ما بين الشيخ كمال الخطيب، والأستاذ رجا اغبارية، والمحامي أيمن عودة
الشيخ رائد صلاح
إن إدانة الشيخ كمال خطيب تؤكد أننا ما زلنا مطاردين بسياسة (المصادرة المستمرة). فهي المصادرة الرسمية ذات الأذرع الكثيرة، والتي تزداد يومًا بعد يوم، والتي لم تترك أصلًا من أصول وجودنا وحياتنا في الداخل إلا وامتدت إليه بهدف مصادرته، بلغة القضاء تارة، وبلغة أحكام الطوارئ تارة أخرى، وبلغة تشريعات الكنيست تارة ثالثة.
فهي (المصادرة المستمرة) التي امتدت إحدى أذرعها على أرضنا منذ عقود، فصادرت أرضنا، وما حملت في باطنها من تاريخ، وما حملت على ظهرها من ذكريات. وها نحن في عام 2025، ولم يبقَ لنا إلا 3.5% من أرضنا.
وها هي بلداتنا في الجليل، والمثلث، والنقب، تضيق علينا كعلب السردين. وها هي الأسرة فينا ما عادت تجد موقفًا لسيارتها، ولا بقعة ضيقة كسية القوس لوضع برميل نفايات عليها، ولا حوض تراب بحجم القبر لزراعة نباتاتنا الفلسطينية كالنعناع والميرمية والحبق فيه، في الوقت الذي تمتد فيه أرضنا الموروثة عن الآباء والأجداد أمام أعيننا، ولكن يُحرم علينا أن ندوسها بأقدامنا لأنها مصادرة.
وليت هذه (المصادرة المستمرة) توقفت عند هذا الحد، فها هو ذراع ثانٍ لها، امتد إلى أوقافنا ومقدساتنا، ثم قبل أن يرتد طرفنا إلينا، التهمت المصادرة هذه الأوقاف والمقدسات، ولم يبقَ لنا منها إلا فتات الفتات.
ومع أن الأوقاف والمقدسات هي وقف لله تعالى، والله تعالى حي قيوم، لا يغيب، إلا أن بهلوانيات المؤسسة الإسرائيلية ادعت أن هذه الأوقاف والمقدسات تحولت إلى ملك غائب بعد نكبة فلسطين، ومالكها الفلسطيني رحل عنها إلى الشتات المجهول، وتركها آثما في مهب الريح. وهكذا تمت فلسفة مصادرة هذه الأوقاف والمقدسات العزلاء الوحيدة. وأُبيح على إثر ذلك هدم الكثير من المساجد والكنائس، أو إباحة استعمالها لأهداف دنيوية تجردها من قداستها.
وهكذا كنا ولا زلنا نرى بعض هذه المقدسات قد أحيلت الى كنس، كما هو عليه حال مصلى الست سكينة في طبريا، ومسجد أبو العون القريب من جلجولية، ومسجد طيرة الكرمل، والقائمة أطول من ذلك.
وهكذا تم جرف قائمة طويلة من مقابرنا، وتم نبش عظام موتاها، ثم أقيم عليها المتنزهات أو الأحياء السكنية أو المؤسسات العامة أو مواقف السيارات. ولنا مثال على ذلك، في مقبرة مأمن الله، ومقبرة المماليك، ومقبرة سيدنا علي، والقائمة أطول من ذلك.
وهكذا انتزعت منا أرضنا الوقفية التي قيل في إحدى الإحصاءات إنها كانت تساوي 1/16 من مساحة فلسطين التاريخية، ووقعت هذه المساحة الهائلة تحت سلطة المؤسسات الرسمية الإسرائيلية.
وبات ريع هذه الأرض الوقفية المصادرة يعود إلى هذه المؤسسات الرسمية، في الوقت الذي تخنق فيه الأزمات المالية حياتنا، وحياة كل المجالس المحلية والبلديات العربية. وليت هذه (المصادرة المستمرة) توقفت عند هذا الحد، فها هو ذراع ثالث لها امتد إلى فهمنا الشرعي للقرآن والسنة النبوية، وإلى فهمنا المشروع الأصيل للغتنا العربية، ولأمثالنا الشعبية، ولمقاطع من أهازيجنا الشعبية.
وبات هذا الذراع الثالث يصادر منا هذا الفهم الممتد فينا منذ ميلاد لغتنا العربية، ومنذ نهضة حضارتنا الإسلامية العربية، ومنذ نمو تراثنا الشعبي، وما حمل من أمثال وأهازيج. وبات هذا الذراع يتجرأ أكثر وأكثر، ويفرض علينا فهمه الخاص به للكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ومصطلحات اللغة العربية، وأمثال وأهازيج تراثنا الشعبي، بادعاء أنه يقف (خبير نحرير لا يشق له غبار) من وراء هذا الفهم، وبادعاء أن بعض الأجهزة الرسمية الإسرائيلية قد أعدت قاموسًا يضم كل هذه الآيات والأحاديث والمصطلحات والأمثال والأهازيج، ويشرح معناها في العمق. وهو (قاموس علمي) يفوق الخيال، ولا يصل إلى مستواه سيبويه، والكسائي، وابن منظور، والثعالبي، والجرجاني، والفراهيدي، والأخفش.
وهكذا باتت مقالاتنا وأشعارنا وخطاباتنا وتغريداتنا وتعليقاتنا وزفراتنا وهمساتنا ما بين مطرقة هؤلاء (الخبراء النحريرين)، وسندان هذا القاموس الرسمي صاحب الأنف الذي لا يخطئ، (والفهم السديد) الذي يعلو ولا يُعلى عليه.
وهكذا باتت قرارات المحاكم الإسرائيلية تتلقف كل أقوال وتحليلات هؤلاء (الخبراء الفطاحل)، وهذا (القاموس المدهش) بلا تلعثم ولا تردد، ولو اعترض عليه، في المقابل، ألف خبير في تفسير القرآن الكريم وشرح الأحاديث النبوية، وفهم اللغة العربية، والأمثال والأهازيج التراثية.
وهكذا بات الواحد فينا عرضة أن يُعتقل، أو أن يُدان، أو أن يُفرض عليه الاعتقال الإداري، أو أن يُحكم عليه بالسجن البيتي، أو أن يُفصل من الجامعة، أو أن يُطرد من عمله، أو أن يُطارده الإعلام بسبب جملة عربية أدلى بها واضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار، سواء كان هذا المطارد فينا عضو كنيست، كما وقع على المحامي أيمن عودة، أو كان قيادة دينية، كما وقع على الشيخ كمال خطيب، أو كان رئيس حركة سياسية، كما وقع على الأستاذ رجا إغبارية، أو كان محاضر جامعة، كما وقع على الدكتورة نادرة شلهوب ، أو كان إعلاميًا، كما وقع على الأخ سعيد حسنين، أو كان من عالم الفن، كما وقع على الفنانة دلال أبو آمنة ، أو كان طبيبًا أو ممرضًا في مستشفى، أو كان طالبًا جامعيًا، أو كان معلم مدرسة، أو كان طالبًا ثانويًا، أو كان عاملًا كادحًا.
وهكذا وجدت نفسي مطاردًا لأربع سنوات، ما بين سجن وحبس بيتي، لأنني تجرأت واستخدمت في خطاباتي كلمة (رباط) التي اقتبستها من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إسباغ الوضوء على المكارة، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، ألا فذلكم الرباط، ألا فذلكم الرباط، ألا فذلكم الرباط). ولأنني تجرأت واستخدمت كلمة (شهادة) أمام جمع من الطلاب، وكنت أقصد بها الشهادة المدرسية، ولأنني تجرأت واستخدمت مصطلح (في مواجهة) ومقولة (بالروح، بالدم نفديك يا أقصى).
وهكذا وجد الشيخ كمال خطيب نفسه مطاردًا لخمس سنوات ما بين سجن وحبس بيتي ومحاكمات، لأنه تجرأ وتناول في تغريداته ثورة البراق التي كانت عام 1929، ووقف منتقدًا في تغريدة أخرى سلوك الشرطة في يافا قبل بضع سنوات. وهكذا وجد عضو الكنيست المحامي أيمن عودة نفسه مفصولًا من الكنيست بإجماع كل الحضور من أعضاء الكنيست الإسرائيليين، لأنه أدلى بتصريح دعا فيه بالسلام للجميع، وما كان له، وليس من أخلاقه، أن يدعو إلى إلقاء قنبلة ذرية على أي مجتمع في الأرض، كما دعا عضو كنيست إسرائيلي إلى إلقاء قنبلة ذرية على غزة، ومع ذلك، لا يزال هذا العضو الإسرائيلي يقف على منبر الكنيست، ويتحدث عن حقوق الإنسان وسيادة القانون ورفض الإرهاب.
وهكذا وجد الأستاذ رجا إغبارية نفسه محكومًا عليه باعتقال إداري لأربعة أشهر، وهذا يعني أنه وجد نفسه في السجن وهو لا يعرف لماذا. وهكذا أخذ يزداد عدد المحكوم عليهم بالاعتقال الإداري من أبناء مجتمعنا، ولعله زاد على المائة معتقل إداري، وهناك من نعرف أسماءهم منهم، وهناك من لا نعرف أسماءهم منهم. وأنا شخصيًا بت أفاجأ بين الحين والآخر أن فلانًا الطالب الثانوي معتقل إداري، أو أن الشاب الكادح (س) أو (ص) معتقل إداري لمدة نصف عام، وقد مضى على اعتقاله بضعة أشهر.
ومن أغرب ما سمعت خلال هذه الأسابيع على لسان أولياء معتقل إداري من أم الفحم، وهو طالب ثانوي، أنه قيل لهم إن أحد أسباب اعتقاله لأنه يصلي صلاة الجمعة في المسجد الذي يلقي فيه الشيخ رائد صلاح خطبة الجمعة التي تحمل خطاب التحريض. ثم جزم لي أولياء هذا المعتقل أنه يصلي صلاة الجمعة في المسجد القريب من بيتهم، ولم يحدث ولو لمرة واحدة أن صلى في مسجد ابن تيمية الذي ألقي فيه خطبة الجمعة.
ثم قال لي أولياء هذا المعتقل، إنهم قالوا لمحامي ابنهم وهو إسرائيلي: ندعوك لكي تستمع إلى خطب الجمعة التي ألقاها الشيخ رائد صلاح، حتى تعلم أنها أبعد ما تكون عن التحريض، وإن حدث وأبدى موقفه السياسي فيها، فهذا من حقه. وهكذا يُطارد مجتمعنا الآن من خلال مطاردة الشيخ كمال خطيب والأستاذ رجا إغبارية وعضو الكنيست أيمن عودة، ومن خلال مطاردة المئات من أبناء مجتمعنا ما بين السجن والحبس البيتي والمحاكمات والاعتقال الإداري. وهكذا باتت كلمة (شكشوكة ) أو تسبيحة (إنا لله وإنا إليه راجعون)، أو نداء (الله أكبر)، أو دعاء (لا غالب إلا الله)، باتت مثل هذه التعابير تجعل من قائلها مطاردًا مع سبق الإصرار.
وليت (المصادرة المستمرة) توقفت عند هذا الحد، فها هو ذراع رابع لها امتد على وجود أهلنا في النقب، وبتنا نسمع عن مواصلة هدم بلدة العراقيب لعدد من المرات قد يصل في قادمات الأيام إلى الألف. وبتنا نسمع عن هدم عشرات المضارب وترحيل أهلها بهدف الزج بهم في أضيق مساحة من الأرض.
وها هو ذراع خامس من أذرع هذه (المصادرة المستمرة) قد امتد على حقنا في الحياة، حيث بات غول العنف الأعمى يأكل الأخضر واليابس في حياتنا، وفي نفس الوقت باتت سياسة تعاطي المؤسسة الإسرائيلية الرسمية مع هذا العنف المدمر الذي تملك حصاره لو أرادت، باتت سياسة تعاطيها معه في دائرة الشبهة، بل في دائرة المتهم لدى الكثير منا.
وها نحن نسمع عن تصاعد أعداد الذين باتوا يهاجرون منا هجرة داخلية من بلداتنا إلى بلدات إسرائيلية، أو باتوا يهاجرون هجرة خارجية إلى دول شتى، ودافع هذه الهجرات المتلاحقة هو الخوف على حياتهم وحياة أولادهم من شر هذا العنف الدموي. وهكذا بدأت هذه الهجرة بالعشرات، ثم تحولت إلى مئات، وهي اليوم بالآلاف، فهل ستصل إلى عشرات الآلاف في المستقبل؟ سيما وقد حدثني أحدهم، وهو مصلح اجتماعي مهتم بمواجهة آفة هذا العنف الدخيل، أن بعض الدول باتت تبني أحياء خاصة سلفًا مخصصة لمن سيهاجرون إليها من مجتمعنا المعذب المسكين، الذي بات كالأيتام على موائد اللئام.
وها هو ذراع سادس من أذرع هذه (المصادرة المستمرة) قد امتد إلى انتمائنا الذي هو سمت طبيعي لدى كل شعب في الأرض، سواء كان أغلبية أو أقلية. وها نحن بتنا نسمع عن استحداث قوانين مقلقة في الكنيست تهدف إلى فرض قطيعة مطلقة على هذا الانتماء، حيث إن الجميع منا قد سمع عن آخر صرخة من صرخات هذه القوانين، فهناك سعي جاد لتقنين قانون كنيستي يقول إن كل طالب جامعي من مجتمعنا في الداخل، إذا ما تجرأ ودرس في إحدى جامعات الضفة الغربية، فإنه لا يجوز له أن يمارس مهنته بعد التخرج في مسيرة مجتمعنا التعليمية أو غيرها في الداخل. فماذا بقي لنا بعد هذا السيل الجارف (من المصادرة المستمرة).
إن أخشى ما أخشاه أن تمتد ذراع سابعة من هذه (المصادرة المستمرة) على مشاعرنا بهدف مصادرة هذه المشاعر، وكأنه لا يحق لنا أن نحزن، أو نفرح، أو نتألم، أو نغضب، أو نبكي. ومع كل ذلك، فإن المطلوب منا أن نتزود بالصبر واليقين، وأن نتبنى استراتيجية الصمود في أرضنا وبيوتنا ومقدساتنا، وأن نتدارك ما يعانيه مجتمعنا من خطر على قيمنا، وخطر على تماسكنا الاجتماعي، وخطر على لغتنا العربية، وخطر على مقومات نهضتنا.


