إسدود الفلسطينية.. المدينة التي كانت تعج بالحياة في كل المجالات كيف سيطر عليها الغزاة!؟
ساهر غزاوي
تحتل مدينة إسدود الفلسطينية موقعاً استراتيجياً هاماً على الطريق الدولي الذي يربط مصر وبلاد الشام جعلها تعاني كثيرا، على مر العصور، من ويلات الحروب والدمار بين القوى المتصارعة على بسط نفوذها وسيطرتها الكاملة على تلك المناطق، وأخيرا احتلتها العصابات الصهيونية ودمرتها عام 1948 واقامت على أراضيها مدينة وميناء أشدود.
تقع مدينة إسدود شمال غزة على الطريق بين يافا وغزة، تبعد عن مدينة غزة 42 كيلومتراً، ترتفع 42 متراً فوق مستوى سطح البحر وتبعد عن شاطئ البحر المتوسط حوالي 5 كيلومتر، وإلى الجنوب من نهر صقرير بـستة كيلو مترات، وترتبط بمدينة القدس بطرق معبدة، وبها خط للسكة الحديد الذي كان يمتد من القنطرة إلى حيفا.
وقد جاءت كلمة اسدود من الكلمة الكنعانية اشدود التي تعني الحصن أو القوة، وقد عرفت بأسماء أخرى فقد أطلق عليها اليونانيون في عهد الاسكندر المقدوني اسم “أزوتوس”، وعرفت عند كتاب المسلمين باسم إسدود. ويرجع تاريخ المدينة إلى القرن السابع عشر قبل الميلاد ويعتبر العناقيون من أقدم من سكن المدينة.
قبل الحرب العالمية الأولى قدر عدد سكانها بـ 5000 نسمة، كان سكان إسدود في أغلبيتهم من المسلمين وكان في القرية مسجدان وثلاثة مقامات لشخصيات إسلامية تاريخية ودينية. أقيمت مدرستان ابتدائيتان في إسدود: أحداهما للبنين (في سنة 1922)، والأخرى للبنات (في سنة 1942) وكان عدد التلامذة في أواسط الأربعينات 371 تلميذا في مدرسة البنيين و74 تلميذة في مدرسة البنات وكان لإسدود مجلس بلدي. كانت الزراعة عماد اقتصاد القرية. وكانت محاصيلها الأساسية الفاكهة- ولا سيما الحمضيات والعنب والتين- والحبوب إجمالا والقمح تخصيصا. في 1944/ 1945 كان ما مجموعه 1921 دونما مرويا أو مستخدما للبساتين. وكان سكان القرية يعتمدون على الأمطار وسحب المياه من الآبار التي كان يتراوح عمقها بين 15 و35 مترا لري مزروعاتهم. وبالإضافة إلى الزراعة كان سكانها يعملون في التجارة وكان في إسدود عدد من المتاجر وسوق أسبوعية تعقد كل يوم أربعاء وتستقطب سكان القرى المجاورة وقد سهلت التجارة محطة القطار في إسدود التي كانت جزءا من خط سكة الحديد الساحلي. كان في جوار إسدود تسع خرب تضم تشكيلة واسعة من الآثار منها بقايا فخارية وأرضية من الفسيفساء وصهاريج ومعصرة زيتون قديمة. وقد كشفت التنقيبات الأثرية في الموقع ذاته عن أن الموقع بقي آهلا بصورة مستمرة تقريبا منذ القرن السابع عشر قبل الميلاد حتى سنة 1948 ويبدو أن الفترة التي شهدت الازدهار الأعظم في العهود القديمة كانت القرنين الرابع عشر قبل الميلاد والثالث عشر قبل الميلاد
احتلال اسدود بعد هدنتين
عندما دخلت القوات المصرية فلسطين في 15 أيار/مايو 1948، كان من أوائل أهدافها التمركز في إسدود، وقد أنيطت هذه المهمة بالكتيبة المصرية التاسعة. لكن في 22 أيار/مايو، وصلت كتيبة جديدة إلى الجبهة، فسُلمت إسدود للكتيبة السادسة.
وفي تلك الفترة، كانت إسدود تقع على الخطوط الأمامية بين القوات المصرية والإسرائيلية. وكانت القوات الإسرائيلية قطعت الطريق بين المجدل وإسدود قبل فترة وجيزة، إلا أن المصريين نجحوا في إزاحة تلك القوات عنها واستعادوا بالتالي خطوط امداداتهم. وكان ذلك في أثناء تنفيذ الجيش الإسرائيلي عملية براك.
كانت أوامر العمليات العسكرية الإسرائيلية تقضي بالهجوم على المجدل وأسدود ويبنه، وذلك (لتسبب تشريد-أي نزوح-سكان المراكز السكنية الصغرى في المنطقة). وقد شُن الهجوم من جهات ثلاث في 2-3 حزيران/يونيو، وأدى إلى فرار الألوف من السكان المحليين، وذلك بحسب ما روى المؤرخ الإسرائيلي بني موريس. وجاء في تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” أن القتال الأكثر دمويا” في جنوب البلاد جرى في 3 حزيران/يونيو حول إسدود. ثم شُن هجوم إسرائيلي آخر بعد ذلك بأيام معدودة، في 9-10 حزيران/يونيو. وفي اليوم التالي، دخلت الهدنة حيز التنفيذ.
وطوال فترة هذه الهدنة، كانت القوات المصرية مرابطة في إسدود، حيث كانت تراقب النشاط العسكري الإسرائيلي خلال هذه الفترة. وفي الفترة ما بين الهدنتين، شنت وحدات من المغاوير الإسرائيلية هجمات في منطقة أسدود. وورد في مقال مصور نشرته “نيويورك تايمز” بتاريخ 16 تموز/يوليو، إشارة إلى أن وحدة تدعى “ثعلب شمشون” وصلت إلى الخطوط المصرية في أسدود.
وفي الحديث عن الهدنة، يذكر المؤرخ الإسرائيلي ايلان بابيه، في كتابه “التطهير العرقي في فلسطين” أنه “ساهم في إطالة أمد القتال أيضا الثبات الذي أبداه المتطوعون المصريون، وبصورة خاصة الإخوان المسلمين، الذين نجحوا، على الرغم من عتادهم الهزيل وانعدام التدريب، في الصمود في خطوطهم في النقب. وتمكن المصريون أيضا من التشبث فترة لا يستهان بها في مدينة إسدود الفلسطينية الواقعة على الساحل، وبعض الجيوب الداخلية في النقب، وأيضا بالقرى الواقعة إلى الجنوب الغربي من القدس. وأدرك الإسرائيليون أنهم ربما ابتلعوا أكثر مما في استطاعتهم هضمه آنذاك، فقبلوا الهدنة التي عرضها وسيط الأمم المتحدة، الكونت فولك برنادوت”.
لم يتم احتلال بلدة أسدود إلا عند نهاية الهدنة الثانية من الحرب، في تشرين الأول/أكتوبر 1948. فقد قُصفت بحراً وجواً في بداية عملية يوآف وسقطت في يد الإسرائيليين في المرحلة الأخيرة من هذه العملية.
كانت المراحل المبكرة من عملية يوآف مترابطة مع أقسام من عملية ههار التي قام بها لواء غفعاتي إلى الشمال. إذ اقتحم هذا اللواء عدداً من قرى قضاء الخليل، بينما كانت قوات أخرى تنفذ عملية يوآف. وقد سقط كثير من قرى قضاء الخليل، في 22-23 تشرين الأول/أكتوبر، في يد الإسرائيليين، وفر كثيرون من سكان التلال المحيطة بالخليل قبل وصول القوات الإسرائيلية، أما من تخلف منهم، فقد طُرد نحو الخليل. وعند نهاية عمليتي ههار ويوآف، في الأسبوع الأخير من تشرين الأول/أكتوبر 1948، تم دمج منطقتي العمليتين إحداهما في الأخرى. واخترقت الوحدات الإسرائيلية الخطوط المصرية في 23 تشرين الأول/أكتوبر 1948، فربطت الأجزاء التي تحتلها إسرائيل في جبال الخليل بممر القدس.
وجاء في صحيفة “نيويورك تايمز” أن قاذفات الجيش الإسرائيلي حلّقت، في 18 تشرين الأول/أكتوبر، “من دون أي عائق تقريبا” حول أهدافها، طوال ثلاث ليال متتالية، وأن هذه الأهداف كانت تشمل إسدود. وبات المصريون مهددين بالحصار والعزل، فانسحبوا على الطريق الساحلي في اتجاه الجنوب. أما معظم من بقي من السكان المدنيين، فقد فر مع الطوابير المصرية قبل دخول الإسرائيليين في 28 تشرين الأول/أكتوبر. ويذكر موريس أن نحو 300 من سكان البلدة بقوا فيها رافعين الأعلام البيض، و “طردوا فوراً نحو الجنوب”، ومع ذلك فقد جاء في بلاغ عسكري إسرائيلي صدر يوم احتلال إسدود، أن القوات الإسرائيلية دخلت البلدة بناء على طلب وفد من السكان العرب المحليين”.
وفي سنة 1950، أقيمت مستعمرتا سدي عزياهو وشتولم على أراضي القرية، إلى الشرق من موقعها. أما مستعمرتا بني دروم وغان هدروم، اللتان أسستا في سنتي 1949،1953 على التوالي، فهما على مسافة لا بأس فيها من موقع القرية، لكن على أراضيها.
ذكريات لا تنسى
الشاهد عبد الفتاح أحمد طومان من مواليد 1928 من سكان أسدود الأصليين، أنهى الصف السابع وعمل كاتباً مع الجيش البريطاني تحدث عن قرية إسدود وعن موقعها وذكريات الهجرة فقال: “كان يحدها من الجنوب الشرقي بيت دراس، والشمال الشرقي البطاني الغربية، ومن الجنوب الغربي حمامة، ومن الشمال الغربي أبو سويرح، ومن الشمال برقة ومن الغرب البحر المتوسط”.
ويتابع وصفه للبلد: “كان في إسدود حوالي 55 بيارة منها بيارات خمسة دونمات وبيارات 20 دونم. وكانت المياه قريبة جداً ومتوفرة، وعندنا خضار ومزروعات كثيرة. وتمتاز بلدنا بالكروم الكثيرة، وكان أكثر الناس يربون الماشية وعندهم اكتفاء ذاتي من: لبن وحليب وقمح وشعير وزيت وقطن وبندورة. وكان في البلد مطحنتان حتى المطحنة التي في بيت دارس هي لأهل أسدود. وكانت أقرب كوبانية إلى إسدود هي نتساريم وهي صغيرة بين حمامة وإسدود بالضبط. وهي معلومة على نظام الكيبوتس وأصل الأرض لحمامة اشتراها واحد من “زرنوقة” اسمه “أحمد الشوربجي” اشترى تقريباً ألف دونم وكان يبيعها لليهود وكان يخاف يتنازل عنها ولكنهم هددوه”.
وحول الاشتباكات التي حدثت مع اليهود قال طومان: “أول معركة صارت في إسدود هي معركة أبو سويرح وفي هذه المعركة طلعوا اليهود من “جان يبنا” وكان اليهودي ابن “حاييم وايزمن” معهم 12 نفراً. ولما شافوهم الناس من إسدود هجموا عليهم وقتلوهم جميعاً، وما مات حدا من أهل البلد. وكان أياماها بعض المدرسين الذين يعملون مع الجيش البريطاني وناس من البوليس وناس شاركوا في الحرب العالمية مع الانجليز. وكان فيه سلاح كثير حوالي 400 بندقية وطلع منها 40 بندقية كويسة فقط”.
ويضيف: “وكان من أنشط المقاومين “ذيب أبو ردينة” 25 سنة واستشهد في معركة بيت دراس الثانية. واجانا قائد من تونس اسمه محمد التونسي. وهذا الشخص كان مبعوثا من تونس لفلسطين. وكان يقسمنا مجموعات ويدربنا كيف نتحرك ونمشي وكنا نغير وقتها على اليهود.
وأحضرت مرة أنا لوح من الصاج ودهنته بوية (دهان) سوداء وكتبت عليه بالبوية الحمراء من التي كنا نأخذها من الإنجليز العبارة التالية: “على جميع السيارات عدم الدخول الطريق جداً ملغمة”. وكان الإنجليز اللي بيشوفوا الطريق بيقفوا عندها وحرمناهم من الدخول في هذه الطريق ورحنا نسفنا الجسر اللي في الجهة الشمالية حتى لا يستطيعوا الهجوم علينا”.
وفي إسدود لم تحصل معارك مباشرة إلا عندما جاء الجيش المصري وأبيد في هذه المعركة مئات اليهود عندما دخلوا أطراف البلد. وقتلوا من البلد (عبد الرحمن مكاوي 48 عاما) من المقاومة و(أحمد الصباغ 30 عاما) من المقاومة و (محمد زقوت 23 عاما) من المقاومة… وقتلوا أثناء ملاحقتهم لليهود (محمد الناطور 40 عاما) بقنبلة من اليهود وهو في بيته ومات فيها (10-12) نفراً من أهل إسدود والجيش والمهاجمين من القرى الأخرى ودفنوا جميعاً في أسدود.
وبدأت الغارات علينا بالطائرات وضربوا عائلة بحالها منهم رب العائلة (محمود الصوري) وزوجته وأولاده، وحوالي خمسة إلى ستة أنفار. ولم يبق من هذه العائلة إلا واحداً من أبنائه لم يكن في الدار، ومات واحد مصري كان على الجرن. وبعد هذا الضرب شردوا الناس في البيارات واكتشفوا اليهود هذا الأمر لاحقوهم وقتلوا (هنية عودة طومان 40 عاما) و (طرفة أبو حديد 30 عاما) وهي من عرب وادي حنين.
وبقيت الحرب سجال بين اليهود والمصريين. فالمصريون يضربوا الكوبانيات من بعيد وكانت طيارتان يضربن اليهود… في الآخر بدأ السلاح الجوي يتطور أكثر. بعدين صدر أمر انسحاب من قيادة الجيش المصري من الملك فاروق، وهاجرنا من البلد وأطاع القائد الأوامر ولكن “بيه” الفالوجه لم يطع ولو كان قائد إسدود عصى الأوامر لبقيت أهل أسدود في البلد.
وخرجنا إلى المجدل مباشرة ومنها إلى وادي غزة وبعدها خان يونس”.
ويضيف: “بالنسبة لحالات التسلل أنا من الذين رجعوا إلى إسدود وطحنت فيها قمح في الليل وكنا نأخذ الحبوب وبقينا شهر نرجع على البلد ونحضر منه أغراض. وفي ناس راحوا وما رجعوا زي (أحمد النوري) و(توفيق شلاشن) و (جبر جودة) وجميعهم شباب. وهناك واحد وهو رايح يجيب حب اسمه (عوض نصار) في الثلاثين من عمره انطخ في الطريق، وفيه ناس راحوا قالوا لقينا أحمد النوري في الدار ودفناه في نفس الدار وكان المتسللون يذهبون فرادى وجماعات”.














_______________
المصادر:
(1) -إبراهيم أبو جابر، “جرح النكبة” الجزء الأول، ص 21-30.
(2) -وليد الخالدي، “كي لا ننسى” (1997). مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ص 506-509.
(3) -ايلان بابيه، “التطهير العرقي في فلسطين”، ص 177.
(4) – أحمد حسن جوده، “إسدود: قلعة الجنوب الفلسطيني”، الفصل الثاني تاريخ إسدود.



