أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

مستقبل المؤسسة الإسرائيلية بين مطرقة غزة وسندان القدس

الشيخ كمال خطيب

من فهمنا لعقيدتنا، ومن آيات كتاب ربنا، ومن هدي وسيرة نبينا، ومن قراءة لتاريخ أمتنا فإنه يترسخ لدينا أن قانون التداول بين الأمم ما يزال قائمًا {وتلك الأيام ندوالها بين الناس} آية 140 سورة آل عمران.

وإن الظلم من أهم أسباب سقوط الحضارات واندثارها {وتلك القرى أهلكناهم لمّا ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا} آية 59 سورة الكهف. وأن القوي لن يبقى قويًا إلى الأبد ولا الضعيف سيظل ضعيفًا إلى الأبد، فهناك من يضع الموازين القسط ومن هو للظالمين بالمرصاد {ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصبّ عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد} آية 64 سورة الفجر.

ولأن المؤسسة الإسرائيلية راحت تتعامل وفق منطق عاد وثمود، ولأن حكامها المتعاقبين سلكوا مسلك فرعون وكسرى والنمرود، ولأن شعبها يغرق كل يوم أكثر وأكثر في مستنقع العنصرية واليمينية والاستعلاء وأنهم شعب الله المختار، فإن هذا كله وأكثر منه سيقودهم إلى خانة من سبقهم من الأمم الذين جرى عليهم قانون التداول. وإن ما يجري في غزة وما يقع عليها من حصار وظلم وتجويع، وما يجري في القدس وما يقع عليها من تهويد وترويع ومع ما في ذلك من معاني الصلف الإسرائيلي، إلا أنه يحمل بين طياته ملامح الضعف التي ستقود إلى الانهيار.

# مطرقة غزة
غزة هذا القطاع من الأرض يصل طوله إلى 41 كيلو متر ولا يزيد عرضه عن متوسط ثمانية كيلومترات. قطاع غزة الواقع تحت الاحتلال والإهمال منذ عام 1967، والمحاصر برًا وبحرًا وجوًا منذ العام 2007 لم يخطئ من أسماه سجنًا كبيرًا فيه قريبًا من مليوني فلسطيني يعيشون في مدينة غزة الشقيقة الكبرى وأخواتها خانيونس ورفح ودير البلح، وما حولها من المخيمات والضواحي. ولأنها غزة التي اختارت لها هوية وانتماء، وإذا بها تساوم ويمارس ضدها كل صنوف الترهيب والتضييق لتتنازل عن تلك الهوية، ولكن ولأن لغزة من اسمها نصيب وهي المدينة التي بناها الكنعانيون العرب ولها أكثر من معنى، فغزة تعني “القوية”، وغزة تعني “المخازن”، وغزة تعني “الكنوز” وغزة تعني “الشيء الذي يُدّخر”.

لم يكن الاحتلال الإسرائيلي أول احتلال يمر على غزة، فقد غزاها الفرس وهم يلاحقون نبوخذ نصّر ملك بابل، وغزاها الفرعون تحتمس الثالث، وغزاها الاسكندر المقدوني، وغزاها هيرودس الروماني بل وأسماها “المدينة العظيمة” بعد أن رأى وشاهد عظمة وبطولة أهلها.

وغزة هي من وقفت أمام الزحف التتري، وفيها دارت أول معركة يخسر فيها التتار خلال منازلة الأمير بيبرس لهم، على تخومها ثم ما لبثوا أن حلّت بهم الهزيمة الماحقة في عين جالوت.

غزة التي يتآمر عليها في هذا الزمان الأشقاء والجيران من العرب والمسلمين بل وحتى الفلسطينيين، فما يقوم به السيسي طاغية مصر وأبو مازن رئيس سلطة رام الله من حصار وتجويع لغزة في محاولة لكسر إرادتها، وكل ذلك لخدمة الاحتلال الاسرائيلي إنما هو الدليل على أن غزة باتت شوكة في حلوق كل المتآمرين والمتخاذلين.

لم نسمع عن مدينة في الدنيا تصبح الأنفاق المحفورة في التراب والصخر وسيلة وصول أسباب الحياة إليها، ولم نسمع عن مدينة في الدنيا تُشنّ عليها ثلاثة حروب خلال ست سنوات 2008، 2012، 2014 وهي تحت القصف من البر والبحر والجو مرات عديدة، ومع ذلك لم تستسلم ولم ترفع الراية البيضاء لا بل إنها التي أصبحت تؤرق وتقض مضاجع من يعتدون عليها ومن يحاصرونها.

غزة التي تمنى رابين أن يستيقظ فلا يجد غزة، لأن البحر قد ابتلعها. غزه التي أقدم شارون على خطوة الانسحاب منها والانفصال عنها عام 2005. غزة التي استقال ليبرمان بعد فشله في كسر شوكتها وايلامها، بل إنها التي آلمته وأوجعته وأسقته كأس الهوان. غزة التي تحيّر نتنياهو وتلقمه الحجر بل التراب تهيله في فمه، فلا هو القادر على أن يجتاح غزة ويحتلها كما تراوده بعض أحلام اليقظة أحيانًا ولا هو القادر على أن يتجرع مرارة حروبه ضد غزة دون أن يكسر شوكتها، ولا هو القادر على الرد على احتمال الصفعات توجهها إليه غزة التي ما عادت تُضرب ولا تُعاقب ولا تُقصف، بل إنها غزة التي أصبحت تَضرِب وتعاقِب وتقصِف بل وتحاصر من يحاصرها.

نعم إن نتنياهو ومن سبقوه ومن سيأتون من بعده، ستظل تلاحقهم عقدة غزة، وسيظل يطردهم شبح غزة وسيظل يقرع آذانهم صوت مطرقة غزة حتى لكأن غزة أصبحت قوة عظمى، بل إنها التي فرضت عليهم أن يتعاملوا معها وفق مصطلحات سياسية وعسكرية لا تتعامل بها إلا القوى العظمى في ندّية وتكافؤ.

نعم إنها غزة التي قالت الحصار ولا العار، غزة التي قالت الجوع ولا الركوع، غزة التي باتت ترسل الرسائل السياسية والعسكرية تجعل المحللين الاسرائيليين السياسيين والأمنيين في حيرة من أمرهم وهم يبذلون جهودًا كبيرة لفهمها وفك رموزها.

غزة ستكون شاهدة على عصر أصبح فيه ممكنًا أن يلاطم الكف المخرز، وأن يصرع داوود جالوت، بل وأن يجندل فيه بلال أمية بن خلف. وإذا كانت كتب التاريخ تحدثنا عن قصص بطولة وشموخ لأفراد أو شعوب، فها هم أبناء شعب غزة يكتبون التاريخ في هذا الزمان ويصيغون حروفه، بل إنهم الذين يرسمون لوحة مجد وفخار لُوِّنت بريشة العز لمطرقة تنزل على رأس عملاق يدّعي البطولة، وإذا به يهيم على وجه هربًا من مطرقة تكاد تنزل على رأسه وهو يستغيث ويصرخ طالبًا النجاة.

ولقد مثّل على ذلك بصراحة الكاتب الإسرائيلي عوديد شالوم في صحيفة يديعوت أحرونوت لمّا قال: “لا يمكن الانتصار على حماس في غزة، فغزة العزة مثل فيتنام وحماس مثل الفيتوكنغ” يقصد المقاومة الشعبية في فيتنام ضد الغزو الأمريكي، لكن الحقيقة أن غزة هي ماركة خاصة وحالة استثنائية لا يشبهها موقع ولا شعب في العالم.

# سندان القدس

إنها القدس الشقيقة الكبرى لا بل إنها الأم الرؤوم لغزة وباقي مدن فلسطين التي وقعت في نفس الأيام في أسر وسبي الاحتلال الإسرائيلي، كان ذلك في نكسة وخيبة حزيران/1967 يوم كانت فضيحة المشروع القومي العربي المدوية بخسارة غزة وسيناء والضفة والقدس والجولان في أقل من ستة أيام.
القدس التي ومن أول يوم وطأت أقدام المحتلين أرضها، وما أن سكتت أصوات مدافعهم ودويّ قنابلهم وإذا بمشاريع مسخ وتشويه هوية القدس تبدأ سواءً كان ذلك عبر تجريف وإزالة أحياء كاملة عن الوجود مثل حي الشرف والمغاربة المحاذيين لحائط البراق، أو عبر سرقة واغتصاب مفاتيح باب المغاربة وعدم إرجاعه لأصحابه وهي دائرة الأوقاف الإسلامية، أو عبر أعمال حفر في محيط المسجد الأقصى، أو عبر تشريد آلاف العائلات المقدسية بدعوى عدم ثبوت هويتهم المقدسية، أو عبر مشاريع بناء معصم من المستوطنات تحيط بالقدس من كل جانب أو عبر إصدار القانون الرسمي بإعلان ضم القدس الشرقية إلى القدس الغربية وإعلانها عاصمة إسرائيل الأبدية والموحدة وغير ذلك من مشاريع تعليمية وإعلامية واقتصادية وسياسية تعزز الوجود اليهودي في القدس على حساب الوجود الإسلامي والعربي والفلسطيني في القدس الشريف.

لإن طالت مشاريع الأسرلة والتهويد كل زاوية من زوايا القدس حجرها وشجرها وبشرها، لكن المسجد الأقصى المبارك كان في قائمة الاستهداف الإسرائيلية عبر أجندة أشرف عليها حاخامات وسياسيون، حيث ظنوا أنها الفرصة التاريخية لتحقيق نبوءاتهم السوداء بهدم الأقصى وبناء هيكلهم الثالث المزعوم على أنقاضه، وما عرفوا لغبائهم أنه على صلابة صخرة القدس وأسوارها ستتحطم قرون غرورهم، وأن القدس ستكون السندان الصلب الذي سيحيّرهم بصلابته بل إنه الذي سيبدد أحلامهم وأوهامهم.

لكن غرور السياسيين الإسرائيليين المتواصل ونزعة التدين في بعدها اليميني المتطرف جعل هؤلاء يذهبون بعيدًا في استهداف القدس عمومًا والمسجد الأقصى خصوصًا، وما أحداث مصلى باب الرحمة عنا ببعيد.

إن الصلف والغرور وجنون العظمة، لا بل إن معاني العلوّ الكبير وعقيدة شعب الله المختار جعلت هؤلاء لا يصغون لصوت العقل ولا المنطق، يحذرهم من هذه الاندفاعة، لا بل إنهم الذين صمّوا آذانهم ولم يسمعوا لأصوات عقلاء حذّروهم من استمرار الضرب على سندان القدس لأن هذا سيقودهم إلى الكارثة.
لقد قال لهم ذلك كارمي غيلون رئيس جهاز الشاباك السابق يوم 29/11/2014: “إن استمرار السياسة المتطرفة ضد المسجد الأقصى ستقود إلى حرب يأجوج ومأجوج ضد كل الشعب اليهودي، وستقود إلى خراب إسرائيل”. وقال لهم ذلك مائير دغان رئيس جهاز الموساد في تصريح نقلته صحيفتي هآرتس ويديعوت الإسرائيليين يوم 27/2/2015: “إنني أشعر بخطر على ضياع الحلم الصهيوني”. ومثله قال رئيس جهاز الشاباك الآخر يوفال ديسكين في مقالة نشرتها صحيفة يديعوت أحرونوت يوم 20/5/2015 تحت عنوان “نهاية البداية أم بداية النهاية”، في إشارة إلى تشاؤمه من مستقبل المشروع الصهيوني وملامح الضعف والتراجع والسياسات الخاطئة واستمرار الضرب والعزف على وتر الصراع الديني واستهداف المسجد الأقصى.

ومثل من سبقوا كارمي غيلون ومائير دغان ويوفال ديسكين، فإنه أفراييم هليفي رئيس جهاد الموساد السابق كذلك، ففي مقال نشرتها صحيفة هآرتس العبرية يوم 30/9/2016 وكان بعنوان “نحن على أبواب كارثة ظلام ما قبل الهاوية”.

وإنه نتنياهو هذا المغرور المتغطرس الذي يتعمد سياسة دفن رأسه في الرمال متجاهلًا لنصائح وتصريحات العقلاء من بني قومه، ويستمر في اندفاعته الرعناء في مشاريع استهداف شعبنا وديننا ومقدساتنا لكنه في داخله يحمل ليس الشعور بالخوف من المستقبل إنما هو الرعب من هذا المستقبل، وهو الذي قال خلال ندوة نظمت بمناسبة عيد العرش اليهودي نهاية العام 2017 والذي قال فيه: “سأعمل على أن تحتفل إسرائيل بيوبيل مائة عام على إقامتها ولكن وجودنا ليس بديهيًا إذ أن التاريخ يقول أنها لم تعمّر دولة لليهود أكثر من ثمانين سنة وهي دولة الحشمونائيم”.

كان آخر هؤلاء المتشائمين ضمن القائمة الطويلة لا مجال لسرد تفاصيلها هو “بيني موريس” المؤرخ اليهودي الإسرائيلي اليميني في مقابلة طويلة معه أجرتها صحيفة هآرتس يوم 11/1/2019 قال فيها بلا تلعثم: “إنه وخلال سنوات سينتصر العرب والمسلمون، وسيكون اليهود في هذه الأرض أقلية مطاردة أو مقتولة، وصاحب الحظ السعيد هو من يستبق ذلك ويستطيع الهروب إلى أوروبا وأمريكا”.

إن ما سطرته أقلام هؤلاء الساسة والأمنيين والمؤرخين الاسرائيليين لتشير بشكل واضح أن نهاية الصراع محسومة، وأن هذا الحال لن يدوم، وأن ليل الاحتلال سيزول، وأن غرور القوة الذي يلف ويعمي بصيرة نتنياهو وزمرته سيعجل في هذه النهاية. ولما أن القدس تحظى بالنصيب الأكبر من هذا الكيد والاستهداف فإنها ستكون هي العلامة الفارقة في تاريخ الصلف الصهيوني الذي سيشكل بداية التردي والانحدار. {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبّروا ما علَوا تتبيرا} آية 7 سورة الإسراء.

إنها المؤسسة الإسرائيلية إذن سياساتها الغاشمة ضد القدس وضد أبناء شعبنا، فإنها ولغبائها لا تجيد قراءة التاريخ لتدرك من خلال تلك القراءة أنها صاحبة حظ سيء قادها إلى أن تعيش في فترة عصيبة بين مطرقة غزة وسندان القدس.

رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى