبح هي الضحية، بينما الضحية الحقيقي يدفع ثمن هذا الافتراء والبهتان العظيم، صحيح أنها اعترفت بخطئها إلا ان هذا الاعتراف جاء متأخرًا.
فالكثير منا لديهم شماعات جاهزة يعلقون عليها أخطاءهم بحيل نفسية يستخدمونها تهربًا من المسؤولية أو ربما مكابرة أو غرورًا، والهروب من الفشل أو الخطأ قد يكون سهلًا، وقد ينقذ صاحبه من الحرج أو اللوم، ولكن بصورة مؤقتة وآنية، وهذه الثقافة من أسوأ الثقافات المنتشرة في المجتمع، فإيجاد مبرر لكل خطأ ليس فنًا ولا شطارة، بل هو عجز عن المواجهة، وتعليق الشخص أخطاءه على شماعة غيره يجعله لا يفكر في خطئه والاستفادة من دروس الحياة، ولا يراجع نفسه أو يلومها بل يبقى قابعًا في مكانه في دائرة أخطائه التي أصلًا لا يعترف بها أو يتهرب منها، لا يتقدم ولا يطوّر ذاته، بعيد كل البعد عن طريق النجاح، لتسير حياته على هذا المنوال وهو مكانك سر، فهو بذلك يسيء إلى نفسه قبل أن يسيء إلى الآخرين.
فالطالب المهمل في دراسته يعلق فشله أو يُسقط هذا الإخفاق على المعلمين أو على المدرسة أو على المنهاج التعليمي أو على المدير أو على الأهل، وربما على الحظ، ليبرئ نفسه من هذا الإخفاق ويتملص من تبعاته، لينتقل من فشل إلى آخر وربما يقضي على مستقبله بتجميع الشماعات التي يتقن صنعها وذلك باختراع مبررات وهمية لا أساس لها.
والموظف الذي يأتي متأخرًا إلى عمله يعلق تأخيره على شماعة حركة السير المكتظة وربما يخسر وظيفته بسبب ذلك، ولو أنه استيقظ مبكرًا لما فاته موعد الدوام.
والزوج العصبي أو المزاجي الذي يشعل بيته نكدًا وصراخًا يلقي باللائمة على الزوجة متعذرًا بأنها هي التي لا تفهمه، أو بالعكس فالزوجة قد تسقط هذا الاتهام على زوجها وتلبس هي ثوب الضحية لتتفاقم الخلافات الأسرية ويشتد أوارها وربما أدت بهما إلى أبغض الحلال، وربما دفع الأبناء فاتورة باهظة ثمن هذا الإسقاط، ولو راجع كل منهما نفسه وحاسبها لجنبا البيت والأسرة الدمار والخراب. والأمثلة كثيرة والأخطاء تتراكم دون الاعتراف بها أو معالجتها وتتراكم معها المبررات والشماعات التي تكاد تتحطم من ثقل ما عُلّق عليها، وكل في أخطائهم وتبريراتهم يسبحون.
كان لأبي حنيفة جارٌ بالكوفة يغني، فكان إذا انصرف وقد سكر يغني في غرفته، ويسمع أبو حنيفة غناءه وكان كثيرًا ما يغني:
أضاعوني وأي فتًى أضاعوا ليوم كريهةٍ وسِداد ثـَغْـر
فقد أسقط هذا الفتى كل ما فيه من سكر وضياع على شماعة المجتمع الذي يعيش فيه، فلقيه العسس ليلةً فأخذوه وحُبس، ففقد أبو حنيفة صوته تلك الليلة، فسأل عنه فأخبِر، فذهب إلى الوالي فقال له: إن لي جارًا أخذه عسسك البارحة فحُبس، وما علمت منه إلا خيرًا. فقال الوالي: سلموا إلى أبي حنيفة كل من أخذه العسس البارحة، فأطلقوا جميعًا. فلما خرج الفتى قال له أبو حنيفة: ألست كنت تغني يا فتىً كل ليلة:
أضاعوني وأي فتىً أضاعوا؟
فهل أضعناك؟ قال: لا والله، ولكن أحسنت وتكرمت، أحسن الله جزاءك!
ولا بد في هذا المقام من ذكر الواقع الذي نعيشه، حيث الابتلاءات صُبت على الأمة الإسلامية صبًا ومن كل حدب وصوب، وحيث الفتن تتلاطم أمواجها، وجرائم العنف على أشدها، وأنياب الفساد تنهش في جسد مجتمعاتنا، ونحن نستشعر مرارة هذا الواقع، ونتألم بحرقة، ونضرب الأكف ببعضها، ولكن أليس معظمنا يسقط إفرازات هذا الواقع المرير إما على شماعة المؤامرة أو الاستعمار أو العولمة أو الغزو الفكري أو مواقع التواصل الاجتماعي، أو يتهم الظروف والزمن، والحقيقة أنه إلى حد ما قد تكون هذه الإسقاطات في محلها، ولكن في غمرة هذا كله ربما نسينا أو تناسينا أننا جزء من المشكلة، وأننا تخلينا عن مسؤولياتنا في العديد من مواقعنا الحيوية، وأننا ألفنا الهروب من أنفسنا، فلا نريد أن نعترف بأخطائنا ونتعب أنفسنا بمعرفة العيوب ومعالجة الخلل، كما قال الشافعي رحمه الله تعالى:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا
فلنقف مع ذواتنا وقفة صدق، ومع أخطائنا وقفة شجاعة، ونربي أنفسنا وأبناءنا على ثقافة الاعتراف بالخطأ، فالخطأ ليس نهاية الحياة وليس مدعاة للحرج أو التحسس فمن لا يخطئ لا يتعلم، وبعد الخطأ المفروض أن يكون الاعتذار وليس التبرير، ثم مراجعة النفس ومعالجة هذا الخطأ بتعقل وبكل ثقة بالنفس، فنحن من نتحمل نتيجة أفعالنا وقراراتنا وكلماتنا وكل ما يصدر منا وليس غيرنا (ولا تزر وازرة وزر أخرى) 18 سورة فاطر.
ولنتذكر:
– أننا نحن أصحاب الخطأ وليس الآخرين، والمفروض أن نعلق أخطاءنا على شماعة ذواتنا. فإنه لظلم عظيم أن نسقط أخطاءنا على أبرياء أو نحيل فشلنا إلى الغير.
– استحضار الضمير ومراجعة النفس ومحاسبتها ومحاولة تقييمها وتقويمها قبل أن توغل في خطئها.
– الاعتراف بالخطأ ليس فضيلة فحسب، بل هو بطولة ينم عن نفس كبيرة وشخصية قوية، وهو ليس ضعفًا كما يحسبه البعض.
– عندما نعتاد على إيجاد مبررات أو شماعات لأخطائنا، فإننا بذلك قد حكمنا على أنفسنا باستمرار نفس الأخطاء مما يعيق انطلاقنا وتقدمنا في الحياة.
– تهربنا من مسؤولياتنا تجاه أخطائنا لن يحل مشكلة، بل يزيدها تعقيدًا وشدة، وبالمواجهة والمعالجة تنصلح الأحوال.
– ناك حكمة تقول: “لا تخفِ أخطاءك تحت السجادة، ادفع ثمنها وواصل مسيرتك”. نعم ارفع السجادة وتفحص أخطاءك واجهها وحللها واستفد منها وامض في طريقك، عندها ستتخلص من كل الشماعات إلا شماعة
تعلق عليها نجاحات باهرة متواصلة ستكون لك بإذن الله جسر العبور لمستقبل أفضل.


