تمائم الطائفية.. لعبة مكشوفة
الشيخ رائد صلاح
نقلاً عن كتاب (العقل المحاصر) المليء بالثغرات والتناقضات الفكرية، لمروان دويري، يقول جورج طرابيشي، صفحة 100 من هذا الكتاب: “…إذن، حتى ندخل الحداثة، يجب علينا ألا ننقطع عن النصوص، ولكن يجب علينا إعادة تأويلها، وأن نربط النصوص بتاريخها وسياقها، ونفهمها على ضوء حاجتنا نحن، لا كما فهمها الأقدمون على ضوء حاجاتهم هم”.
وهذه الجملة هي نموذج لصناعة الكلام وزخرف القول، حيث تبدو في ظاهرها منمقة وبليغة، ولكنها تدعو في حقيقتها إلى تفريغ الإسلام من محتواه، وتعطيل أحكامه وإلغاء دوره حاليًا ومستقبلًا، وحصره في أركان العبادات، وقطع الطريق على عودة الخلافة الإسلامية، مع التأكيد أن عودتها وعد رباني سيتحقق مع قادمات الأيام القريبة، سواء رغب بذلك طرابيشي أم لم يرغب.
ويبدو واضحًا من هذا النص أن طرابيشي ومن ذهبوا معه -وهم قلة شاذة في حاضرنا الإسلامي العربي اليوم- لا يجرؤون على الدعوة علانية إلى تعطيل القرآن والسنة النبوية، لأنهم سيواجهون صدًا وردًا من الأمة الإسلامية وغالبية العالم العربي. لذلك لجأوا إلى تعطيل القرآن والسنة بأسلوب ملتوٍ يفوح بالتحايل المعيب، حيث باتوا يقولون في ظاهر قولهم، كما هو واضح في جملة طرابيشي: “نحن مع النصوص”، ولكنهم يدعون أن لهم الحق بإعادة تأويل هذه النصوص على ضوء حاجتهم.
وهكذا، بهذه الحيلة المعيبة، سيفرغون النصوص الشرعية -القرآن والسنة- من معناها الشرعي الذي اتفق عليه جمهور علماء الأمة الإسلامية منذ عهد الصحابة فصاعدًا، وسيفرضون على هذه النصوص الشرعية -القرآن والسنة- معانيَ مستحدثة مستهجنة تتوافق مع هوى طرابيشي ومن ذهبوا مذهبه. وهكذا، سيبقون على النصوص الشرعية -القرآن والسنة- كما هي من حيث الظاهر، ولكن سيبقون عليها مفرغة من معانيها الشرعية، كأن هذه النصوص الشرعية -القرآن والسنة- غير موجودة.
وهكذا ستكون النتيجة أنهم يسعون إلى تعطيل القرآن والسنة، وإلى إلغاء دور الإسلام كعقيدة وشريعة ونظام حياة، ولكن بهذا الأسلوب الملتوي المعيب، بادعاء أنهم مفكرون، وبادعاء أنه يحق لهم ما لا يحق لغيرهم لأنهم مفكرون، حتى لو كانوا شبه أميين في علوم اللغة العربية وأصول الفقه وعلوم القرآن وعلوم مصطلح الحديث وعلم الناسخ والمنسوخ، ومدارس الفقه الإسلامي، وعلم الحضارة الإسلامية، والثقافة الإسلامية، والفكر الإسلامي، وخصائص التصور الإسلامي، وأبواب الاجتهاد الإسلامي. ولكن لأنهم يدعون لأنفسهم أنهم مفكرون، فهم يتجرؤون ويسمحون لأنفسهم بتجاهل كل هذه العلوم التي يجب أن تتوفر في الإنسان حتى يكون مؤهلاً لفهم النصوص الشرعية -القرآن والسنة-.
وها هم يعطون لأنفسهم الحق بالخوض في هذه النصوص الشرعية، وادعاء فهمها وتأويلها، لا لسبب إلا لأنهم يدعون أنهم مفكرون، وكأنهم ما داموا مفكرين فهم يحيطون بكل العلوم، ويفهمون في كل شيء، ولهم القدرة العلمية أن يحكموا على كل شيء، بما في ذلك القرآن والسنة.
وهكذا، حولوا القرآن والسنة إلى جزء من المشاع الثقافي الذي نسبوه لأنفسهم، فهم مفكرون وفق ادعائهم، ولأنهم كذلك وفق ادعائهم، فهم العلماء الأفذاذ في علم الفلك، والطب، والبحار، والآثار، والصيدلة، ومقارنة الأديان، والتاريخ، وعلوم اللغات، وهم العلماء الأفذاذ وفق ادعائهم في القرآن والسنة وسائر علوم الشريعة الإسلامية.
ولأنهم كذلك وفق ادعائهم، فلهم الحق الكامل أن يزاحموا الإمام مالك، وأبا حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل من السلف، وأن يزاحموا مجالس الفقه الإسلامي المعاصر، وأن يزاحموا علماءها أمثال الشيخ القرضاوي، والريسوني، والزنداني، والددو، وأن يزاحموا مفكري الصحوة الإسلامية الذين هم بالآلاف، والذين يقف في مقدمتهم مالك بن نبي، والندوي، والمودودي، والنورسي، وسيد قطب، وعبد السلام ياسين، وحسن البنا، والراشد، وسعيد حوا. ولعل من عيوب بعض منتسبي الفكر في العالم العربي، أنك عندما تقرأ لهم تشعر وأنت تقرأ في أحد كتبهم أنهم يريدون أن يعطوك الشعور أنهم موسوعات علمية وفكرية وأدبية في كل شيء، وهذا أمر مضحك.
وعلى سبيل المثال، عندما اجتهدت أن أقرأ في كتاب (نقد الفكر الديني) لصادق جلال العظم، وجدت أنه تحول فجأة إلى عالم فذ في علم الأجنة والتشريح، وهو ليس كذلك بالطبع، بهدف أن يقول في ذاك الكتاب إن الآية القرآنية الكريمة التي تحدثت عن تخلق الجنين في الظلمات الثلاث التي يمر بها الجنين، لا تتوافق مع العلم المعاصر، علمًا أن الكثير من علماء علم الأجنة والتشريح المعاصرين قد أسلموا بسبب هذه الآية القرآنية وغيرها من الآيات التي تتحدث عن علم تخلق الجنين والتشريح وولادة الإنسان. وهذا يعني أن صادق جلال العظم هو الذي يعيش بفكره في وادٍ والعلم المعاصر في وادٍ آخر. وعندما قرأت كتاب (قصر الشوق) لنجيب محفوظ، وهو قصة أدبية كما نعلم، شعرت خلال قراءتي لهذا الكتاب أن نجيب محفوظ قد تحول فجأة في هذا الكتاب إلى عالم في نظرية داروين، وأعطى لنفسه الحق أن يفسر على لسان أبطال قصته خلق الإنسان تفسيرًا ماديًا محضًا.
وهكذا خرجت بهذه النتيجة عندما قرأت كتاب (العقل المحاصر) لمروان دويري. وعودًا على ما بدأت به مقالتي، أواصل وأقول: إن جورج طرابيشي ومن ذهبوا مذهبه سعوا بالأسلوب الناعم، بادعاء أنهم مفكرون، إلى تفريغ نصوص القرآن والسنة من معانيها، والمطالبة بتأويل جديد لكل هذه النصوص الشرعية، مما يعني في المحصلة وفق أهدافهم إلغاء دور الإسلام كعقيدة وشريعة ونظام حكم.
ومما يتماهى مع هذه المحاولة المكشوفة ما بتنا نقرؤه أو نسمعه على لسان د. عزمي بشارة أو قلمه، وإصراره على فرض مقولته (القبلية) أو (الطائفية) على مسيرة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية منذ عهد الخلافة الراشدة فصاعدًا. وهذا ما نجده في كتابه (الطائفة والطائفية والطوائف المتخيلة)، ولي مع هذا الكتاب مقالات قادمة بإذن الله تعالى.
ولذلك يلفت الانتباه من أقوال د. عزمي بشارة أن الدولة تبقى دولة إذا حكمها دستور غير إسلامي، ولكن هذه الدولة تتحول إلى قيادة طائفية لا ترتقي إلى مستوى الدولة إذا ما قادت الأحداث المعاصرة وما تحمل من تغيير أن يتولى حكم هذه الدولة قيادة ذات خلفية إسلامية، أو أن يكون هناك احتمال أن تتجه هذه الدولة نحو تبني الشريعة الإسلامية والسير نحو عودة الخلافة الإسلامية. عندها تتحول هذه الدولة في حسابات د. عزمي بشارة من دولة إلى قيادة طائفية.
وهذا ما وجدناه في تصريحه الأخير عن الحكومة السورية التي يقف على رأسها الرئيس أحمد الشرع، خلال مقابلة لبشارة في قناته المعروفة باسم العربي. فخلال هذه المقابلة، يدعي بشارة أن الغالبية في سوريا، وهم من المسلمين بالطبع، قد انفردوا بالحكم دون اعتبار للأقليات في سوريا، وهم المسيحيون والعلويون والدروز، كما يقصد بشارة دون أن يصرح بذلك.
ورغم أن الأمور لا تجري كما يقول بشارة، إلا أنه يكمل ويقول في هذه المقابلة التي أجرتها معه قناته المعروفة باسم العربي، متهمًا حكومة الرئيس أحمد الشرع أنها تحولت إلى قيادة طائفية، وسلفًا أقول: لا أدعي أنا أن حكومة أحمد الشرع أو أية حكومة عربية هي معصومة غير قابلة للنقد، وسأنتقدها إذا وجب الأمر.
ولكن دافع بشارة ليس هو النقد، بل دافعه أن يظل متسقًا مع كتابه الذي تحدث فيه عن مقولاته (الطائفة) و(الطائفية) والقبلية، وأن يواصل وصف كل تجربة حكم قد تصنع الطريق نحو تبني الشريعة الإسلامية والسير نحو عودة الخلافة الإسلامية، بأنها تجربة طائفية لا ترتقي إلى دولة وفق حساباته. فهكذا كان موقفه عندما مارس الشعب المصري حقه في انتخابات حرة واختار رئيسًا هو د. محمد مرسي، فكانت مصر قبل ذلك دولة في حسابات بشارة، ثم أصبحت تجربة طائفية بعد هذه الانتخابات لأنها اختارت د. محمد مرسي ذا الخلفية الإسلامية.
ولعل مصر الآن أصبحت دولة في حسابات بشارة بعد الانقلاب العسكري الدموي على الرئيس المنتخب د. محمد مرسي وعلى إرادة الشعب المصري. وهذا هو المشهد ذاته في سوريا يتكرر في حسابات بشارة، حيث كانت سوريا دولة في حساباته عندما كان يحكمها بالنار والحديد بشار وآل الأسد، ثم تحولت سوريا الآن من دولة إلى تجربة طائفية في حسابات بشارة بعد أن نجحت الثورة السورية وحررت سوريا من الاحتلال الداخلي الأسدي.
وهذا يعني أن مقولة الطائفية أصبحت تمائم غامضة وجاهزة سلفًا يسقطها بشارة على كل تجربة قائمة، أو ستكون في المستقبل قد تفتح الطريق نحو عودة الخلافة الإسلامية، بادعاء أن المشروع الإسلامي ومشروع عودة الخلافة الإسلامية لا يأخذ بعين الاعتبار حقوق الأقليات. وهذا يعني في حسابات بشارة أنه لا يجوز للغالبية المسلمة، ولو زادت على 90% في أي دولة عربية أو مسلمة، أن تطالب بتحكيم الشريعة الإسلامية نحو عودة الخلافة الإسلامية، لأن هذه الغالبية المسلمة ستتحول إلى غالبية طائفية. وهذا يعني في حسابات بشارة أنه لا يجوز في يوم من الأيام المطالبة بتحكيم الشريعة الإسلامية نحو عودة الخلافة الإسلامية.
لذلك فإن مقولة الطائفية لا تُراد لذاتها في حسابات بشارة، بل هو يستخدم هذه المقولة الطائفية عن سبق إصرار وبأسلوب معيب لقطع الطريق على كل تجربة في العالمين الإسلامي والعربي قد تقود إلى عودة الخلافة الإسلامية.
ولأن بشارة لا يجرؤ صراحة وعلانية أن يقول إنه ضد تحكيم الشريعة الإسلامية وضد عودة الخلافة الإسلامية، فهو يختفي وراء مقولة الطائفية التي بات يكثر من استعمالها في هذه الأيام، لأنه وجد فيها أفضل تمائم غامضة تعينه على محاربة المشروع الإسلامي الآني، وعلى محاربة مبدأ عودة الخلافة الإسلامية دون أن يصرح بذلك علانية ولكن سلفا أقول إن استخدام بشارة مقولة الطائفية كتمائم غامضة لمحاربة عودة الإسلام كشريعة ونظام حكم وحاضنة أمة ليست جديدة، بل سبقه بذلك دعاة القومية العمياء الذين دعوا إلى إسقاط الخلافة الإسلامية.
وأسماء هؤلاء القوم معروفة، فمنهم جورجي زيدان، ونجيب عازوري وقسطنطين زريق، ومن لف لفيفهم، فهم الذين روجوا لمقولة القومية العمياء المستوردة جذورها من بعض المفكرين الغربيين بهدف الدعوة لإسقاط الخلافة الإسلامية. وهكذا، التقت أهدافهم يومها مع أهداف الحركة الصليبية الغربية والحركة الصهيونية. ويوم أن تم الإعلان المؤقت عن إلغاء الخلافة الإسلامية في عام 1924، فقد احتفل كل من دعاة القومية العمياء والحركة الصليبية والحركة الصهيونية، كل وفق طريقته.
وأما الآن، فإن بشارة يدعو بأسلوب ناعم، متخفيًا بمقولة الطائفية كتمائم غامضة، إلى قطع الطريق على عودة الخلافة الإسلامية. وهكذا بات دوره يكمل دور دعاة القومية العمياء، وسميتها عمياء لأنهم ينطلقون من منطلق فرض الصدام المفتعل بين العروبة والإسلام. فهم دعوا إلى إلغاء الخلافة الإسلامية، وبشارة اليوم يدعو إلى قطع الطريق على عودة الخلافة الإسلامية.
وأما أساليب عمل بشارة في ذلك فهي الأساليب ذاتها التي كان قد ابتدعها دعاة القومية العمياء، ويمكن أن نلخص هذه الأساليب بما يلي: الاتكال على دعم مالي كبير بلا توقف، وإقامة أكبر عدد ممكن من المنابر الإعلامية وفق اختراعات كل عصر، وإقامة كليات دراسية وتعليمية ومراكز أبحاث، وتبني الأسلوب الناعم في محاربة المشروع الإسلامي، واستخدام المقولات الغامضة المبطنة، مثل مقولة تأويل جديد للنص، ومقولة الطائفية كتمائم غامضة، تغنيهم عن المجاهرة بالتصريح علانية للمطالبة برفض أي تجربة للمشروع الإسلامي سلفًا، والدعوة العلنية الصريحة لعدم عودة الخلافة الإسلامية. فهي لعبة مكشوفة تمتد جذورها إلى بدايات ميلاد الفكر الباطني ومصطلحاته الغامضة المبطنة في مسيرة الأمة الإسلامية وحضارتها وتاريخها.


