أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

تجديد الخطاب الديني وكُنُسُ القدس

توفيق محمد
بهدوء مطلق وبمسؤولية كاملة تامة أقول أن هناك ثوابت ومسلمات لا يمكن السكوت عن تجاوزها كائنا من كان المتجاوز، ولذلك فإن أي شعب أو فئة أو شخص قد يتجاوز عن أي أمر شخصي أو فئوي يمس الأشخاص، أو يمس القادة، أو يمس الفئة (حزبا كانت أو حركة أو مؤسسة أو جمعية) لكن عندما يمس التجاوز ثوابت ومسلمات دينية أو وطنية فإن الأمر يصبح ضربا في العظم، ولا يجوز ساعتها التجاوز والسكوت لأن الأمر ساعتئذ يتعلق بالأمانة والوفاء لها، وهي الأمانة التي قال الله فيها :”إنَّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين ان يحملها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا” الأحزاب 72 .
ولما كان الأمر كذلك كان لا بد من توجيه النصيحة والصدع بالحق، ولو كان الأمر قاسيا، وتوجيه النصيحة من هذا الباب تعنى به ثلاثة أطراف:
الأول: صاحب النصيحة إذ يتوجب عليه فعل ذلك، وان لم يفعل فإنه يخون أمانته وهذا أمر لا يجوز.
الثاني: الشخص الذي قام بالفعل ذاته إذ ربما أخطأ التقدير أو أساء الفهم أو لم يقصد أو انه مقتنع بالخطأ الذي هو عليه، وهنا يجب نصحه لرده عن كل ذلك.
الثالث: الجمهور الذي يتلقى الكلام، فلا بد أن الناس في غالبيتهم يتلقون عن أهل الذكر كلٍّ في موضوعه، وكيف إن كان أهل الذكر، أو من يعتبر نفسه كذلك، قائدا لفئة من الناس في مجتمعه، فإنه يجتمع على الناس ان فلانا أهل ذكر وقائد وهو لا بد يعي جيدا ما يقول، ولا بد أنه دارس له وواع جدا لما يصدر عنه، وإلا لما كان قال ما قال، وهذا المأمول عادة من القيادات، فكيف لقائد ان يتحدث بحديث إلا بعد دراسة وتمحيص وبحث في مؤسساته وإدارته ومجموعته، وبالتالي يكون عليه واجب إقناع الناس بما اتفق عليه.
ونحن إزاء خطاب الدكتور منصور عباس أمام قضيتين لا بد لنا من أن نقف معه وقفة الأخ الناصح دون حساسية، ودون أن يتهم أحد أحدا بأي شيء، ودون أن يحاول البعض شخصنة المسائل، فهي أبعد ما تكون عن ذلك، وأقرب ما تكون إلى وجوب التبيان للناس حتى لا يقعوا في المفاهيم الخاطئة، ولو كان الأمر في السياسة اليومية والمسائل ذات الاجتهاد العادي لكان في الأمر متسع وتغاض حتى وإن كان الأمر مخالف اية مخالفة لما نؤمن به ونعتقد أنه الأصوب لأن الأمر يبقى في باب الاجتهاد لتسيير أمور العباد، وفي هذه للمصيب أجران وللمخطئ أجر.
أما القضيتان المعنيتان فهما مسألة خطاب الدكتور منصور عباس في مصلى قبة الصخرة الواقع في المسجد الأقصى المبارك، وهناك قال من ضمن ما قال أن الناس، كل الناس، بما في ذلك اليهود سعدوا بفتح عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، للقدس وأنه أي الخليفة عمر، رضي الله عنه، سمح لليهود ببناء كنسهم وعبادة الله على الوجه الذي يرتأون.
والواقع أن هذا الكلام فيه تعد على التاريخ أولا، وفيه تعد على الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ثانيا، فالوثيقة العمرية في هذه المسألة واضحة جدا، وهي وعد عمر، رضي الله عنه، للنصارى بأن لا يساكنهم اليهود في القدس، والتاريخ لا يمكن كتابته من جديد ولا يمكن تغييره لأن من كتبه كتبه بجهده وعرقه ودمه، والذي نخشاه هنا، مع علمنا بسعة إطلاع الدكتور منصور وعلمه اليقيني بالوثيقة العمرية كما يعرفها كل مقدسي وكل مسلم وكل مسيحي يسكن القدس، الذي نخشاه على الدكتور منصور أن يكون هذا الكلام المعتدي على التاريخ والموروث الإنساني، ناهيك عن الموروث الوطني، ناهيك عن الموروث الديني للمسلمين والمسيحيين في بيت المقدس وعموما استرضاء للقوم الذين يسعى أن يكون عضوا في كنيستهم غدا، فإن كان الكلام كذلك فلا يجدر بك أبدا وان تحمل مشروعا إسلاميا وتتحدث باسم مشروع إسلامي، وإن كان خطأ منك وزلة لسان، فلا يجدر لقائد مثلك يُدَّرِّسُ الناس في قبة الصخرة ويخاطب الجميع وأقصد المؤسسة الإسرائيلية والمسلمين ويلقي خطابا سياسيا أن يقع في ذلك، وعلى كلتا الحالتين يتوجب على الدكتور منصور أن ينسحب انسحابا كاملا وتاما دون مواربة ودون بيانات ضبابية، بل بكلام واضح لا لبس فيه وان يعتذر عما بدر منه في هذه المسألة، أن يعتذر للخليفة عمر رضي الله عنه، ثم للتاريخ ثم لعموم المسلمين والمسيحيين ثم لأهل القدس ثم لعموم شعبنا الفلسطيني .
أما أولئك أصحاب نغمة الخطاب العقلاني الذين باتوا يسمعونا هذه النغمة “على الحامية والباردة” فيجب ان يعلموا ان لا عقلانيا ولا متوازنا ولا صحيحا ولا صوابا أكثر من قول الحقيقية، والحديث هنا للكثير ممن باتوا يتحدثون عن العقلانية والواقعية في الطرح وأصبح الكلام فيها يجتر اجترارا، فان كانت العقلانية والواقعية فيها تخلٍّ عن ثوابت الدين أو الوطن أو التاريخ فسمها ما شئت لكن ابتعد عن العقلانية لأنها ليست من العقل في شيء.
والمسألة الثانية هي مسالة تجديد الخطاب الديني وهي مستحدثة في عصرنا، وهي في الحالة العربية أي في الأنظمة العربية تسعى لإلباس الدين أثوابا تتوافق مع متطلبات المرحلة، وتفصل وفق مقاسات الطلبات الأوروبية وتستجيب لعصرنة الدين ولو على حساب على حساب مسلماته، وللحقيقة أقول أنني سمعت من أخي الدكتور منصور أنه يطرح مسألة تجديد الخطاب الديني فقط في مسالة مكافحة العنف، وفي هذا أيضا اتهام كبير للخطاب الديني في هذا الأمر، ولست هنا في صدد استحضار الآيات والأحاديث والأدبيات الإسلامية الكثيرة جدا، والملأى بها المكتبة الإسلامية للتدليل على قولي، فالخطاب الإسلامي قد أثرى الكون في هذه المسالة أيما إثراء، ومن مثلك يا دكتور يعلم ذلك .
الذي أخشاه أن أخي الدكتور قد استحضر المصطلح من السياق العام الذي بات يتحدث به من يهاجمون الدين وأنزله على السياق الخاص الذي يسعى من خلاله للدفاع عن الدين، وأعتقد أن هذا هو مقصد الدكتور منصور، أي أنه يسعى للدفاع عن الدين من خلال منظومة الفكر الذي يهاجم الدين.
ولكن هذه المسالة خطيرة جدا لأمرين:
الأول: أنك تخاطب عقل أبناء المشروع الإسلامي وعامة الناس، ودعني أركز وإياك على عامة الناس بأدبيات من يهاجمون الدين، فأنت اذا تخاطب العقل اللاواعي لديهم في الخطاب المعادي لما تسعى للدفاع عنه، وهنا توقعهم في فخ أردت أصلا ان تنتشلهم منه.
الثاني: الخطاب على هذه الشاكلة يميع الخطاب الديني ويفقده بريقه، لان الناس ساعتها ستقول لماذا نتبع المقلد ما دام الأصلي متوفر، وليس أصليا كالأصل الذي جئت منه، عنده فاثبت.
أخي الدكتور منصور ربما أكون قسوت عليك بعض الشيء، لكنني لك ناصح أمين، وأحبك وأحب كل إخواني مهما اختلفت مسمياتهم، وأحب كل شعبي مهما اختلفت تنوعاتهم ومشاربهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى