أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

في ظلال آية وفي ذكرى ثورة

الشيخ كمال خطيب

# ويوم يعضّ الظالم على يديه
ما أكثرها تلك الآيات في القرآن الكريم التي تتحدث عن مشاهد ستقع يوم القيامة، إنها المشاهد التي يعلم المسلم الحق أنها التي ستكون وتقع حقًا ويقينًا، ولكنها التي ستكون جزاءً وفاقًا لما سبق وعمله الإنسان في الدنيا حيث لا مجال ولا أمل بالنجاة والسلامة، وعندها لن يكون إلا الألم والعتاب والتلويم والتقريع من الإنسان نفسه.
إن من عادة الإنسان أنه إذا ندم وأسِف على شيء فاته وتمنى لو أنه ما كان ولا حصل فإنه يعضّ على أصبعه، حتى اشتهر بين الناس القول “فلان عضّ أصبع الندم”، ولكن ما الذي يجري وما هو حجم الخسارة وعظم الشعور بالندم حتى يوصل الإنسان لأن يعضّ ليس على أصبعه ولا على أصبعين ولا حتى على يده كلها، وإنما أن يعضّ على كلتا يديه. ولنا أن نتخيل شخصًا قد أدخل كلتا يديه في فمه وعضّ عليهما وقد فتح شدقيه بأوسع ما يكون.
هكذا يكون حال الظالم يوم القيامة كما وصف الله حال الظالمين لمّا قال {ويوم يعضّ الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلًا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانًا خليلًا} آية 37-38 سورة الفرقان. وهكذا يكون الشعور بالأسف والندم وتمني لو أنه ما فعل الذي فعله ولا أطاع صاحبه ولا شيطانه. إنه الذي يدرك بعد فوات الأوان أن المال لم يعد ينفعه ولا الجاه ولا الحسب ولا شيء مما أشغل نفسه في الدنيا بجمعه واللهث خلف سراب السعادة الموهومة في تحصيله، قال سبحانه {وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه} آية22-29 سورة الحاقة.
وليس أنه الندم فقط ولا التمني وحسب، بل إنه الشعور بالانكسار والذل والصغار. نعم إن خشوع البصر وانكسار العين وطأطأة الرأس والشعور بالخجل، كلها من ملامح ذاك الذي فرّط في الدنيا وغرق في بحر شهواتها ومات على ذلك، وإذا به يوم القيامة يقف موقف الخجلان المنكسر من الذل {خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلّة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون} آية 44 سورة المعارج. وقال سبحانه {خاشعين من الذلّ ينظرون من طرفٍ خفي}.
لعل هذا يكون حال الجاني الظالم لنفسه بالذنوب والمعاصي اقترفها وقد تعدى حدود الله سبحانه، فكيف سيكون حال من جنى على غيره ومن ظَلم الخلق واعتدى على الأموال والأعراض، بل وسفك دماء الأبرياء، حتمًا ويقينًا إنه سيكون أشد خوفًا يومها، وأشد انكسارًا وذلًا وصغارًا وتمنى لو أنه لم يستلم كتابه فيعلم ما فيه، ولعله سيكون فعلًا من الذين سيعضّ على كلتا يديه {ويوم يعضّ الظالم على يديه} آية 37 سورة الفرقان.
فهل يدرك ويعي حقيقة هذا المشهد كل أولئك الطواغيت والظلمة ومن والاهم وساندهم، ومن ارتضى أن يكون عبدًا لهم أو أن يكون في حاشيتهم من رجالات بلاطهم سواءً كان شيخًا أو صحفيًا أو شرطيًا أو مروّجًا لهم ومدافعًا عنهم.
هل يعي ويدرك حقيقة هذا المشهد كل أولئك المتفرعنين والأكاسرة والنماردة الصغار في هذا الزمان، ممن يسيرون على نهج فرعون وكسرى والنمرود، من الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، من الذين يذبحون ويقتلون الأبرياء، من الذين يسجنون العلماء والشرفاء، من الذين يشرّدون الأطفال والنساء والشيوخ.
هل يدرك هذا ابن سلمان وابن زايد والسيسي وبشار وكل الطواغيت من الذين لا يتردد أحدهم أن يفعل ما لم يُفعَل، من أجل البقاء على عرشه وإن قتل مئات الآلاف وشرّد عشرات الملايين.
هل يدرك الطواغيت الصغار في هذا الزمان أن دورة الأيام ستدور وأنه إن نجا من قصاص العباد في الدنيا فلن ينجو من قصاص رب العباد يوم القيامة. إنه مهما كان قويًا فإن الله أقوى، ومهما كانت يده غالبة فإن يد الله جل جلاله أغلب، كما قال الشاعر:

لئن كانت الأيام أعلَت له يدًا يطول بها في ظلمة ويجاذب
فما يد إلا يد الله فوقها ولا غالب إلا له الله غالب

# أليس الله بكافٍ عبده
إنها نفس الحكاية ونفس القصة تتكرر، تحكي غرور الظلمة والطواغيت والمستبدين الذين أعمتهم قوتهم وجبروتهم، حتى أن الظالم والطاغية ينسى نفسه وهو غارق في الاستبداد حيث يتجاوز مبارزة عباد الله الضعفاء فيصبح مبارزًا لله جل جلاله.
ولأنه الله سبحانه الذي اختار واصطفى من عباده من يحملون راية الحق ويدعون الناس لعبادته سبحانه والسير على منهجه، وسواء كان هؤلاء رسلًا أو كانوا أتباع الرسل أو كانوا العلماء والدعاة والمصلحين، فإنه نفس المصير سيلقونه من أولئك الطواغيت {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} آية 8 سورة البروج. ولأن هؤلاء رفعوا صوتهم باسم الله، وأرادوا الناس أن يسيروا على هدى الله، فحاشا الله سبحانه أن يتخلى عنهم أو أن يكلهم إلى أولئك الطواغيت والظلمة يتمتعون بعذاباتهم، ولكنه الله سبحانه الذي له في كل شيء حكمة ومشيئة قد يكون في ظاهرها الشر والظلم لكن الخير يكمن بين ثناياها {وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا} آية 19 سورة النساء.
إنه سبحانه يمتحن أهل الحق وأهل الباطل، ويمتحن المصلحين بالمفسدين، ويمتحن القابضين على دينهم بالذين باعوا دينهم بعرضٍ من الدنيا. نعم إنه يمتحنهم لكن سبحانه لا يتخلى عن عباده الصادقين ولا يخذلهم. إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لقي من قريش ما لقي من سبّ وضرب وهجر، واعتدوا على أصحابه وأسالوا دمه، هل يعني ذلك أن الله سبحانه قد تخلى عن رسوله صلى الله عليه وسلم. إنه الله سبحانه يُطمئن رسوله صلى الله عليه وسلم بالقول {أليس الله بكافٍ عبده ويخوفونك بالذين من دونه} آية 36 سورة الزمر. فهل يقبل عقل المؤمن أو يصدّق أن الله سبحانه سيترك عبده لخصومه أو يسلطهم عليه أو يجعل مصيره بأيديهم، فإذا كان هذا أو بعضه فإنما هو لحكمه، لكن الله سبحانه يعود ليطمئن عبده بالقول {أليس الله بكافٍ عبده} أو لعله سبحانه يريد أن يؤدبهم وينقذهم من شرور أنفسهم بتذكيرهم بضرورة الاعتماد عليه واللجوء إليه والوقوف على بابه، فقد ورد في الحديث القدسي قوله سبحانه: “ما من عبد يعتصم بي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السماوات بمن فيها إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا. وما من عبد يعتصم بمخلوق أعرف ذلك في نيته إلا قطعت أسباب السماء بين يديه وأسخْت الأرض من تحت قدميه”.
يقول الدكتور محمد راتب النابلسي: “وهذا الذي نراه من تسلط أعداء الله على المسلمين إنها صعقة من أجل أن نصحو. أليس طبيب القلب يصعق قلب المريض لعله ينبض لعله يتحرك، لعل الحياة تدب فيه، وكذلك هي الشدة التي يعاني منها المسلمون، إنها الصعقة من الله لهم لعلهم يصحون من غفلتهم ويعودون إلى ربهم ويقفون على أبوابه تائبين”.
فإلى كل المقهورين والمستضعفين، إلى كل من يصبّ عليهم العذاب صبًا من الطواغيت والظلمة، إلى كل الدعاة ورافعي الراية، إلى كل من يسعون لنصرة الإسلام ويدفعون بذلك ثمنًا من حريتهم وأموالهم بل وأرواحهم، لهؤلاء أقول: ثقوا بربكم وامضوا على طريقكم، وإن الله عز وجل معكم ولن يتِركم أعمالكم، وإياكم والخوف من الطواغيت وأعوانهم فكل قوتهم هي دون قوة الله، فهو القوي سبحانه وهو العزيز وهم الضعفاء والأذلاء.

# فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل
إنها أساليب ووسائل الطواغيت دائمًا في ترويع وتخويف كل من يخالفهم ومن يعترض على ظلمهم {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يخرجوك أو يقتلوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} آية 30 سورة الأنفال. وإذا كان هذا السلاح قد أشهروه في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَ لا يشهرونه في وجه من يسيرون على نهج وطريق محمد صلى الله عليه وسلم. ولكنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه السائرون على دربه في الماضي وفي الحاضر وفي كل زمان ومكان، إنه جوابهم لهؤلاء الظلمة وأعوانهم هو الصبر والثبات والاعتصام بحبل الله والتوكل الصادق عليه {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} آية 173 سورة آل عمران.
قال يزيد بن حاتم “ما هبت شيئًا قط مثل هيبتي من رجل ظلمته وأنا أعلم أن لا ناصر له إلا الله فيقول حسبي الله ونعم الوكيل، الله بيني وبينك”. وإنها القصة المشهورة عندما جمع الرئيس المصري السابق أنور السادات رموزًا سياسية ودينية ومصرية، وكان من بين الحاضرين الاستاذ عمر التلمساني المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، وإذا بالسادات الطاغية يشير إلى الاستاذ التلمساني ويهمز عليه بكلمات غير لائقة، فما كان من التلمساني إلا أن وقف أمام الجمع قائلًا للسادات: “حسبي الله ونعم الوكيل عليك، إني أشكوك إلى الله” فانتفض السادات من وقْعِ ما سمع وغضب وقال للتلمساني اسحبها يا عمر، فقال له عمر التلمساني إني لم أشكوك إلى ظالم، إني أشكوك إلى الله أعدل العادلين”.
وإذا كان من يتسلح بهذه الآية ودلالاتها ومعانيها فإنه يصبح في جناب الله ويلوذ بقوة الله العظمى، فماذا سيضره وكيف سيضره من يعتمدون على قوة باطلهم ومن يسيرون في موكب الشيطان {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} آية 70 سورة آل عمران. وإذا كان نوح عليه السلام في لحظة استشعار معية الله وحاجته إليها، فإنه قد قال {فدعا ربه أني مغلوب فانتصر} آية 10 سورة القمر. وإذا كان مؤمن آل فرعون قد قال {وأفوض أمري إلى الله} اية 44 سورة غافر. وإذا كان ذلك المظلوم في القصة المشهورة وقد عجز من استرداد حقه من الظالم، فرفع يديه إلى السماء وقال: “اللهم إن عبدك فلان استقوى عليّ بقدرته على ضعفي، فأرني فيه قدرتك يا رب العالمين”.

في مثل هذا اليوم 15/3 من العام 2011 انطلقت شرارة ثورة الشعب السوري المظلوم ضد نظام الطاغية بشار الأسد. وقد كانت هذه الثورة امتدادًا لثورات سبق وانطلقت في تونس ومصر واليمن وليبيا.
إنه الشعب السوري الذي ما خرج إلا لينشد الحرية والكرامة ليدفع ثمن ذلك قريبًا من مليون شهيد، وأكثر من اثني عشر مليون مهجر ومشرّد، ومئات آلاف المعاقين ومثلهم من المعتقلين. إنه الشعب السوري الذي وقع ضحية تآمر الأشقاء وظلم الأعداء الذين تكالبوا على سوريا، مرة تحركهم طائفيتهم كحال إيران وحزب الله وميليشياتهم، ومرة تحركهم أحقادهم الدينية ومطامعهم السياسية كحال روسيا وأمريكا والغرب عمومًا.
لكنه الشعب السوري ورغم كل جراحاته، فإنه الذي هتف مستشعرًا حاجته لله رب العالمين قائلًا “يا الله ما إلنا غيرك يا الله” ومعلنًا بذلك نزع ثقته من أي قوة ومتبرئًا من غير حول إلا حول الله وقوته.
فما أحوج شعبنا السوري وشعبنا الفلسطيني وشعبنا المصري وشعبنا الجزائري، وما أحوج أمتنا كلها في هذه المرحلة من أن تعيش في ظلال ورحاب ومعاني قوله سبحانه {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}، ما أحوجنا إلى {وأفوض أمري إلى الله}، ما أحوجنا إلى {إني مغلوب فانتصر}. نعم في هذا الزمان الذي يتكالب علينا فيه الأعداء ويمطروننا بسهام الكيد، ويبطش بنا الأقرباء ويطعنوننا بسهام الغدر، فإنها الضرورة والحاجة تدفعنا دفعًا إلى باب الله وقد أغلقت كل الأبواب، فنقف على بابه سبحانه ويقينًا إنه الله الذي لا يرد من وقف على بابه، ويقينًا أنه سينتصر لأوليائه ومن انحازوا إليه. فإلى كل ظالم وطاغية ومستبد أقول: لا تستهن بمن لا يجد له عونًا عليك إلا الله.

رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى