أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

الدرس القاسي الذي لن يتعلموا منه!

حامد اغبارية

الآن، وبعد أن وضعت “أم المعارك” أوزارها، وحطت “المقاتلة” الرحالَ على سجاد الكنيست وكراسيه الرجراجة لترتاح من غبار “المعركة ” التي استقطبت الأمة من الرياض إلى أبو ظبي إلى القاهرة إلى المقاطعة إلى إمارات وممالك الداخل الفلسطيني، سنحاول أن نقرأ الدرس الذي أستطيع من الآن أن أقول إن المعنيين بكل ما حدث، لن يستفيدوا منه، ولن يقرأوه بمسؤولية.

لقد أثبت الأهل في الداخل الفلسطيني أنهم على قدر من الوعي السياسي وقراءة واقعهم الحقيقي، متقدمين على الأحزاب وقياداتها بمراحل، موجهين رسالة شديدة اللهجة، شديدة الوضوح، إلى من ظنوا أن دعم الجمهور لهم تحصيل حاصل، وأنهم في جيوبهم، أيا كانت الظروف وأيا كان سلوك هؤلاء، وممارستهم للعمل السياسي، حتى بالصورة السيئة التي عاينها الناس على الملأ. قرأ الأهل الواقع بصورة مختلفة، وفي أحيان كثيرة بصورة معاكسة لقراءة الأحزاب وقياداتها، التي أثبتت هذه المرة أيضا، كما في كل مرة، أن مصلحة هؤلاء الأهل آخر ما يفكرون به، وأنه لا يشكلون بالنسبة إليهم أكثر من وسيلة للوصول إلى كرسي الكنيست. ولهذا جاء سلوك الناس يوم الثلاثاء تعبيرا عن هذا الفهم، ليصيب تلك الأحزاب بصدمة قوية، لا بسبب النتائج، وإنما تحديدا بسبب إدراكهم أن الجمهور ليس لقمة سائغة، ولا هو عبارة عن قطيع يُنتَهر فيُطيع. وفي الحقيقة هذا أكثر ما أخاف الأحزاب وقياداتها أثناء الحملة الانتخابية وأثناء يوم الانتخابات، وهو ما يرعبهم في قادم من الأيام والأحداث، ولكنهم رغم ذلك سيعاودون الكرة كما في كل مرة، دون أن يستفيدوا من الدرس، ظنا من عند أنفسهم أن في مقدورهم ممارسة خداعهم للجمهور دون محاسبة، وظنا منهم أن الجمهور سينجرف خلفهم، كما في كل مرة، لأنه جمهور عاطفي في غالبيته وفي سلوكه، وهو جمهور يتأثر سريعا بالتضليل الإعلامي الموجَّه.

فما هو الدرس الذي يستفاد من هذه الحالة غير المسبوقة، التي ميزت سلوك الناس هذه المرة؟
لا شك أن قسما كبيرا من الذين أحجموا عن التعاطي مع انتخابات الكنيست، قد فعلوا ذلك جراء انهيار القائمة المشتركة، وسلوك قيادات الأحزاب إزاء هذا الحدث، وعدم قولها الحقيقة، وعدم مخاطبتها الجمهور بصدق وشفافية، واعتمادها التضليل واستخدام الشعارات المستهلكة إياها، التي استخدموها طوال السنوات الماضية. فكان سلوكهم من باب المعاقبة وربما العتاب. وهؤلاء لهم وزنهم واعتبارهم، لكنهم ليسوا هم الذين غيروا الموازين، ولا سلوكهم المؤقت، الذي قد يتغير إذا تغيرت الظروف (والشعارات)، هو الذي يعبّر عن الدرس المستفاد.

إن الشريحة الأوسع من بين الذين أحجموا عن التصويت، تمثل قطاعا يحمل موقفا مبدئيا من مسألة الكنيست الصهيوني، وترفض التعاطي معه وكأنه تحصيل حاصل، وأنه (شر) لا بد منه، وأنه لا مفر من الاستفادة من الهامش الذي يسمونه “ديمقراطيا” لتحقيق ما يمكن من مصالح الجمهور!! هذا الموقف المبدئي هو الذي أزعج الأحزاب التي تتعاطى مع الكنيست، وأضاء أمامها ضوءا أحمر، إذ أنه تيار أصيل يحمل فكرة مبدئية ويدافع عنها بقوة، وهو في تصاعد مستمر واتساع أفقي وعمودي بصورة غير مسبوقة. هذه الفكرة ملخصها أن الكنيست ليس أكثر من منصة احتجاج، ومكان للعويل وبث الشكوى واستعراض العضلات الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يحقق شيئا، بل يسيء في الحقيقة إلى الجمهور وإلى قضاياه المصيرية، وأن العمل السياسي ليس مرتبطا بحبل السرة بهذه المؤسسة التشريعية الصهيونية، بحيث إذا فُتق الرباط بها انهار كل شيء، ولم تعد تقوم لنا قائمة، وأن العمل السياسي أكبر بكثير وأوسع بكثير من تلك الدائرة الضيقة التي حصروا فيها أبناء شعبهم طوال سبعين سنة عن سبق إصرار، وأن العمل السياسي من خارج هذه المؤسسة أثبت نجاعته وقوة تأثيره وتحقيقه إنجازات ذات ثقل ووزن أكثر بأضعاف مضاعفة من أي إنجاز يمكن أو يتوقع تحقيقه من خلال الكنيست، مع لفت الانتباه أن تلك الإنجازات التي يزعم بعضهم أنه حققها من خلال تعاطيه من الكنيست، مع افتراض تحقيقها فعلا، لم تكن دون ثمن، وأقل ثمن دفعه أبناء شعبنا أن هؤلاء أوصلوهم إلى مرحلة من التفكير الخاطئ والباطل بأن الكنيست هو آخر المطاف وهو أقصى ما نستطيع، وهو غاية المطلوب ومنتهى الأماني!

ولذلك فإنك تجد من أهل الرأي من تصدى للحدث بغضب عارم، مطالبا أعضاء الكنيست العرب بالاستقالة وتسليم المفاتيح، ولكنك تفاجأ بأن هذه الأصوات لم تصدُر تعبيرا عن موقف رافض للكنيست مبدئيا، بل احتجاجا على ما سمته تفكيك القائمة المشتركة، الذي أوصل الأحزاب إلى هذا الوضع المزري. فتجد البروفسور أسعد غائم- على سبيل المثال- يقول إن هذه أكبر كارثة سياسية لدينا منذ 1948، سببها تفكيك القائمة المشتركة!! بمعنى أنه لو لم تفكك المشتركة لكانت الأمور على ما يرام. وهذا يجعلك تتساءل: ما الفرق بين هذه المقولة، وبين من اتهم آفي جباي بانهيار حزب العمل؟ إنه التفكير داخل دائرة اللعبة السياسية الإسرائيلية. ولذلك قلتُ إن هناك من أستبعدُ أن يستفيد من الدرس، مهما حدث. ولو أن الأيام القادمة حملت مشروعا شيبها بالمشتركة لربّتَ هؤلاء على أكتاف قيادات الأحزاب ولغفروا لهم كل خطاياهم.

إن أكبر كارثة حلت بنا بعد كارثة النبكة، هي أننا قبلنا أن نكون جزءا من اللعبة السياسية الإسرائيلية وذُبنا فيها حتى النخاع، وقبلنا بالرضوخ لشروط هذه اللعبة، وحصرنا أنفسنا (أو بالأحرى حصر هؤلاء أنفسهم ومعهم قطاع من شعبهم) داخلها، ولم يعد في استطاعتنا مغادرتها ولا الخروج منها. لقد فقدنا كرامتنا الوطنية وجزءا كبيرا من مركبات هويتنا يوم ارتكبنا هذه الفعلة، ولا تزال آثار هذه الكارثة تُحدث ارتدادات كارثية نعيش سوءاتها وسيئاتها على جلودنا، ولم نحقق من ورائها شيئا ذا قيمة حقيقية؛ لا فكريا ولا سياسيا ولا اجتماعيا ولا اقتصاديا ولا تربويا ولا ثقافيا ولا حضاريا، ولا هوياتيّا.

ثم يقول لك: إن المطلوب هو تضييق الحيز والتهور الفاشي، هذا البعبع الذي صدّعوا به رؤوس الناس، وكأن الفاشية مقتصرة على ذلك الذي يسمونه بـ “اليمين المتطرف”، وكأن هناك يمينا غير متطرف، ويمينا ابن ناس، ويمينا محترما يمكن التعامل معه!! وكأن إيهود براك (المحسوب على اليسار) لم يمارس علينا فاشيته عام 2000! وكأن يتسحاك رابين وقيادات حزبه لم يمارسوا علينا فاشيتهم (اليسارية اللطيفة) يوم الأرض عام 1976، ولا على أبناء شعبنا في الضفة والقطاع في الانتفاضة الأولى! وكأن شمعون بيرس لم يلاعبهم بالبيضة والحجر طوال عقود!

إن الحيز الذي يجب تضييقه، بل خنقه واقتلاعه هو هذا الارتباط الهزلي بالكنيست. وهذا ما قاله لسان حال أبناء شعبنا هذه المرة؛ بوضوح ودون مواربة.
أما تحميل شخص مثل أحمد طيبي مسؤولية “الكارثة” التي يتحدث عنها بروفسور غانم، فهذا هروب من الواقع. نعم، أحمد طيبي كان انتهازيا، وكلهم كانوا يعرفون هذا، وقد مارس هذه الانتهازية منذ 1996، وكل ما فعله هذه المرة أنه بحركته تلك، التي فككت المشتركة، قد أسقط الأقنعة عن كل الوجوه، وهو بذلك لا يختلف عن الآخرين. فالجميع مارسوا ذات اللعبة ولعبوا على كل الحبال. ويمكنكم أن تراجعوا التصريحات والمواقف لتدركوا حجم الخديعة التي مورست على الجمهور، الذي ظنوا أنه سيرضخ لواقعهم هذه المرة أيضا. فقد جمعتهم المصلحة الحزبية المرتبطة بالكنيست، وفرّقتهم كذلك المصلحة الحزبية المرتبطة بالكنيست، وكان الجمهور ومصلحته أبعد ما يكون عن تفكيرهم وهم يمارسون هذا العبث.

{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}
وأنا أعتبر هذه الفعلة المنكرة سقوطا أخلاقيا، وإثما كبيرا ارتكبه كل من استخدم المساجد ومآذنها للدعوة إلى التصويت للكنيست الصهيوني. ولقد سقط كل من مارس هذه الفعلة سقوطا مريعا، أيا كان اسمه أو صفته أو مركزه أو لقبه أو كنيته. وحتى لو كان قد برر هذه الفعلة بتخريجات فقهية، وحتى لو كان محيط عمامته وقطرها أكبر من قطر ومحيط قاعة الكنيست.

ولقد حذرنا من استخدام سماعات المساجد لهذا الهدف الخبيث؟؟ إذ كيف يجرؤ هؤلاء على استخدام بقعة طاهرة أهدافها ظاهرة، لتحقيق الوصول إلى بقعة ملوثة أهدافها فاجرة؟! كيف يمكن هذا؟! يا أيها الذين فعلتم ذلك؛ لقد تجاوزتم كل حد، وأسأتم إلى المسجد وإلى المئذنة، خاصة وأن منكم من يعرف أنه حتى نشد الضالة في المسجد منهي عنه. روى الإمام مسلم عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا}. وروى الإمام مسلم عن بُرَيْدَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا نَشَدَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَا وَجَدْتَ؛ إِنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ}. إذا كان هذا حال المسكين الجاهل الذي فُجع بضالته ونشدها في المسجد، فكيف هو حالكم، وأنتم أهل علم ودراية، إذ تنشدون الأصوات لتوصلكم إلى الكنيست؟! وإذا كان الله تعالى قد أضاف المساجد إلى نفسه، في قوله سبحانه: {وأن المساجد لله…} فكيف اعتديتم على حق الله تعالى، وحولتم المساجد إلى وسيلة للوصول إلى مؤسسة سعت وتسعى إلى حظر الأذان في مساجدكم بقوانين فاشية عنصرية؟ يا ويلكم من الله! كيف ستقفون بين يديه يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا كنيست ولا منصب ولا جاه ولا كرسي؟ بماذا ستجيبون ربكم؟!
أهانت عليكم المساجد إلى هذا الحد، حتى تستبيحوا حرمتها بهذه الطريقة المسيئة؟
أليست هي المساجد التي حارب (ويحارب) أهلَها بعضُ شركائكم من العلمانيين، الذين يحاربون كل ما ترمز إليه؟
أليست هي المساجد التي طالب (ويطالب) كثيرون من شركائكم بمراقبتها “لأنها تحض على العنف” بزعمهم؟
أليست هي المساجد التي طالب (ويطالب) كثيرون من شركائكم بخفض صوت الأذان فيها (خاصة في صلاة الفجر) لأنها تزعجهم وتقض منامهم؟ وقد فعلوها قبل أن يفعلها المستوطنون!!
أليست هي المساجد التي شبَّه كثيرون من شركائكم صوت الأذان المنطلق منها بالنباح والعواء؟
أليست هي المساجد والمآذن التي دعا (ويدعو) شركاؤكم إلى إبعادها عن السياسة؟
تحت أي مبرر فعلتم فعلتكم تلك؟ وتحت أي باب فقهي وضعتموها؟!
إن كان عندكم جواب فأجيبوا، وإلا فتوبوا إلى الله تعالى، واتركوا المنتنة التي استقتلتم عليها، وألقوا عن كواهلكم أعباءها وإثمها وتبعاتها، وطهّروا أنفسكم من هذه اللوثة طالما في الصدور أنفاس تتردد، قبل أن تغرغروا وتنقطع الأنفاس وتتقطع بكم السبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى