أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

عنزة ولو طارت!! د. الريسوني، الأقصى وانتخابات الكنيست الصهيوني

حامد اغبارية
يروى أنه في أحد الأيام، خرج رجلان معاً للصيد، فرأيا سواداً من بعيد، فقال أحدهما: هذا السواد غرابٌ، وقال الآخر: لا إنها عنزة! وأصر كل منهما على رأيه.
تحرك الرجلان في اتجاه السواد، حتى اقتربا منه، فإذا هو غراب. وطار الغراب خوفاً منهما، كما فزعا منه، وفرا هاربين، وأثناء جريهما قال الأول: أرأيت، ألم أقل لك من البداية إن هذا غراب؟
فرد عليه الآخر وقال: بل هو عنزة ولو طارت. وقد راحت تلك المقولة مضربا للمثل الذي يصور المعاندين الذين يتشبثون برأيهم الخاطئ، ولا يتراجعون عنه أبداً، حتى لو تبين خطأهم.
وهذا حال الذين تلقفوا بلهفة الرأي الشخصي للدكتور أحمد الريسوني، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، بخصوص زيارة المسلمين من غير الفلسطينيين للمسجد الأقصى المبارك، مخالفا بذلك فتوى الاتحاد زمن الدكتور يوسف القرضاوي التي حذرت من تلك الزيارة تحت حراب الاحتلال، واعتبرتها نوعا من أنواع التطبيع مع الاحتلال، ولا تخدم قضية المسجد الأقصى بشيء، وإنما المستفيد الوحيد منها هو الاحتلال نفسه. كما تلقف الذي يشبه حالُهم حال الغريق الذي يتشبث بقشة وقد أشرف على الموت؛ تلقفوا رأي الدكتور الريسوني بخصوص المشاركة في انتخابات الكنيست الصهيوني، وكأنهم كانوا يبحثون عن أي رأي يسند موقفهم من تلك الانتخابات، حتى لو كان هذا الرأي شاذا وغريبا، وحتى لو جاء في توقيت سيء جدا، يخدم أجندات غريبة، حتى لو لم يقصد صاحبه ذلك.
تلقفوا ذلك الرأي وجعلوه وسيلة لمحاولاتهم اليائسة إقناع الناس بالتصويت للكنيست، خاصة إزاء حملة المقاطعة واسعة النطاق، التي كادت تطيح بهم في انتخابات نيسان الماضي، وهي وإن لم تفعل، لكنها كشفت الغطاء وأسقطت الأقنعة، وأظهر هشاشة موقف المؤيدين للكنيست، وأكدت أن هذا الشعب الأصيل يعرف كيف يتخذ المواقف الصحيحة، فكانت مقاطعة مبدئية في أغلبها، تجاوزت 65% من أصحاب حق الاقتراع. ولو لم يستخدموا سماعات المساجد والسيارات الجوالة في الساعة الأخيرة، وما قيل عن عمليات تزوير وتقاسم أصوات (حتى مع أحزاب صهيونية) في الدقائق الأخيرة، لتجاوزت نسبة المقاطعة 70%.
هل يمكن لعالم رباني كبير أن يخطيء؟ نعم! بكل تأكيد، فالعلماء ليسوا معصومين! وقد قال ابن الخطاب رضي الله عنه: “أصابت المرأة وأخطأ عمر”.
وهل خطاُ عالم كبير يُنقصُ من مكانته العلمية، ومن احترامه، ومن عمله؟ إطلاقا!
ولكن إصرار العالم على الخطأ، بعد أن يتبين له خطأُه، كارثة!
والدكتور أحمد الريسوني له مكانته وله احترامه وله فضله. لكن هذا لا يعني أنه لم يخطيء، ولا يخطيء، ولا يمكن أن يخطيء في تينك القضيتين اللتين تعتبران من الملفات الكبيرة التي تهم شعبنا الفلسطيني كله، وعالمنا العربي بكل شعوبه، وأمتنا الإسلامية بكل أبنائها في القارات السبع. ولا يعني أن نتلقف رأيه الشخصي، ونجعله وسيلة لتأكيد المواقف الخاطئة أصلا، سواء في قضية زيارة المسجد الأقصى أو في قضية انتخابات الكنيست. وقد كان حريا بالمتلقفين أن يذكروا – من باب الإنصاف على الأقل- أن الشيخ عبّر عن رأيه الشخصي، ولم يصدر فتواه تلك باسم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، لكنهم لم يفعلوا! وكان حريا بهم، وهم الذين تلقفوا الخبر من وسائل إعلام من خارج إطارنا الجغرافي، أن يذكروا أن وسائل إعلام من داخل إطارنا الجغرافي قد تواصلت مع الاتحاد العام لعلماء المسلمين ونشرت على لسانه أن موقف الاتحاد لم يتغير، وأن الدكتور الريسوني، رئيس الاتحاد، عبر عن رأيه الشخصي، لكنهم لم يفعلوا، لغرض في أنفسهم. بل قالوا ما قالوا وهم يوهمون الناس أن الرأي هو رأي الاتحاد، كون الموقف صدر عن رئيسه!! وهذا ما يسمى تدليسا.
هناك من تحدثوا، وهو يدبجون المقالات تمجيدا لموقف د. الريسوني، عن “حاجة الأمة إلى هؤلاء العلماء الربانيين في أوقات محنتها وانكسارها وتراجعها”!! وهذا كلام في أصله صحيح، لكن تجييره وإسقاطه على رأي د. الريسوني هو عين الخطأ، وهو الخطأ بعينه. وأنا هنا لا يعنيني إذا ما كان د. الريسوني عالما ربانيا أم من علماء السلطان، ولست في مكانة تسمح لي أن أقيمه، فأنا لم أطلع على علمه كثيرا، ولم أسمع له الكثير، ولم أقرأ له الكثير، وإن كنت أظن فيه الخير الكثير. ولكنني أسأل: أي نوع من العلماء الربانيين نريد؟ أنريد أمثال العز بن عبد السلام، الذي حرك أمة لتحريرها من الاحتلال التتري؟ أم أمثال أحمد تقي الدين بن تيمية، الذي حرك أمة لتحريرها من الاحتلال المغولي؟ أم كالإمام أحمد بن حنبل الذي أنقذ الأمة من الضياع؟ أم أمثال عمر المختار؟ أم أمثال القاضي الفاضل الذي رافق صلاح الدين في تحرير بيت المقدس؟ أم تُرانا نريدهم على شاكلة علي جمعة وأحمد الطيب وعلي الجفري وعمرو خالد وخالد الجندي وأحمد حسون ومحمود الهباش؟
وإذا كانت أمتنا اليوم تعيش في محنة وانكسار وتراجع، فهل زيارة الأقصى تحت حراب الاحتلال، ستعيد للأمة أمجادها؟ وهل المشاركة في الكنيست الصهيوني هي التي ستخلص الأمة من محنتها وتجبر كسرها وتدفعها إلى الأمام؟ مالكم كيف تحكمون؟
إن هؤلاء يعلمون جيدا أن الاحتلال الصهيوني في المسجد الأقصى المبارك يتحكم في كل شيء هناك، يمنع من يشاء ويسمح لمن يشاء بالدخول إلى قبلة المسلمين الأولى، والأمة تعيش ذل هذا الحال بلا حراك، وكأنها جثة هامدة. وفي التالي فإننا لو أسقطنا رأي الدكتور الريسوني على هذا الواقع فإننا لا نجد له أي مبرر واقعي. وبدلا من ذلك كان حريا بمن تلقف هذا الموقف أو هذا الرأي أن ينظر حوله ليرى الذين يمنعهم بطش الاحتلال من دخول القدس والأقصى منذ سنوات، والذين يتعرضون للإبعاد يوميا عن مسجدهم، والذين يرون الأقصى من بعيد من أهلنا في الضفة الغربية ولا يمكنهم الوصول إليه بسبب بطش الاحتلال، ليعلم أن المستفيد الوحيد من مثل هذه المواقف والآراء هو الاحتلال، الذي، بلا أدنى شك، “سيرحب” بدخول الزوار المسلمين، ليقول للعالم إنه احتلال متنور، ولا يمنع المسلمين من الوصول إلى الأقصى!!
ثم تسمع المتلقفين لرأي الدكتور الريسوني يقولون لك بأن أمثال هذه المواقف “تخدم الحقيقة الشرعية ولا شيء غير الحقيقة الشرعية”. أحقا؟!! وما هي الحقيقة الشرعية؟ أين نجدها في زيارة المسلمين من غير الفلسطينيين للأقصى تحت حراب الاحتلال، وكلنا نعلم أن مثل هذه الزيارات، حتى لو كانت بمروحية محمود عباس نفسه، فإنها لا تكون إلا بموافقة الاحتلال؟ وكيف نفهم الحقيقة الشرعية في قضية انتخابات الكنيست الصهيوني؟!
والأغرب من ذلك أن يستشهد أصحاب هذه المقولات تحديدا بالشهيد سيد قطب لتدعيم رأيهم وتأكيد موقفهم، فكانوا كمن وجّه ضربة إلى نفسه!! ذلك أن سيد قطب رحمه الله تعالى دفع حياته ثمنا لثباته على موقفه الأصيل، رافضا أن يوقِّع في سجلّ الظالمين. وهل الموقف الأصيل الذي يرفض تلك الزيارات تحت حراب الاحتلال، ويرفض لعبة الكنيست الصهيوني إلا نموذجا شبيها بنموذج الشهيد سيد قطب؟!! وهل يستقيم مثال سيد قطب مع ما يريده الذين صفقوا لرأي الدكتور الريسوني؟ وإذا كان العلماء الربانيون هم “أكثر من يخافهم الحكام المستبدون”.. وهذه حقيقة، فهل رأي الدكتور الريسوني من تينك القضيتين الخطيرتين، أرعبت نتنياهو مثلا؟ هل بثت الرعب في قلوب محمود عباس وسلمان وابنه وأبناء زايد على سبيل المثال؟ أم أن هذا الموقف أسعد قلوبهم لأنه في حقيقة الأمر (سواء قصد صاحبه ذلك أم لم يقصد) يصب في ذات الأجندة التي يعملون على تمريرها من خلال صفقة القرن؟
أهل مكة أدرى بشعابها:
إن قضية المسجد الأقصى المبارك، ومثلها قضية المشاركة في الكنيست الصهيوني، من القضايا الكبرى التي تهم، ويجب أن تهم الأمة كلها، فهما في حقيقة الأمر ليستا من القضايا المحلية الخاصة بالشعب الفلسطيني، ولا بأهل الداخل الفلسطيني وحدهم، ولا هي قضية شراء سيارة بالتقسيط الربوي في دولة كافرة على سبيل المثال. هذه قضايا مفصلية تعني الحاكم والمحكوم والكبير والصغير والوزير والغفير من أبناء هذه الأمة، وفي التالي فإن مقولة “أهل مكة أدرى بشعابها” التي استند إليها د. الريسوني في رأيه لا تنسحب، ولا ينبغي أن تنسحب عليهما. ثم لو أننا سلّمنا بتلك المقولة، فلماذا يتبنى د. الريسوني موقف فريق من “أهل مكة”، ويضرب عرض الحائط برأي فريق آخر، ربما يمثل أغلبية “أهل مكة”، وهو فريق مطارد تحديدا بسبب موقفه إزاء هاتين القضيتين بالذات؟ كان حريا به أن يقول مثلا: نترك الأمر لأهل البلاد، فهم أدرى بما ينفعهم. ثم لو سلّمنا بمقولة إن “أهل مكة أدرى بشعابها” فإن في “مكة” اليوم علماء أفاضل يستطيعون أن يبيِّنوا الحق في تينك المسألتين. وإذا كان أهل الداخل من أبناء من الصحوة الإسلامية على وجه الخصوص قد لجأوا في سنوات التسعين إلى علماء الأمة من خارج فلسطين ليفتوهم في مسألة الكنيست على سبيل المثال، فذلك لأنه كان ينقصهم علماء من أهل البلاد يقررون في هذه المسألة المصيرية والحاسمة القاصمة، كما أنهم فهموا – وهذا هو الحق-أن القضية لا تخص أهل الداخل وحدهم، بل تهم، ويجب أن تهم، الأمة كلها. ففلسطين وما يدور في كل بقعة فيها هي مدار الأمة ومحركها وموجه بوصلتها.
وأنا هنا يكفيني ما قاله رئيس المجلس الإسلامي للإفتاء في الداخل الفلسطيني، الدكتور مشهور فواز حفظه الله تعالى، في تلك المسألة، لما رد في بيان له على رأي د. الريسوني، وقال إنه كان يتأمل منه أن يلتزم بأساسيات السياسة الشرعية وقواعدها، وأن ينأى بنفسه عن مسألة لا يعرفها عن قرب. ثم ليته التزم بالمنهج الفقهي الرصين الذي رسمه رئيس الاتحاد السابق د. يوسف القرضاوي، في أن المسائل والقضايا الكبرى المتعلقة بمصير المجتمع أو الأمة لا بد فيها من الاجتهاد الجماعي، ولا يقبل فيها الاجتهاد الفردي. فكيف يكون الحال وقد خاض الدكتور الريسوني في مسألة لو عرضت على أمير المؤمنين عمر الفاروق الملهم، لجمع لها أهل بدر؟
ولعلّي أضيف هنا رأيا مشابها آخر للدكتور الريسوني قاله عام 2016 عندما كان نائبا لرئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أعرب من خلاله عن ارتياحه للإطاحة بالرئيس محمد مرسي، وأن ترشح الإخوان للرئاسة كان خطأ، متهما جماعة الإخوان المسلمين بالجمود الفكري، وأن عليها أن تتحرر من تراث حسن البنا!! ولكنه عندما استشهد الرئيس مرسي نشر تغريدة على موقع الاتحاد قال فيها: “الشهيد محمد مرسي.. قتلوه جميعًا.. حالة الدكتور محمد مرسي وصمة عار وإدانة للنخبة السياسية المصرية المتآمرة، التي باعت مرسي، وباعت الشرعية والديموقراطية، وباعت الشعب المصري للجلادين.. قبضوا الثمن الحقير، ومنهم من فر خارج مصر، ومنهم من خنس، بعد أن وسوس ودلس”.
فأي تناقض هذا وأي اضطراب في المواقف؟ وكيف يمكن لعالم مثله أن يقول ما قال عام 2016 بينما كان الإخوان المسلمون برجالهم ونسائهم ما بين مذبوح وسجين ومطارد؟ وكيف يكون الإخوان قد أخطأوا بترشحهم للرئاسة، ثم إذا به يكتشف أن هناك من باعوا الشرعية والديمقراطية؟!!!
يقول الأستاذ عرفان بلخي، في مقال له بعنوان “علماء الثغور وعلماء القصور”: في زمان غابر كان للعلماء دورٌ عظيمٌ في تثبيت قلوب المسلمين، وجمع صفَّهم، وبثِّ الهدوء والطمأنينة في روعهم، لا سيَّما في أزمان الفتن، وأوقات الهرج، فللعلماء دورٌ كبيرٌ في توضيح ما أُشكل على الناس، وردِ مُخطئهم، وانْتشال من وقع منهم في الفتنة والغي والبغي. وقد حفل تاريخنا الإسلامي بالعديد من الأسماء التي كان لها عظيمُ الأثر في تجاوز مراحل الفتن، والعبور بالأمة الإسلامية إلى برِّ الأمان، ولو أدى الأمر إلى تعرضهم وذويهم للبغي والأذى من قِبل أعداء الأمة، فكم من عالم أوذي في سبيل الحق الذي معه، أو الباطل الذي يعاديه ويناكفه. وهذا الدورُ لم يقتصر على مظهرٍ واحدٍ، وإنَّما تنوع بتنوع الفتن، فإن كانت الفتنة فتنة قتالٍ وحروبٍ وهرجٍ ومرجٍ، خرجَ العلماءُ منتصرين لفسطاط الحق، مبصِّرين الناس بصاحب الحق، والواجب على الأمة حيال هذه الفتنة، وهكذا الحال تجاه كل فتنة تعرض على المسلمين فلم نرَ من العلماء الربانيين في ذلك إلا كل صدقٍ وأمانةٍ وحرصٍ على هذه الأمة، ولم نرَ منهم إلا قُد اتوا نماذج مثالية للاقتداء والتأسي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى