أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معسكر اليمين والتحولات السياسية..

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
فَشلَ نتنياهو في تشكيل حكومة يمينية بعد أن كان قد فرك يديه فرحا يوم الاعلان عن نتائج الانتخابات قبل شهر ونصف الشهر زاعما ان تشكيله لحكومة يمينية أمر مفروغ يكشف عن حجم الشُقَةُ القائمة داخل الاحزاب اليمينية المشكلة لما يسمى معسكر اليمين الاسرائيلي الممتد بين طرفي العلانية والحاريدية في سياق التعاطي مع الشأن الحياتي على اساس من الحياة اليهودية والذي ينعكس تبعا لذلك على كافة شؤون الحياة بما فيها الخدمة العسكرية التي كشفت عن عمق الازمة بين مكونات هذا المعسكر.
فشل نتنياهو ليس نهاية الطريق
لقد طار نتنياهو فرحا يوم ان اعلنت الاحزاب اليمينة انها ستوصي امام رئيس الدولة بتكليف نتنياهو لتشكيل الحكومة، وان هذه الاحزاب ستصوت لصالح قصقصة جناح محكمة العدل العليا والتصويت لصالح حصانة النواب ولصالح حصانة ما يسنونه من قوانين فضلا عن سن قانون يحمي نتنياهو من المساءلات القانونية. وما أن قامت هذه الاحزاب بالتوصية امام رئيس الدولة بتكليف نتنياهو بمهام تشكيل الحكومة وشرعت المفاوضات الائتلافية فاذا ببعبع الدين والعلمانية والدين والخدمة العسكرية يطل برأسه ليضع العصا في دولاب تحركات نتنياهو التفاوضية فبعد ان صرح التيار الحاريدي ومقابله حزب اسرائيل بيتنا انهم سيوصون الرئيس بتكليف نتنياهو بتشكيل الحكومة فاذا هما حجر العثرة الكؤود الذي يحول دون تشكيل حكومة يمينية وطنية، بعد أن كان نتنياهو يعتبر المعسكر اليميني في جيبه، لكنَّ الرياح جرت بما لا تشتهيه سفن نتنياهو وحزبه، وها هي معالم تفتت تتبدى بوضوح في هذا المعسكر الذي قارب التطرف والعنصرية والشعبوية ليس فقط ضد الداخل الفلسطيني، بل وضد مكونات هامة في المجتمع الإسرائيلي، بل واحالت هذه الشعبوية اليسار الإسرائيلي إلى سبة يتبرأ منها كل يهودي بل اتهم نتنياهو ليبرمان انه منحاز الى اليسار بعدئذ اصرّ على تنفيذ قانون التجنيد للشباب الحاريدي عبر تمرير قانون التجنيد الذي ما زال واقفا في سربه سرب القراءة الاولى.
من الواضح أن توجه المؤسسة السياسية الى انتخابات برلمانية جديدة في سبتمبر/ ايلول من العام الجاري يوضح حجم الاشكال القائم في المؤسسة الحاكمة وطريقة الحكم والحكومة، وكم هو مربك ومستفز لكن كما اشرت في مقالات سابقة فان التعددية السياسية والاجتماعية المرتبطة في جوهر المشروع الصهيوني الاحلالي الذي تخلقت بين ثناياه في اوروبا الاحزاب والحركات السياسية، تَحُولُ دون تأسيس منظومة حكم تمنع استغلال الاحزاب الصغرى للمنظومة السياسية الناظمة للشؤون السياسية والاقتصادية والامنية في البلاد وتحول دون تثبيت اركان سياسية جديدة ناظمة لشأن السياسي الحزبي والتشريعي والحاكم وتنظم شؤون السيولة السياسية الناجزة في هذه الدولة، وهو تعتبره الاحزاب الصغرى فرصتها التاريخية في تحقيق برامجها ولو على حساب الاحزاب الكبرى، ولعل هذه الصيرورة أضعفت الحياة السياسية على الرغم من التعددية السياسية الهائلة في هذه الدولة.
فشل نتنياهو لن يكون الحلقة الاخيرة في محاولته لتشكيل الحكومة وواضح انه يعمل وفق مخطط يهدف الى اعادة تجميع قواه داخل الحزب وخارجه والعمل على تفكيك الاحزاب المواجهة لحزبه عبر سياسات فرق تسد وإيجاد منسلين من تلكم الاحزاب لحزبه لإضعافها داخليا وهو خبير في هذا الشأن.
التحول نحو اليمين
في العقدين الأخيرين يمر المجتمع الإسرائيلي في سلسلة من التغيرات القيمية والوطنية والسياسية لصالح مواقف وقيم محافظة تروم الجمع بين المصالح المادية الصرف والالتزام “الديني المحافظ” كتعبير عن هوية اسرائيلية متجددة انتقلت من طور الاسرائيلية الى طور اليهودية أي بلغة اخرى انتقلت من طورها الصهيوني العلماني الى طور يهودي محافظ. هذا ما يحدث في عموم المجتمع وفي معسكر اليمين تحديدا ونتيجة لهذه التحولات صار واضحا ان المجتمع الاسرائيلي يميني التوجهات اكثر من ذي قبل- لم يكن يوما مناصرا للحق الفلسطيني ولم يكن يوما يساريا في مواقفه السياسية اتجاه الشعب الفلسطيني- فيما يتعلق بالعلاقات مع الاخر الفلسطيني ومحافظ في الصيرورة السياسية الداخلية، ويكاد يكون اشتراكيا في مسائل الحقوق المجتمعية المتعلقة بالمجتمع الإسرائيلي، وهذا كله يتصور سياسيا في سياقات التصويت النمطي لأحزاب يمينية دينية ولليكود ذا الطابع اليمني الليبرالي الذي يمنح رأس المال قوة بعد قوة بحكم إيمانه بجدل السياسة والاقتصاد في سياقات راس المال كقوة مانحة للحياة المجتمعية، وهذا كله يتم في سياق منظور صهيوني لَّما تتحقق بعد كافة أركانه الداخلية في عديد المجالات المتعلقة بتثبيت اركان المشروع على ارض الواقع مما ادى الى ازدياد ارتباطه بالخارج والبناء عليه لتثبيته.
تطورات الفعل السياسي الحزبي الاسرائيلي في العقدين الاخيرين والاطلالة عليه تبين حجم التناقضات الداخلية داخل هذه الاحزاب وكيف تتشخصن المصالح الوطنية وتتذوت بأشخاص بعينهم لتستحيل الحالة السياسية نزاعات حول “الأنا” إن داخل الحزب او بين الاحزاب داخل المعسكر الواحد الذي تتقاطع مصالحه بأمور بعينها، وتختلف جذريا بأمور أُخَر ولعل ما جرى بين نتنياهو وجدعون ساعر في الاسابيع الاخيرة حول قانون الحصانة لأعضاء الكنيست وموقفه المخالف لحزبه والرافض له حيث سنت حاشية نتنياهو حملة ضروس عليه تؤكد أن الشعبوية داخل حزب الليكود ليست عملا خارجيا وافدا، بل هي جزء من سياسات هذا الحزب المسيطر على مقاليد الدولة منذ مطلع هذا القرن ونجح في تذويت وتعميق وشرعنة العشرات من القضايا والمواقف، لعل من نافلة القول ما اشير اليه هنا شرعنة مجموعات امناء الهيكل ومجموعات الاستيطان في بؤر داخل المدن الفلسطينية والاستيطان، وسن المئات من القوانين التي استهدفت الفلسطيني انسانا وكيانا في الضفة الغربية والقدس والقطاع والداخل الفلسطيني، هذا الى جانب قوانين تعزز من مكانة هذا اليمين وكان آخرها قانون القومية كذروة لتجليات الانتشار والتأكيد اليميني لهذه الدولة.
تتجلى أدوات الحصر السياسي عند اليمين يوم ينادي بتقليص صلاحيات اعمدة الديموقراطية الاسرائيلية كمثل مراقب الدولة والمستشار القضائي والمحكمة العليا وهو ما اثار حفيظة القانونيين والمشرعين الاسرائيليين من اليمين المحافظ والعلماني على حد سواء وجلس شمغار وباراك مع كحلون لضمان ان يقف داخل الحكومة اليمنية لحماية المحكمة العليا، لكنه رفض الالتزام لأنه في السنوات الخمسة الأخيرة، اضحى جزءا خلاقا في تثبيت الحالة الشعوبية من خلال قفازات تعزيز مكانة الدولة الوطنية والقومية.
الصراع بين الزعيمين نتنياهو وليبرمان كشف هشاشة الاحزاب السياسية وكشف كيف تتم عمليات الاصطفاف داخل الاحزاب وداخل المعسكرات، وآثارها على الشارع السياسي وعلى قضايا جوهرية ومصيرية، بحيث صارت الانتخابات للكنيست ونتائجها محل قياسات للرأي عند الشعبوي اليميني الذي يعتقد أن منح الجماهير الاصوات لهم تفويض بالمطلق.
في هذا السياق فإن 60% من الاسرائيليين قلقون على مستقبل المؤسسة القضائية في ظل حكومة يمنية تصرح ليل نهار انها ستهدم أسوار هذه المؤسسة، وتكشف الاستطلاعات أن 37% من مصوتي اليمين قلقون على مستقبل العليا و63% من مصوتي المركز واليسار، ويرى 5% من المصوتين فقط اهتماما بما يدور من مفاوضات بين مكونات اليمين حول حصانة نتنياهو والتصويت في الكنيست لصالح قانون حصانة النواب.
التحولات السياسية الجارية في المجتمع الإسرائيلي، التي تعتبر أثرا من آثار التحول السياسي لدى النخب حيث انتقل الكثير منهم من مركز الخارطة السياسية الى يمينها، ومن دائرة العلمنة الى دائرة المحافظة الدينية، وهو ما يؤثر على صناعة القرار السياسي وغير السياسي، وعلى سن القوانين حيث يقوم “الليبستيون” أي الممثلون لمجموعات “كارتيلات” اقتصادية وسياسية داخل الكنيست لتمريرها وتشريعها” وعادة ما تأتي هذه على حساب المواطنين العاديين وتحديدا الطقة الوسطى، وهو بالتالي ما يؤثر على انساق الحياة اليومية داخل المجتمع الإسرائيلي، وثمة مزايلة جارية داخل هذا المجتمع لصالح تصدعات قادمة تتأسس على شروط الدين والعلمانية والخدمة العسكرية من عدمها والتعصبات الاثنية.
الحالة السياسية الاسرائيلية في الجوانب المتعلقة بالحكم ومنظوماته المختلفة ودور “الحزب” في تفكيك البنية السياسية داخل المجتمع الاسرائيلي وإحالته الى “حمال حطب” لصالح المجموعة المتنفذة وعلاقاتها مع الرأسمال المتحرك في الدولة وجدل المصالح القائم بينهما، أحال الامر الى موجات تؤثر على الحكم ومنظوماته والمواطن الاسرائيلي في الاساس هو من يدفع ثمن هذه، بعد أن تحولت الحياة السياسية الى مزرعة خاصة، جعلت هذه الدولة، دولة شرق أوسطية بامتياز.
منذ عام 2000 يحكم اليمين البلاد سواء في الحكومة أو معظم السلطات المحلية، وواضح أن ثمة تسمم سياسي يعيشه المجتمع بسبب حالتي الفجور السياسي الُمعاش وبسبب الفساد السياسي الضارب بعمق في شرايين بعض هذه الأحزاب، وهو ما يحيل هذا المجتمع الى مجتمع مصاب بتلكم اللوثات.
فشل نتنياهو كزعيم أوحد لليمين الإسرائيلي يكشف عن عمق الأزمة السياسية في معسكر اليمين، فعلى الرغم من وجود أربعة معسكرات داخل تيار اليمين الى ان هذه الانتخابات كشفت عن وجود تيارات داخل كل معسكر وداخل كل مكون سياسي، مما يعني اننا امام مشهد متشظي سياسيا. ما يفرقه أكثر بكثير مما يجمعه وأزعم ان خلق نتنياهو فزاعات اليسار والعرب والفلسطينيين والحركة الاسلامية المحظورة اسرائيليا وحماس وإيران وحزب الله. كلها فزاعات لإبقاء سيطرته على معسكر اليمين من جهة والالتفاف حوله من جهة ثانية، جامعا بين تجارب قيادات صهيونية سابقة من مثل بن غوريون وشارون وبيغن في مسعى أخير للفلتان بجلده من المحاكمات، خاصة وانه شاهد على عدد من القادة كيف أوصلهم القضاء الى ما وراء القضبان وأنهى حياتهم السياسية.
في إسرائيل أربعة معسكرات داخل تيار اليمين: المعسكر العلماني ويمثله حزب اسرائيل بيتنا والتجمع اليهودي الروسي. والمعسكر المحافظ، ويمثله الليكود، ويضم العديد من التجمعات الشرقية والاشكنازية، والمعسكر الديني القومي، وهو معسكر مخترق للطائفية الاسرائيلية وللتجمعات العرقية واخيرا المعسكر الحاريدي بشقيه، الشرقي ممثلا بشاس، والاشكنازي الليتواني ممثلا بديجل هتوراه، ومدرسة الراب شاخ.
أزعم في هذه السلسة من المقالات التي سأفكك فيها اليمين الاسرائيلي وتداخلاته البينية وايديولوجياته وما تمر به من تعرجات أن اسرائيل تحكمها عدة دوائر صهيو-يهودية داخلية وخارجية مهمتها الحفاظ على وجود وبقاء اسرائيل كقيمة عليا جامعة لليهود في العالم. ما يهمني هنا القوى الداخلية المشاركة في صناعة القرار السياسي والممثلة بمثلث متساوي الاضلاع: الجيش، الأمن، والقضاء.
يوم الأحد الماضي في المؤتمر السنوي للمحامين شنت القيادة القضائية في اسرائيل، المستشار القضائي، المدعي العام، ورئيسة المحكمة العليا، هجوما غير مسبوق على نتنياهو وسياساته اتجاه القضاء والمحكمة وتلاعبه بها وسيل الكذب عليها مما يعني أن حربا تلوح بالأفق بدأت بين نتنياهو وهذا الجسم الذي فيما يبدو قرر من ضمن ما قرر بأن عصر نتنياهو قد قارب الافول لا عصر اليمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى