أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

القدس في سياق إسرائيلي

صالح لطفي-باحث ومحلل سياسي
طالعتنا صحيفة اسرائيل اليوم “يسرائيل هيوم” يوم الأحد الثامن والعشرين من الشهر المنصرم أيلول/سبتمبر، المقربة من رئيس الوزراء نتنياهو، أن وزير الخارجية يسرائيل كاتس قد وضع خطة سيطرحها قريبا على مجلس الوزراء تتعلق بسبل تشجيع الدول التي لها سفارات وقنصليات في إسرائيل، وإقناعها بفتح أو نقل سفاراتهم إلى القدس، وتأتي هذه الخطة ضمن الطروحات والتصورات التي يعتقد كاتس أنها مهمة لتحقيق السيادة على مدينة القدس.
ويعتبر كاتس رفع مستوى المدينة دبلوماسيا وسياسيا قضية قومية من الدرجة الاولى بل وينظر إلى ما سيطرحه على انه هدف وطني واستراتيجي يجب على الحكومة تحقيقه، ووفقا لتصريحاته فإن عدة دول عندها الاستعداد لنقل سفارات بلادها من تل ابيب الى القدس شريطة أنْ يتم ذلك ضمن صفقات واتفاقيات تعود بالنفع على تلكم الدول.
الاعتماد الاسرائيلي على الولايات المتحدة كحليف الاستراتيجي
الذي لا شك فيه أنَّ اختراق إسرائيلي للعالم من اجل القدس في السياقين السياسي والدبلوماسي هو تحد أممي وإسلامي وعربي وفلسطيني، وهو تحد للفلسطينيين بامتياز، حتى وإن أثبتت الاحداث أن الاستجابة للنداءات والتصريحات والإغراءات الاسرائيلية إلى هذه اللحظات جد ضئيلة، بل وهزيلة مقارنة بما يمكن أن يتحقق من منجز دبلوماسي لو فعلا حققت اسرائيل مرادها.
تنطلق إسرائيل في ملف القدس من خلال مجموعة من الركائز ذات الخلفيات الايديولوجية ذات الصلة بالقيم الدينية اليهودية وأخرى متعلقة بالمصالح المبنية أساسا على الانانية وتقديم الذات\الدولة\الحاكم على المجموع\المجتمع، وفي هذه السياسات تعتمد على الولايات المتحدة كحليف استراتيجي يملك أدوات التأثير على منطقتنا وعلى العالم أجمع.
وفي هذا السياق تراجعت القضية الفلسطينية وفي القلب منها القدس في جدول السياسات الخليجية والعربية لصالح تعظيم علاقات قائمة منذ زمن مع اسرائيل، وهذا التراجع الذي قابله انبطاح في العلاقة مع اسرائيل واجهته اسرائيل بمزيد من البلطجة “الدولية” لعل اقلها ما شاهدناه من هدم لأكثر من مئة منزل للفلسطينيين في المنطقة “ج” التابعة للسلطة الفلسطينية وتغول مستمر في المسجد الاقصى المبارك فعامل الردع الدبلوماسي الذي يؤثر على اسرائيل انتهى مفعوله نهائيا بعد إذ تحولت الانظمة العربية الى حالة احتلال لشعوبها ودخلت في نفق الدفاع عن بقائها في السلطة والحكم بغض النظر عن النتائج.
تقوم العلاقات الدولية المعاصرة على أساس من منطقي القوة والمصلحة وليس على أساس العدل والحقوق، وفي السياق الاسرائيلي تتجلى هذه الثنائية في كيفية فرض الولايات المتحدة مشروعها المسمى “صفقة القرن” على المنطقة عموما وعلى الشعب الفلسطيني، وإعلانها الواضح أنها توافق فقط على منح الشعب الفلسطيني حكما ذاتيا (عودة الى طروحات بيغن على السادات في أواخر سبعينات القرن الماضي)، ولقد كان التمسك الإسرائيلي في أنْ تكون القدس عاصمتها قائم منذ لحظة قيامها، فقد صرّح بذلك معظم قادة الحركة الصهيونية وفي مقدمتهم بن غوريون، ضاربة عرض الحائط القرار الأممي في كونها مدينة أممية لا تخضع لسيادة طرف بعينه من أطراف النزاع أساسا، وهذا القرار الإسرائيلي في جوهره ومداه العملي هو تطبيق للفكرة الصهيونية في كون القدس عاصمة لدولتها القادمة لأنّ الحركة الصهيونية تعتبر وجودها عدما في ظل غياب القدس عن واقعها السياسي المنجز، وفي الفكر الصهيوني شغلت القدس مكانة في أدبيات الكثيرين من المفكرين والادباء الصهاينة.
قد يذهب البعض للقول إن القدس ليست محل اجماع ولا هي “المقدس” في العقل الجدلي الصهيوني الذي طالما سعى لتأسيس دولة لليهود بغض النظر عن مكان هذه الدولة او\وقيامها على أي جزء من أرض فلسطين.
القدس في مثل هذا “العقل الصهيوني” محل جدل ليس هنا مباحثه وتفكيك مقولاته، لكن أكتفي بالإشارة الى أن التخلي الصهيوني عن القدس وارد فقط عند تداخل الحسابات يوم تُخير بين القدس والوجود إذ التخلي عن القدس مرتبط عدما ووجودا بإسرائيل ككيان جامع لليهود ممن لا يريدون العودة الى أيام الحمايات أو أيام الانعتاق “אמנציפציה” او أيام الإبادة “الهولوكوست، وأنّ جدلا يتعلق بأصل الوجود المتعلق بإسرائيل ليس بالقائم حتى هذه اللحظات في السياقات السياسية ولا الاستراتيجية لا على المستوى الفلسطيني ولا على المستوى العربي ولا على المستوى الإسلامي، ومن ثم فإسرائيل حتى هذه اللحظات في منأى عن أن تفكر في مثل هذه القضية وإن وضَعت عديد السيناريوهات بشأن هذا الموضوع وما “مؤتمرات هرتسليا “إلا غيض من فيض هذه التصورات- التحديات.
إن تخيير اسرائيل بين استمرار وجودها دولة قابلة للحياة تستوعب يهود الأرض وبين دولة تركن على “خيار شمشون” مع بقاء القدس عاصمة لها لا وجود له حتى هذه اللحظات، فإسرائيل فطنت الى ضرورات أن تحول القدس الى عاصمة بمعناها السياسي-المدني فقط في العشريتين الأخيرتين فهي على سبيل المثال لا الحصر لَّما تنقل كافة مؤسساتها الحكومية الى القرية الحكومية في مدينة القدس، ومع أنها ضمت المناطق العربية المقدسية فلا تزال الظاهرة الاحتلالية سيدة الموقف، فنحن أمام عاصمة هي ثكنة عسكرية في الكثير من مساحاتها الهامة الممثلة في القسم المحتل عام 1967 وفيه المقدسات الإسلامية والمسيحية ذات الاثر الكوني.
اعتراف ترامب فيها كعاصمة أبدية جاء ضمن هذا المخطط الاسرائيلي الرامي لحسم العلاقة مع القدس وخلق حالة من الاشتباك مع الواقع والتاريخ والسياسة والجغرافيا سياسيا واستراتيجيا، لتحقيق معنى المدينة العاصمة، ولا أنسى أن طروحات ترامب “الليبرالي” جاءت بضغط من أطراف إنجيلية هي الحاكم الفعلي تدغدغها أشواق تتعلق في الفكر والرؤية المسيحية الإنجيلية، فالتشابك هنا له معنى مختلف عن القتال والاقتتال والمقاتلة والمواجهة، ففيه جوانب هامة من استعمال الاوراق اللا-عنفية لتحقيق سياسات تتعلق بالقدس عاصمة لإسرائيل، وإسرائيل تدرك ان هناك من يرفض رؤيتها حول القدس ويرفض كل ما يتعلق بهذه الرؤية ليس من العرب والمسلمين والفلسطينيين فحسب، بل ومن المسيحيين وفي مقدمتهم الكنيسة الكاثوليكية ممثلة بالفاتيكان والارثوذكسية المشرقية، ولذلك عملت الدبلوماسية الاسرائيلية بصمت وذكاء شديدين لتغيير هذه النظرة والموقف، واليوم يمكن أن نلحظ تغييرات في مواقف تلكم الكنيستين اتجاه الموقف الاسرائيلي من القدس.
رؤية كاتس هل تتحقق؟
وزير الخارجية يسرائيل كاتس يعمل على اقناع الدول لنقل سفارتها أو فتح سفارات أو رفع الوضعية الدبلوماسية لها في مدينة القدس في خضم واقع مضطرب داخل القدس، وتوتر كبير بين الاحتلال والمقدسيين ينذر بانفجار الاوضاع ليس فقط في المدينة بل في كل فلسطين التاريخية والعالم العربي، فنتنياهو ومعه اقطاب الليكود يعملون على فرض السيادة على القدس عبر أدواتهم الخاصة من مثل سن القوانين واستعمال العنف السلطوي ظنا منهم أنه يمكنهم بذلك إخراج العاصمة من قوقعتها الامنية-العسكرية الى مدينة طبيعية كما هو حال كل عاصمة في العالم.
تحدث كاتس عن مطالب عدد من الدول التي على استعداد لفتح سفارة لبلادها في القدس مقابل أن تكون إسرائيل وسيطا قويا وضاغطا على الولايات المتحدة لتحقيق مكتسبات ومنجزات لهذه الدول، وهناك دول طالبت بأن تساعدها إسرائيل اقتصاديا وتنمويا وماليا، مقابل فتح السفارة، ووفقا للصحيفة فان الوزير قد تقدم بطلب منحه مبلغ 50 مليون شيقل للمشاركة في نقل تلكم السفارات.
هناك مجموعة ثالثة تطالب برفع المستوى الدبلوماسي الاسرائيلي في بلادها الى مستوى سفارة لتقوم بالمقابل بفتح سفارة لها في القدس. بدوره يؤكد وزير الخارجية أنه ليس هناك في ظل الظرف الراهن ما يتقدم على القدس “لا يوجد أي أمر يعبر عن العودة الى الصهيونية اكثر من تعزيز السيادة الاسرائيلية في القدس، تعزيز مكانة القدس كعاصمة لإسرائيل هو هدف أساس وضعته نصب عيني.. القدس كانت وستظل القلب النابض للشعب اليهودي”، هذه الكلمات من طرف وزير الخارجية تحمل معان هامة حول مكانة القدس الحقيقية بالنسبة للجهاز الحاكم وللدوائر الحاكمة الإسرائيلية، ويؤكد الراهن السياسي الاسرائيلي أن القدس ارتبط التعامل معها من طرف الهيئات الحاكمة بعوامل دولية وإقليمية فكون القدس القلب النابض لليهود في العالم لا يعني انها كذلك بالنسبة للحكومات الاسرائيلية المتعاقبة حتى اليمينية منها والمعادلة مرتبطة أكثر ما تكون بالعرب والفلسطينيين.
لقد كان اعتراف ترامب في القدس عاصمة لإسرائيل أهم حدث في تاريخ الحركة الصهيونية منذ تأسيسها والى هذه اللحظات. فضلا عن أن هذا الامر جد مهم لإسرائيل كدولة تحتاج ان يُعترف بعاصمتها دوليا بعد القرارات الاممية الرافضة لاحتلال القسم الشرقي من القدس عام 1967، وتأكيد القرارات الدولية على أممية المدينة المقدسة وإغلاق لدائرة فتحت في سايكس بيكو ولما تغلق بعد. ويقابل ذلك أن تصريحات كاتس تكمن أهميتها في انها تريد ان تحول قرار ترامب الى واقع دبلوماسي علني مؤثر ومؤسس للبنة جديدة في علاقة المجتمع الاسرائيلي مع القدس، وتحمل معها رسائل توجه الى العرب والمسلمين، وتحديدا الفلسطينيين كإشارة الى أن القدس عاصمة لإسرائيل منذ أن كانت، وأن منطق القوة والغلبة هو الحكم الفصل وليس العدالة، ولذلك مضى كاتس على خطى ترامب في كيفية جذب من يريد من دول العالم لتكون سفاراتهم مدينة القدس، وذلك عبر صفقات من التحفيزات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية، فنحن نعيش عصر الصفقات.
كاتس أراد أن يمنح مخططه بعدا قوميا فقال إنه “ينظر الى الموضوع كأولوية قومية وسياسية واستراتيجية”، ولأن الغاية تبرر الوسيلة في فقه “المكيافيلية” الدولية فلا بأس أن تكون الوسائل أدوات لتحقيق الغاية الكبرى، ومن ذلك شراء ذمم تلكم الدول بثمن بخس لعلهم ينقلون سفاراتهم الى القدس، إذ أن مبلغ الـ 50 مليون شيقل زهيد جدا قياسا بما يود كاتس تحقيقه، ولكنها عقلية الصفقات التي باتت تحكم الدبلوماسية الدولية.
في سياق الجهود الاسرائيلية المبذولة لجعل القدس العاصمة السياسية وكيفية تدجين العرب الذين هم تحت السيادة الاسرائيلية في القدس يأتي معهد القدس لأبحاث السياسات من المراكز الهامة اسرائيليا التي تبحث في سُبل تطوير المدينة الموحدة وجعلها عاصمة جاذبة ونافذة ومدنية، وفي سبيل ذلك تقوم هذه الايام بسلسة من الابحاث حول كيفية تحويل المدينة الى عاصمة مدينية سياسية نابضة بالحياة جاذبة للسفارات الاجنبية، ولذلك جاء في تعريفاتها للمدينة الحاكمة بأنها المدينة التي يشكل القطاع الحكومي الثقل الاكبر في النسيج المديني لهذه المدينة، وحول هذا القطاع منظومات معقدة تكون بيئة للحكم ممثلة بالوزارات وما له علاقة بها، ولكن الواقع الاسرائيلي يقول إن جدلا بين السياسي والمالي والديني والعلماني الى جانب السياسي المتعلق بالفلسطينيين ووجود المسجد الأقصى، الذي يتحدث كبار رجالات اليمين عن ضرورة تقسيمه بالقوة والذي يعتبر برميل بارود المنطقة.
كل ذلك يؤكد أن طروحات كاتس ومن معه من الترامبيين العرب والاسرائيليين ستظل اضغاث أحلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى