صرخات ذهبت مع الريح
ليلى غليون
حين تخرس الكلمات عاجزة عن وصف بشاعة الإنسان، وحين ترتبك الألفاظ والتعابير فلا تملك إلا أن تبقى مشلولة ساكنة لا تراوح مكانها في محطات الفكر والوجدان وهي مذهولة أمام فظاعة هذا الإنسان الذي انسلخ عن آدميته وإنسانيته وهو يمزق بمخالب وحشيته ثياب الطفولة ويحولها إلى أكفان تعبق منها رائحة الموت، وهو يهوي على براءة طفل يستصرخ وهو لا يدري ما الذي يجري حوله، ولا يدري لماذا كل هذا الدمار والخراب الذي يحيطه من كل ناحية، يرى صور الرعب والخوف المنتشرة حوله وقد كدر دخانها مجال الرؤية عنده وعكر صفوها فاستحال عنده التمييز بين الواقع والخيال، أو لعله في لحظة من اللحظات أوحت له طفولته البريئة والتي لا تستطيع بعد فك شيفرة ورموز ثقافة الشر والأشرار، ليظن أن ما يراه ويعايشه ليس حقيقة، بل فيلم من أفلام هوليوود البوليسية والتي رسمت بريشة العلو والاستكبار صورة لرامبو الأمريكي البطل الذي لا يقهر والذي لا يعجزه شيء، ينتصر على خصمه من الجولة الأولى ويدحر كل من يقف أمامه بسرعة فائقة.
ولكن سرعان ما يتبدد ظن هذا الطفل البريء وتنقشع غمائم أوهامه لينتفض كما العصفور الجريح ينتفض، ليكتشف بأن ما يراه ويعايشه فعلًا حقيقة وواقع، وهو يجد أنفاسه تكاد تختنق، وحشود من الآدميين مستلقين بجانبه وهو يحسبهم نيامًا وما هم بنيام، وأشلاء تحيطه من كل حدب وصوب، ليصحو على حقيقة هذا العالم الذي سلم أمره لوحشية الحضارة! لتدق حينها ساعة الصفر!! ساعة صفر حضارية، تمر صامتة ساخرة لا تعبأ بالأعراف والمبادئ والحقوق الآدمية ولا تبالي بالضمير ولا بصوت الإنسانية.
يصحو هذا الطفل كغيره من أطفال الحضارة المتوحشة! ليجد نفسه بين أنقاض حضارة الغاب، بجواره بقايا أشلاء آدمية لا يستطيع تمييزها أو تشخيصها، أو لمن تكون يا ترى، هل هذه يد أمه؟ لعلها فعلًا يدها فقد عرفها من الخاتم المحيط بخنصرها الشاهد على وحشية لم يسبق لها مثيل، هل هذه رجل أخيه؟ هل وهل وهل… يجول بعينيه المرتجفتين هنا وهناك متفحصًا تلك الأشلاء، ومن بين أنفاسه المتقطعة والمخنوقة يخرج سؤال مخنوق صاغ كلماته بلغة القهر: لماذا كل هذا؟ وكيف يمكن أن يحدث هذا؟ أين أنا أيها العالم المتحضر؟! بل أين أنت أيتها الانسانية؟ لتمضي هذه الصرخة وتذهب مع الريح وتتلاشى مع العواصف فلا تجد لها سبيلًا إلى أذن رجل الحضارة! الذي أقام حضارته! على أنقاض وأشلاء إنسانيته، فقد أصم أذنيه أو قل فقد حاسة السمع.
إنهم يتحدثون عن عالم متحضر يربو إلى ثقافة راقية تتحاور فيها الحضارات وتتقارب فيها الأديان في كوكب شعاره المحبة والسلام، يتحدثون، وما أكثر ما يتحدثون بالحرية، بالديمقراطية، بحقوق الإنسان، مقولات جميلة وعبارات رنانة ناعمة مرتبة منسقة منتقاة، جعلوا منها جسرًا لعبور إرادات وعقول السفهاء ممن يجرون ثياب الخيبة البالية التي ارتدوها منذ زمن ليس بالقصير وقد أنتنت رائحتها ورفضوا أن يخلعوها، كيف وقد تجردوا من كل القيم واجتثوا من أنفسهم كل معنى لعزة أو كرامة، يصفقون ويبتسمون أمام الأضواء والكاميرات كالبلهاء على لا شيء أو بالأحرى لا يدرون علام يصفقون ويبتسمون، يفرحون بحفنة العلف التي يعلفها لهم أسيادهم ليكمموا أفواههم بعد أن كمموا ضمائرهم فلا يبصرون إلا بعيون أسيادهم ولا يسيرون إلا وفق إشارات المرور التي حددوها لهم لتنكشف سوآتهم أكثر وأكثر، فلم يعد هناك شيء مخفي، لتضاف هذه النكرات لغيرها من النكرات وتدون في سجل الخيبة والذل وفي صفحات التاريخ السوداء.
فيا أطفال الحضارة المتوحشة، يا أطفال الإنسانية الميتة، لا تصرخوا ولا تنادوا ولا تتأملوا من هذه النكرات الرابضة على صدور شعوبها، أن تثور فيهم نخوة معتصم، إنهم لن يسمعوكم ولن يلتفتوا إليكم، فهم نائمون على فراشهم الوثير ويحلمون بحبات العلف التي سيلتقطونها من أسيادهم، فلا تزعجوهم ولا تعكروا عليهم صفو أحلامهم حتى لا يقال عنكم بأنكم أطفال أشقياء تحبون المشاكل، فهؤلاء المدللون لا يتحملون شقاوة الأطفال.
وإن أبيتم يا أطفالنا الأحباب إلا أن تطلقوا صرخاتكم، فكونوا على يقين أن هذه الصرخة لن تخترق جدار الصمت الرهيب الذي يحيط بهم، فهذا الجدار مصنوع من مزيج الذل والعار والانكسار الذي لا يمكن لأمواج الصوت مهما علت واشتدت أن تخترقه، بل ستتلاشى صرخاتكم كما تلاشت قبلها كل الصرخات المقهورة لتصبح لعنة تصب على رؤوسهم وكابوسًا يقض مضجعهم ويجعل من نومهم شوكًا، فلا تتعبوا أنفسكم، كفاكم تعبًا وقهرًا وخيبة أمل وصدمات لن تفيقوا منها حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.


