أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

يسألونك عن البديل للكنيست الصهيوني! (5)

حامد اغبارية
لم يكن مشروع المجتمع العصامي، الذي تحدثتُ عنه في المقال السابق، والذي أثبت جدارته ونجاعته وتأثيره وأثره الطيب، قد جاء من فراغ، وإنما هو في الحقيقة نموذج معاصر للتجربة الإسلامية الأولى، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فقد اجترح المسلمون الأوائل مجتمعهم، الذي قامت عليه أسس دولتهم، من مرحلة الصفر، بل تجد من المؤرخين من يقول إنه بدأ من مرحلة ما تحت الصفر، في وقت تجمعت على المجتمع المسلم أحلاف من شتى أصقاع الأرض، جمعت أكبر قوتين في ذلك الوقت (الفرس والروم) وجمعت قبائل العرب، وقبائل اليهود في المدينة، وجمعت العشيرة القريبة، بل جمعت في مراحل مختلفة الأب والابن والأخ وابن العم، فما فتّ هذا من عضُد المسلمين، بل دفعهم دفعا إلى إنشاء مجتمع عصامي أذهل الباحثين والدارسين، بما أحدثه من اختراق في “السياسة العالمية والإقليمية والمحلية” في ذلك الوقت، وفي وقت قياسي مذهل، وبما أسس له من قواعد متينة أدت في نهاية الأمر إلى قلب الموازين، لتخرج من وسط المعاناة والظلم بشتى أصنافه ومصادره، إمبراطورية صنعت أعظم حضارة عرفتها البشرية على الإطلاق.
وما أشبه اليوم بالأمس. فحالنا اليوم لا يختلف كثيرا عن ذلك المشهد الذي سقناه مثالا ليس للمقارنة وإنما للتقليد والتطبيق. وإننا إذا ما أردنا الخلاص من أحلاف اليوم التي تجمع قوى عالمية وإقليمية ومحلية، وفي مركزها المشروع الصهيوني، يدعمه النفَس الصليبي، المؤيد من الماسونية العالمية، فإنه لا مجال للخلاص إلا ببناء مجتمع عصامي، مستخدمين الأدوات المتوفرة بين أيدينا، وهي كثيرة، وضمن المساحات المتاحة، وأولها ذلك المدّ البشري المبارك، الذي يملك من القدرات ما يقلع به الجبال، وما يحوّل رمال البحر والصحراء إلى ذهب خالص يخلصنا من التبعية ويخرجنا من دائرة الذل والمهانة والاستجداء واللهاث وراء سراب الوعود الكاذبة التي سئمناها، والتي لم تجرّ علينا سوى المزيد من التبعية وترسيخ حالة الضعف والهزال والشعور بالضياع.
وقد أثبت مشروع المجتمع العصامي الذي أسست له الحركة الإسلامية (المحظورة إسرائيليا)- مع كل القيود والعقبات التي واجهته- أن في استطاعة مجتمعنا أن ينهض بنفسه، وأن يطور نفسه بنفسه، وأن يستخرج من الصخر الأصمّ ماء زلالا، وأن ينبت الخضر في الصحراء، وأن يبعث الحياة في الأماكن التي ظن ضعاف النفوس أن مصيرها الموت الأبدي، فأحيا النفوس والقلوب والعقول، واستنهض الهمم، وأعاد اتجاه البوصلة إلى وجهتها الصحيحة، وخطا خطوات شاسعة في استعادة وعي الناس، وبث روح الانتماء بين الأجيال المختلفة، ونفض الغبار عن الهوية، ذلك الغبار الذي راكمته سياساتُ وخططُ المشروع الصهيوني طوال سبعة عقود، وساهمت فيه قوى إقليمية ومحلية.
وقد تمكن ذلك المشروع المبارك من النجاح بفضل الله أولا، ثم استنادا إلى أربعة أركان راسخة الجذور: عقول تفكر وتبدع، ورافعة اقتصادية متينة، أساسها ونبعها الأصيل أبناء هذا الشعب المعطاء، وخبرات تخصصية في مختلف المجالات، ومؤسسات أهلية تخصص كل منها في مجال من المجالات، فكانت المؤسسة التي تُعنى بالتربية والتعليم، وكانت المؤسسة التي تُعنى بالمجال الاقتصادي، وكانت المؤسسة التي تُعنى بالأوقاف، وكانت المؤسسة التي تُعنى بالتعليم الجامعي، وكانت المؤسسة التي تُعنى بركن الزكاة (الرافعة الاقتصادية الأم)، وكانت المؤسسة التي تُعنى بالأسرة، وكانت المؤسسة التي تُعنى بالقانون وحقوق الإنسان، وكانت المؤسسة التي تُعنى بالإعلام، وكانت المؤسسة التي تُعنى بالثقافة والحضارة، وكانت المؤسسة التي تُعنى بالعمل السياسي، وكانت المؤسسة التي تُعنى بالدراسات الاستراتيجية والأبحاث، وكانت المؤسسة التي تُعنى بالطفولة والأمومة، وكانت المؤسسة التي تُعنى بالمقدسات، وكانت المؤسسة التي تُعنى باليتيم والأرملة والفقير، وكانت المؤسسة التي تُعنى بالشؤون الصحية والطبية، وكانت المؤسسة التي تُعنى بالإغاثة الإنسانية، وكانت المؤسسة التي تُعنى بتطوير الصناعات المحلية والورش الصغيرة، وكانت المؤسسة التي تُعنى بالتربية الدينية، وكانت المؤسسة التي تُعنى بالفن، وكانت المؤسسة التي تُعنى بالرياضة، والقائمة طويلة، يضيق المجال لاستعراض ما قدمته، وما يمكن أن تقدمه لمجتمعنا في المستقبل، إذا ما تبنته كافة أطياف العمل السياسي والأهلي، من خلال لجنة متابعة تُبنى بالصورة التي أشرت إليها في المقال السابق.
ومن خلف هذا كله تقف حاضنة شعبية دافئة قوية متماسكة، تحتضن كل هذا الخير وتحميه بالغالي والنفيس، وتساهم في تقدمه وتطوره، وتوفر له كل أسباب النجاح والتمكين.
فالبديل إذًا: لجنة متابعة منتخبة انتخابا مباشرا، تفرز قيادات ثقة، يمنحها الشعب صوته ودعمه لبناء مجتمع عصامي، مبني على مؤسسات أهلية في مختلف التخصصات والمجالات الحيوية، ومن خلفه قاعدة شعبية تمده بأسباب بالقوة والمنعة والطاقات البشرية والقدرات والخبرات والمال. وهذه القاعدة الشعبية ليست كما يمكن أن يتخيلها أو يصوّرها المثبّطون؛ ارتجالية، عفوية، متحمسة، تتحرك كردة فعل لحدث هنا وحدث هناك، بل قاعدة شعبية مبنية على أسس متينة، وتعمل وفق برنامج عمل وخطط قصيرة المدى وأخرى طويلة المدى، يضعها خبراء في مختلف المجالات، وتشرف عليها لجان عمل شعبية في كل مدينة وقرية وتجمّع سكاني في الجليل والمثلث والنقب والمرج ومدن الساحل، يجمعها كلها إطار شعبي قطري موحد يضم ممثلين عن كل لجنة عمل شعبية، ويكون لهذا الإطار تمثيل مركزي في لجنة المتابعة المنتخبة. وبذلك يكتمل البناء البديل على شكل هرم قاعدته الحاضنة الشعبية بلجانها المختلفة، وإطار عمله وبوصلته المجتمع العصامي، وآليات عمله المؤسسات الأهلية في مختلف التخصصات والمجالات التي يحتاجها كل مجتمع بشري يسعى إلى النهوض والتقدم والتطور الحضاري، ورأسه (قيادته) لجنة متابعة منتخبة انتخابا حرا حقيقيا. هكذا يمكننا أن ننهض بأنفسنا، لنتحول من مجتمع استهلاكي ضعيف يعيش على الفتات، ويبني مستقبله على أوهام، إلى مجتمع منتج، قوي، يعيش عيش الكرام، ويحمل الشعور بالكرامة وبالأنفة والكبرياء، ويبني مستقبله على أسس متينة وعلى حقائق.
على مدار سبعة عقود فشلت كل البدائل التي طرحتها الأحزاب السياسية على اختلاف توجهاتها وإيديولوجياتها. فشلت فكرة الاندماج في المجتمع الإسرائيلي، وفشلت فكرة التعايش، التي اتضح أنها مجرد وهم يستخدم لتمرير أجندات دخيلة، وفشلت فكرة المساواة، التي دق قانون القومية المسمار الأخير في نعشها، وفشلت فكرة الإدارة الذاتية الثقافية، وفشلت فكرة دولة جميع مواطنيها، وفشلت فكرة الدولة الواحدة ثنائية القومية، وفشلت فكرة الشراكة مع الأحزاب الصهيونية، وفشل خيار الكنيست الصهيوني. فما الذي تبقى؟! علينا أن نبدأ بمأسسة فكرة انتخاب المتابعة انتخابا مباشرا، ومأسسة فكرة المجتمع العصامي، ومأسسة فكرة قاعدة العمل الشعبي، ومأسسة فكرة بناء المؤسسات الأهلية المتخصصة.
وفي الوقت نفسه يجب ألا نغفل عن قضية الانتماء إلى الدوائر الثلاث التي هي مناط استمراريتنا: دائرة الانتماء إلى الشعب الفلسطيني، ودائرة الانتماء إلى العالم العربي، ودائرة الانتماء إلى الأمة الإسلامية. ولا نريده أن يكون مجرد شعار نعبر عنه بلسان المقال، بينما لسان الحال مزيد من الغرق في مستنقع الأسرلة، بل نريده انتماء حقيقيا، نعبر عنه من خلال شبكة تواصل مع كل تلك الدوائر، بحيث يكون لنا وجود حقيقي فيه.
يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى