نتحاور ولا نتخاصم
ليلى غليون
الحوار البنّاء قيمة حضارية راقية، بل هو مبدأ أساسي من مبادئ إسلامنا العظيم الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة الا وأرسى لها قواعد وأصول، والحوار من وسائل الدعوة الى الله التي اعتمدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلالها دخل الإسلام القلوب وانساب فيها انسياب الماء الى الأرض العطشى المتشققة، وبقدر قدرة الداعي على استيعاب الآخر وفهم النفسيات واكتشاف مداخل القلوب، يسهل عليه مد جسور التواصل بينه وبين المدعوين كما يصبح من السهل بمكان شق قناة للحوار الناجح الذي لا يؤول إلا لنتيجة واحدة حتمية وهي نجاح الداعية في قيادة سفينة الدعوة وجذب الناس وفرارهم إلى دين الله أفواجًا.
لقد كان الحوار ديدن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على مر العصور، فواجهوا أعتى الطواغيت بهذه الأسلوب العظيم وأتقنوا استعمال هذا السلاح الفعال، فهزموهم بقوة البرهان وبالحجة الدامغة وبالحقيقة الناصعة التي أبهتتهم وجعلتهم صغارًا لا يلوون على شيء، وكلنا يعلم ذاك الحوار الذي دار بين سيدنا إبراهيم عليه السلام وبين النمرود في قوله تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين). 285 سورة البقرة. وها هو نبي الله موسى عليه السلام يتحاور مع ظالم عصره وطاغوت زمانه وقد أمره الله تعالى بالحوار معه بالقول اللين والكلمة الطيبة لعلها تفتح مغاليق وأقفال قلبه التي علاها الران، (فقولا له قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى). 44 سورة طه. وكلنا قد قرأ ويقرأ ذاك الحوار الذي دار بين يوسف عليه السلام وهو في السجن وبين السجينين وكيف كان يدعو إلى الله تعالى بأرقى الأساليب رغم كونه في محنة السجن وفي ظروف اجتماعية صعبة مركبة، فهو يعيش في الغربة وقد تنكر له إخوته وتآمروا عليه، كما تآمرت عليه امرأة العزيز والنسوة من حولها واتهامه ظلمًا وزورًا وبهتانًا، إلا أن ذلك ما كان لينسيه دوره في الدعوة إلى الله وبأسلوب حواري يرقق القلوب ويجعلها جاهزة لاستقبال الأنوار والفيوضات الربانية.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أستاذ البشرية كلها يجسد أسمى وأعظم صورة في التزام أجمل الأخلاق وأحسنها في الحوار مع المسلمين وغير المسلمين، والسنة النبوية زاخرة بهذه النماذج الرائعة نقتطف منها ما دار من حوار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين من جاءه يطلب الرخصة في الزنا، فعن أبي أمامة أن شابًا قال: يا نبي الله أئذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبه لأمك؟ قال: لا جعلني الله فداك قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لابنتك؟ قال: لا جعلني الله فداك. قال كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم. أتحبه لأختك؟ حتى ذكر العمة والخالة وفي كل واحدة يقول: لا جعلني الله فداك والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كذلك الناس لا يحبونه) فوضع صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: (اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه) فلم يكن شيء بعد ذلك أبغض إليه منه يعني الزنا. والنماذج في أدب وحسن الحوار سواء في القرآن الكريم والسنة المطهرة كثيرة ولا يسع المجال لذكرها ولكنها قناديل بل شموس تضيء طريق الداعية وتهديه إلى السبيل الأمثل للوصول بفكرته إلى قلوب الناس واستمالتهم وإقناعهم، فقلوب الناس لها أبواب وأقفال ولا يستطيع فتح هذه الأبواب إلا من وفقه الله تعالى، ولا يستطيع أن يفتحها إلا من ملك هذه القلوب بأسلوبه الحسن وحواره الراقي الحضاري يقول الشاعر:
أحسن الى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الانسان احسان
فالحوار بالتي هي أحسن لا يقصر فقط طريق الداعية للوصول إلى الهدف المرجو بل هو أسلوب قرره الإسلام للتفاهم وللتقريب بين أصحاب وجهات النظر المختلفة سواء بين المسلمين أنفسهم وبين غير المسلمين، وقد التزم سلفنا الصالح بالمناهج الشرعية في أدب الحوار وأساليبه الراقية فكانت لهم الكفة الراجحة في الغلبة على محاوريهم، وألفوا العديد من المؤلفات التي تحدثت عن أدب الحوار وفق المنهج الشرعي الإسلامي، ونظرة إلى واقعنا اليوم نجد أن هذه القيمة السامية وهي آدب الحوار، ليس بالمستوى المطلوب، والواجب يحتم علينا إحياء هذا الفن بيننا، ولن يكون ذلك الا إذا التزمنا بما التزم به سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، وذلك بمحاورة الناس بالحكمة والقول اللين والوجه البسام والصدر الواسع والقلب الكبير والروح الطيبة، بالتغافل عن الزلات والصغائر والتماس الأعذار والبعد عن التعصب للرأي والانتصار والافتنان بالذات والموقف الشخصي، بالاستماع والإنصات للآخرين حتى الانتهاء من حديثهم وعدم مقاطعتهم واحترام آرائهم ولو كانت مخالفة، بالبعد كل البعد عن إطلاق الأحكام المسبقة بفساد أو تسفيه آراء الآخرين والتقليل أو التحقير من شأنهم، بالابتعاد عن حب الظهور والتعالي والتطاول برفع الصوت من غير حاجة يقول تعالى: (وجادلهم بالتي هي أحسن) فنحن نتحاور ولا نتخاصم، نقدم الحجة والبرهان ولا نتعصب ونتحارب، نستمع ونناقش ونتبادل الآراء، فالحوار قيمة وسلوك وأخلاق، والحوار كما يقول طارق حبيب هو السحر الحلال الذي يفتن عقول الناس ويأسر أفئدتهم.