أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

عبد النّاصر كما لا تعرفونه-الحلقة الثالثة

بقلم: أحمد هاني مصطفى كيوان
(الثّورة العوْرة والضّبّاط الأشرار)
كان للثورة أعداء، وكنّا نحن أشدّهم خطورة.
كان كلّ ضابط من ضبّاط الثورة يريد أن يملك، يملك مثل الملك، ويحكم مثل رئيس الحكومة؛ ولهذا كان هؤلاء الضّباط يسمّون الوزراء بالسّعاة، أو الطراطير أو بالمحضرين.
وكان زملاؤهم الضبّاط يقولون عنهم: “طردنا مَـلِــكًا، وجئنا بثلاثة عشر مَـلِـــكًا”
هذا ما حدث بعد أيّام قليلة من الثورة. ويغلّق “محمد نجيب” قائلًا: “وأنا اليومَ أشعر أنّ الثورة تحوّلت بتصرّفاتهم إلى عورة، وأشعر أنّ ما كنت أنظر إليهم على أنّهم أولادي، أصبحوا بعد ذلك مثل زبانيّة جهنّم، ومن كنتُ أتصوّرهم ثوّارًا، أصبحوا أشرارًا”.
خرج الجيش من الثكنات، وانتشر في كلّ المصالح والوزارات المدنيّة، فوقعت الكارثة التي لا نزال نعاني منها إلى الآن في مصر.
يؤكّد محمد نجيب في “كنت رئيسًا لمصر” أنّ قوّة عبد الناصر تكمن في شخصيّته، وشخصيّته من النوع الذي يتكيّف ويتغيّر حسب الظروف، فهو مرّة مع الشيوعيّين، ومرّة مع الإخوان، وعشرات المرّات ضدّ الجميع، ومع نفسه. (ص:202).
ويؤكّد محمد نجيب أنّه هو الذي خلّصهم من الملك فاروق، وأنّ سليمان حافظ خلّصهم من كبار السياسيّين والأحزاب، وتخلّص حسين الشافعي من متاعبهم وبقي في بيته، ولم يبق من ضبّاط الثورة سوى أنور السادات الذي كان يُعرف بدهاء الفلّاح المصريّ، والذي استطاع أن يتجنّب الأهواء والعواصف، فكان دائمًا يقول في كلّ شيء: “صح”. وكانت هذه الكلمة لا تعني أنّه موافق أو غير موافق؛ بل كانت تعني دائمًا أنّع يفكّر وينتظر الفرصة.
استقرّت الأمور في مصر، فشعر الضبّاط الأشرار أنّهم قادرون على تغيير نهج حياتهم، فكان أوّل عمل قاموا به، هو تغيير سيّارات الجيب، بسيّارات الصّالون الفاخرة، كي يميّزوا أنفسهم عن باقي الضبّاط.
وترك أحدهم شقّته المتواضعة، واستولى على قصر من قصور الأمراء في حيّ “جاردن سيتي”، حتّى يكون قريبًا من إحدى الأميرات التي كان قصرها قريبًا من ذلك القصر الذي استولى عليه، فكان لا يتورّع أن يهجم على قصرها بعد منتصف الليل، وهو في حالة إغماء بسبب الخمر. وكثيرًا ما طلبتني الأميرة في الفجر لإنقاذها من ذلك الضّابط الذي تصوّر نفسه الملك الجديد. وعندما كنت أحاول أن أردّه وأثنيه عمّا يفعل كان يقول: “إنّنا نستردّ جزءً مّما دفعناه لسنوات طويلة” (ص:203).
“اقترب الآن من النهاية، وأحزم حقائبي استعدادًا للرّحيل. إنّني في الأيّام التي يكون فيها الإنسان معلّقًا بين الأرض والسّماء. في تلك الأيّام التي يختفي فيها تأثير الجسد على البشر، ويبقى نفوذ الرّوح، ويبتعد الإنسانُ عن المادّة ويغطّي نفسه بالشّفافيّة، وينسى الألم والدّنيا والسّلطة والمالَ والولدَ، ولا يتذكّر إلّا الحقَّ والصّدق والخير.
أحيا أيّامي الأخيرة مع أمراضي وشيخوختي، جسدي نحيفٌ، شهيّتي ضائعة، بصري ضعيف، حركتي نادرة.
النّوم يخاصمني والأرق يرافقني؛ ومع ذلك فالذكريات تلاحقني، التفاصيل الصّغيرة والكبيرة، وذاكرتي لا تزال تعذّبني بكلّ ما رأيته وعشته منذ طفولتي إلى الآن.
وأدركتُ أنّه قد بقي عليّ واجب لا بدّ من أدائه قبل الرّحيل، أن أكشف ما سترته، وأزيح ما واريته، وأكمل الصّور التي أشرتُ إلى وجودها.
وبدأتُ رحلتي الشّاقّة في التفتيش عن الأوراق الذّكريات، وفي مواجهة الأخطاء التي وقعتُ فيها، والعيوب التي لم أتخلّص منها.
لم أكن أتصوّر أن أعيش وأكتب هذه المقدّمة، لم أكن أتصوّر أنّ الله سيمدّ في عمري إلى هذه اللحظة؛ لحظة قراءة هذا الكتاب قبل أن تبتلعه ماكينات الطّباعة.
يمكنني الآن أن أموت وأنا مستريحَ البال والخاطر والضّمير؛ فقد قلت كلّ ما عندي، ولأم أكتم شهادة، ولم أترك صغيرة، ولا كبيرة إلّا وكشفتها.
عرفتُ كم كانت جريمة الثّورة في حقّ الإنسان المصريّ بشعة، وعرفتُ أيّ مستنقع أقينا فيه الشّعب المصريّ.
فَقَدَ حريّته…
فَقَدَ كرامته…
فَقَدَ أرضه…
وتضاعفت متاعبه…”
هذا ما سجّله اللواء محمّد نجيب في كتابه” “كنت رئيسًا لمصر”.
لقد استولى عبد الناصر على رصيد النّاس من الأمل، ومدّخراتهم من الشجاعة…
(الضّباط الأشرار والاستيلاء على المال العامّ)
ذات صباح لا أنساه، وقعت مفاجأة مذهلة لا أنساها حتّى اليوم!!!.
كنّا أن وجمال عبد الناصر نركب سيّارة، ونتّجه إلى نادي الضّباط في الزمالك، لنهنّئهم بعيد الأضحى، فهمس لي عبد الناصر، وقال:
“إنّي أودّ أن أعرض عليك أمرًا ناقشته مع بعض الزملاء”.
وانتبهت له، وأعطيته كلّ حواسّي، فقال:
“اعتقد أنّ ظروفنا الآن تفرض علينا أن ننظر إلى مستقبلنا، ومستقبل الثورة، ونحن محاطونَ بالعواصف والأعداء، ولا نعرف مصيرنا معها”.
قلت له: “ماذا تقصد بالضّبط؟”
قال: “لقد اتّخذنا قرارًا أرجو أن توافقنا عليه، وهو أن يأخذ كلّ عضو من أعضاء مجلس القيادة مبلغ عشرة آلاف جنيه، وتأخذ أنتَ أربعة عشر ألفًا، فيكون المجموع 134 ألف جنيه، وقد طلبت من زكريّا محيي الدين أن يحجزهم لنا من النقود الجديدة”.
أحسستُ ساعتها بالغيظ، وغلى الدّم في عروقي، وارتفع ضغطه في رأسي، ولم أتحمّل هذا الحديثَ، فصرخت فيه: “اسكت، اسكت”.
وأخذت أعنّفه بشدّة، وأهاجمه على استباحة أموال الشّعب لنا، ورفضتُ أن يخلط بين أموال الناس وجيوبنا الخاصّة، وكدتُ أن أطلب منه أن ينزل من السيّارة.
فإذا به يضحك ضحكة عصبيّة، ويردّ عليّ وهو مرتبكٌ: “أنا كنت متأكّد أنّك حتردّ بالشّكل ده”. وبعد أن تماسك وملك نفسه قال: “صدّقني أنا كنتِ بامتحنك”.
ولم أصدّقه بالطبع، ولكنّي بدأت أعيد النّظر في تصرّفاته، وفي تصرّفات زملائه. وما حدث من عبد الناصر، حدث بصورة أو أخرى من باقي الزملاء في المجلس. (محمّد نجيب-كنت رئيسًا لمصر. ص،204-205)

(الذي لا ينطق عن الهوى)
يسجّل الكاتب المصريّ “أنيس منصور” في كتابة “عبد الناصر المـُـــفتَرَى عليه المُـــفتَري علينا”، بعضًا من المشاهد النفسيّة التي اختمرت في ذهن الإنسان العربيّ، والتي رأت في عبد النّاصر كائنًا مقدّسًا، لا ينطق عن الهوى، فيقول ناسجًا بعض المشاهد التي من شأنها أن تبيّن الأثر النّاصري على عقل الإنسان العربيّ وتفكيره، فيقول:
“فانت تضربُ كلبك أو حمارك بالشّلوت، ولا يقول: آه… وتضربُ خادمك بما في يدكَ، وفي الريفِ يجلسُ الرّجل إلى جوار زوجته على الترعة، ويخلع حذاءه ويضربها على ظهرها، ويكون ذلك نوعًا من الدلال، ويكون ردّ الزوجة: جَرَى إيه يا عليوه؟، ليقول لها: يا بتّ بأحبّك!
وفي الريف يضرب العمدة أحد الفلّاحينَ بالجزمة فيقول: جزمتك شرف يا عمدة! والرومانسيّونَ يقولون: لا تضرب المرأة بوردة. فأنت عندما تضربها بوردة تكون قد أهنتها.
وعشرات الألوف دخلوا السّجون، وخرجوا ناقصينَ وزنًا وحجمًا وكرامة، ولم يتكلّموا، وبعضهم دخلوا السّجونَ وتقلّبوا على النّار والبوب، ولحسوا الأرض، ونهشتهم الكلاب، وخرجوا شاكرينَ حامدين للرئيس جمال عبد الناصر أنّه عذّبهم؛ فهم يرونه أنّه الأخ الأكبر للنظريّة الماركسيّة، وأنّه يطبّقها بعنفٍ، وللأخ الكبر على أخوته الصّغار حقّ الضرب والتّأديب والتهذيب.

والرئيس كلّ حركاته مدروسة محسوبة، ولذلك فهو إلى الأمام دائمًا. فالنصر خطوة كبيرة إلى الأمام، والهزيمة نكسة إلى الأمام… هو منتصر دائمًا؛ حتّى عندما انتصر الجيش المصريّ سنة 1973 كان هو الذي وضع الخطّة، فكان انتصارًا عسكريًّا، وهزيمة سياسيّة؛ فالذي مات انتصر عسكريًّا، والسادات الذي لم يمت انهزم سياسيًّا، فعبد الناصر إذا حضر انتكس، وإذا غاب انتصر، وإذا حضر انتصر قليلًا، وإذا غاب انتصر كثيرًا.
كانت الثورة انتصارًا له ولزملائه… انتصارًا كبيرًا له وصغيرًا لزملائه، والعدوان الثلاثيّ لم يستهدف جيش مصر، ولا شعب مصر؛ وإنّما استهدف الزعيم الملهم… وإيه يعني الجيش المصري؟!! نعمل غيره… كما قال الزعيم الملهم، وإيه يعني الشعب المصريّ؟!! ما هو على قفا مين يشيل… فالمقصود بالعدوان هو الزعيم الملهم، كما صرّح بذلك شيخ مشائخ الطرق الناصريّة. فماذا حدث؟ لم يحدث شيء، فالرئيس ظلّ حيًّا يرزق بعد العدوان الثلاثيّ، والنظام قائم على أربع، وهزيمة 1967، لم تكن هزيمة؛ وإنّما هي “وعكة” عسكريّة… عطسٌ… زكامٌ…سعالٌ ديكيّ خفيف.
وبقي الرئيس الملهم، وجاءت الجماهير تطالب بعودته، وفداك ألف جيش وجيش يا ريّس… وراحت الجماهير التي ساقها النظام تبوس القدم، وتبدي النّدم على غلطتها في حقّ زعيم الغنم… بينما ممثّلو الغنم يرقصون ويطبّلون في مجلس الشّعب.
هذه النّوعيّة الكهنوتيّة التي يردّدها، وما زال يردّدها مشائخ الطّرق الناصريّة هي نوعيّة استفزازيّة؛ لأنّها إهانة للإنسان وتجاهل لويلات ملايين المصريّين والعرب، وصفعات وركلات لنصف مليون جندي، كانوا يلحسون الرمال، ويعتصرون الماء من علب الصّفيح بحثًا عن قطرة ماء، ومئات الألوف من الضحايا ذهبوا في “نزهة عسكريّة” ولم يعودوا… لقد ماتوا بحسرتهم وعاش بغيظهم؛ آباء وأمّهات وزوجات وأولاد وبنات…
(الإصبع الوسطى لكاليجولا الشّعب المصريّ)
كان الإمبراطور الطاغية “كاليجولا” إذا قرّر إعدام أحد، أمسك أذنه اليمنى بيده اليسرى، واستدار ليصدر حكمًا دون أن يرى المحكوم عليه، وقبل أن يعود إلى وضعه السابق تكون الضّحيّة كومة على الأرض.
وكان نابليون بونابرت، يفضّل أن يصدر أحكامه واقفًا حتّى في مجلس الوزراء؛ فإذا جاءت لحظة القرار، انتفض واقفًا ليكون أطول وأعلى وأسمى من الجميع، ثمّ يستند بذراعيه على المنضدة، ويحني رأسه إلى الأمام ويكون القرار، فإذا انحنت الرؤوس أمامه، انتصب واعتدل واستقام، ورفع يده اليمنى؛ وقد ضمّ أصابعه جميعًا دليلًا على القوّة والحسم والحزم، فإذا حاول أحد مستشاريه أن يستوضح، تتباعد أصابعه التي كانت شبه نائمة، لتصحوَ واحدة واحدة، وتنيب عنها أصبعه الوسطى، فيعترض الإمبراطور على أيّ اجتهاد أو محاولة لذلك.
يتبع في الحلقة القادمة بعون الله

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى