أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

عمى الألوان وعمى القلوب

الشيخ كمال خطيب

عمى الألوان

هو مرض وراثي في الغالب أو بسبب حدث عارض ويتمثل في عدم قدرة المريض على التمييز بين بعض الألوان أو كلها، مثلما يميّزها الآخرون. لكن أهم الألوان التي يفقد المريض رؤيتها أو تحديدها هي الأحمر والأزرق والأخضر أو اللون الناتج عن خلطها معًا، وفي حالات معينة فإن المريض بعمى الألوان تقتصر رؤيته فقط للون الأسود والأبيض والرمادي.

ومع أن مرض عمى الألوان بلاء يشعر المصاب به بالألم والحسرة على عدم القدرة للاستمتاع بالمناظر والمشاهد، إلا أنه في نظر الداعية الأمريكي المسلم المرحوم “مالكم إكس” أو الذي عرف باسم “الحاج مالك” نعمة من نعم الله على كل مسلم خاصة وعلى المسلمين عامة، وذلك حين يقول “إن الإسلام يجعلنا نرى الإنسان ولا نرى الألوان”. إنه يقصد بذلك أن المسلم يرى الإنسان قيمته واعتباره بكونه إنسانًا أيًا كان لون بشرته أسود أو أبيض أو أصفر.

لقد قال هذه العبارة في أوج مظاهر العنصرية التي تفشت في أمريكا من البيض واحتقارهم وامتهانهم لكل صاحب لون آخر خاصة الأفارقة السود والهنود الحمر، حيث نادوا بعلوّ الإنسان الأبيض وأنه الأنقى والأرقى، بينما عانى الملوّنون أشد صنوف المعاناة. ورغم القوانين والقرارات التي جرّمت ومنعت عنصرية اللون والدين والجنس، إلا أن ملامحها ما تزال تظهر في كل يوم عبر سلوك الأمريكي الأبيض ضد غيره عامة وضد المسلم خاصة.

وعليه فإذا كان البعض يتألم من مرض عمى الألوان فإننا نحن المسلمين نقرّ ونعترف بإصابتنا بهذا المرض، بل إننا نحمد الله على هذه النعمة. نعم عندما ننظر للإنسان فإننا نراه بإنسانيته وكينونته التي خلقه الله عليها، وتحت تأثير عمى الألوان فإننا لا نراه من خلال لونه الأبيض أو الأسود أو أي لون آخر، وإنما نراه ذاك الإنسان الذي خلقه الله من طين ثم نفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته. إنه ذلك الإنسان أي إنسان الذي كرمه الله تعالى لما قال {ولقد كرمنا بني آدم} إنه التكريم والاحترام لابن آدم الأبيض والأسود والأصفر والأحمر. إننا نراه بأمه وأبيه اللذين هما نفس أمنا وأبينا { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} آية 13 سورة الحجرات. وإذا كان المريض بعمى الألوان غالبًا لا يرى إلا اللون الأبيض والأسود والرمادي، فإن المسلم يبلغ عنده عمى الألوان إلى درجة أنه لا يرى حتى الأسود والأبيض كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، كلكم لآدم وآدم من تراب”.

لقد كان مرض عمى الألوان سائدًا في تاريخ المسلمين، بل إنه كان بارزًا جدًا في عهد الدعوة الأول لمّا التقى واجتمع وتساوى في عين الإسلام أبو بكر العربي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي، لا بل إن مرض عمى الألوان قد تفشى في أجيال المسلمين حتى بلغ إلى درجة أن اللون كان يغيب ولا قيمة له في تحديد موقع الإنسان والمركز الذي تبوأه، بل إن دين المسلم وأحكام شريعته كان يتلقاها من ذلك المسلم غير العربي وقد أصبح قاضي المسلمين وإمامهم. قال ابن أبي ليلى، قال عيسى بن موسى وكان شديد العصبية للعرب:

من فقيه البصرة؟ قلت: الحسن البصري، قال: فمن يكون؟ قلت: مولى. ثم قال: من فقيه المدينة؟ فقلت: زيد بن أسلم ومحمد بن المنكدر. فقال: من يكونا؟ فقلت: من الموالي. فقال: من فقيه مكة؟ فقلت عطاء بن رباح. فقال: من يكون. فقلت: من الموالي. ثم قال: من فقيه قباء؟ فقلت: ربيعة الرأي. فقال: فمن يكون؟ فقلت: مولى. فقال من فقيه اليمن؟ فقلت: طاووس. فقال: من يكون؟ فقلت: مولى. فقال: من فقيه خراسان؟ فقلت: عطاء بن عبد الله الخراساني. فقال: فمن يكون؟ فقلت: مولى. ثم قال: فمن فقيه الشام؟ فقلت: مكحول. فقال: من يكون؟ فقلت: مولى. ثم قال: من فقيه الكوفة؟ قال: ابن أبي ليلى فوالله لولا أني خفت عليه لقلت عمار بن أبي سليمان، ولكني رأيت الشر في عينيه. فقلت: إبراهيم النخعي والشعبي. فقال: من يكونان فقلت: عربيان، فسكت وقال: “الحمد لله المولى هو المسلم غير العربي”.

وهل أعظم انتشارًا لمرض عمى الألوان أن يتقدم جيوش المسلمين في فتوحاتهم ومن حققوا أعظم انتصاراتهم كانوا مسلمين من غير العرب، فذاك طارق بن زياد البربري، وصلاح الدين الكردي، والظاهر بيبرس المملوكي، ومحمد الفاتح التركي وأحمد عرفان الهندي.

إنه عمى الألوان وصل إلى حد قول المسلمين عن أبي بكر الصديق وعن بلال بن رباح رضي الله عنهما “أبو بكر سيدُنا وأعتق سيدنا”. إنه لم يعد مكان للون في تحديد المكانة والكرامة، فأبو بكر العربي الأبيض وبلال الحبشي الأسود كليهما سيّدان وكليهما خيرّان.

لقد اختلت الموازين وانحرفت البوصلة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها. وإذا كان المريض بعمى الألوان يذهب للطبيب من أجل أن يعيد له القدرة على إبصار الألوان كلها، فإننا نحن المسلمين يجب أن نعود إلى المنهج الأول الكتاب والسنة، لنعالج به حالنا وما صرنا إليه. فليس أننا لم نعد نرى الأحمر والأخضر ولا نرى إلا الأبيض والأسود، وإنما وصل الحال بنا إلى أن أصبح الأبيض أسود والأسود أبيض. نعم إننا بحاجة إلى أن نعود للحالة الطبيعية التي نسعد بها، وهي حالة عمى الألوان لأن ما نحن عليه اليوم هو عمى القلوب وليس عمى الألوان.

عمى القلوب

لعله المريض بعمى الألوان يتألم كثيرًا لأنه يحرم رؤية بعض الألوان كالأخضر والأزرق والأحمر، ولكنه مع الأيام يعوض هذا لمّا يصبح يرى الأشياء ليست بعين رأسه، وإنما بعين قلبه. وتكون المصيبة العظمى حينما يبتلى البعض بعمى الألوان وعمى القلوب كما قال الله سبحانه {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون} آية 170 سورة الأعراف.

نعم إن المصاب بعمى الألوان فإنه يحرم من بعضها، لكنه يظل يرى البعض الآخر. إنما المصاب بعمى القلوب فإنه يصبح لا يرى الأشياء كلها إلا سوداء حالكة {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} آية 46 سورة الحج.

وإنه المرض الخطير الذي أصاب أمتنا حيث أصبحنا مثل الآخرين بل وأسوأ منهم، فلم نعد نرَ وننظر للإنسان بإنسانيته، بل أصبحنا نراه بلونه ونراه بماله ومنصبه وعائلته وشهاداته. فلقد أصبحت قيمة الإنسان لا تقاس بالأخلاق والفضائل والمكارم، بل تقاس بالجاه والمنصب والمال ونوع السيارة وغير ذلك. وإذا كنا نفتخر بعمى الألوان وقد أصابنا، فإننا نحزن ونبكي ونتألم لعمى القلوب وقد ابتلينا به.

ولقد تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن حال الأمة يوم تصاب بعمى القلوب حيث ستختل الموازين وتنتكس المعايير، فقد قال صلى الله عليه وسلم “إن بين يديّ الساعة سنين خداعة فيها يخون الأمين ويؤتمن الخائن، ويصدق الكاذب ويكذب الصادق، ويتكلم في الناس الرويبضة. قالوا: وما الرويبضة يا رسول الله. قال: السفيه يتكلم في أمر الناس”.

لقد حدث الانقلاب الخطير والانحراف الرهيب في حياتنا نحن المسلمين، وتحولنا من الذي لا يرى الإنسان بلونه وإنما بإنسانيته إلى الذي يقبل ويرضى بقلب الموازين وانحراف المعايير، فيصبح في عينيه الصادق هو الكاذب والكاذب هو الصادق، ويصبح الخائن هو الأمين ويصبح الأمين والعفيف هو الخائن والفساد.

نعم لقد اختلت الموازين لنرى حثالات الناس في المقدمة ويُحملون على الأكتاف، بينما خيار الناس يهانون ويذلون. لقد أصبح السمسار والخائن والعميل من يتصدر المجالس ومن يشار إليه بالبنان، وأصبح الوطني الأصيل والثابت على المبادئ هو من ينظر إليه بعين الريبة والشك {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} آية 46 سورة الحج. لقد تفشى فينا عمى القلوب إلى درجة أن خان الأمراء والزعماء، وإلى أن ضلّ العلماء، وهم الأمراء والعلماء بوصلة الأمة ومن يقودون ركبها. فما عاد الأمراء يجلّون العلماء، وما عاد العلماء يقولون كلمة حق في وجه سلطان جائر.

ولقد تفشى فينا عمى القلوب لمّا أصبحت الخيانة وجهة نظر، ولمّا أصبحت الهزيمة والجبن في مواجهة الأعداء تكتيكًا ودبلوماسية. ولمّا أصبحت الشجاعة والصلابة في مواجهة الاعداء تسمي حماسة واندفاعًا وتهورًا.

لا بل وصل حال عمى القلب إلى أن أصبح التمسك بالإسلام يسمى إرهابًا وتطرفًا، بينما الانسلاخ منه والتنكر لقيمه وتعاليمه يسمى واقعية ومرونة.

لقد وصل الحال وعمى القلب إلى أن أصبحت أمريكا راعية للسلام، وإلى أن أصبحت روسيا حريصة على مصالح الشعوب، بينما الشعوب التي تسعى لحريتها شعوب متمردة وفوضوية، وتمارس الإرهاب. لقد أصبحت اسرائيل دولة جارة بينما تصبح الدول العربية والإسلامية عدوة بعضها لبعض. لقد أصبح السيسي الانقلابي رئيسًا شرعيًا، وأصبح مرسي الرئيس الشرعي المنتخب إرهابيًا ويعمل ضد مصالح شعبه ولا مكان له إلا السجن بل لعله الإعدام.

إنه عمى القلب أصابنا إلى حد أن يصبح الفلسطيني يعمل لخدمة الاحتلال والعمالة له، ويسمى ذلك تنسيقًا أمنيًا، ويصبح الفلسطيني الذي يواجه مشاريع الاحتلال إرهابيًا ويعبث بالصف الوطني فيطارد ويعتقل.

لقد أصابنا عمى القلب حتى في قضايانا الاجتماعية، فأصبحنا نرى ونقول عن الرقاصة فنانة وعن الممثل المائع والتافه نجمًا، وأصبحنا نسمي ونرى الانحراف والعريّ موضة، ونسمي الشذوذ حرية شخصية، ونسمي المسكرات مشروبات روحية، ويوم أصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كيف أنتم إذا لم تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر؟ قالوا يا رسول الله وإن ذلك لكائن؟ قال: نعم وأشد، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ قالوا: يا رسول الله وإن ذلك لكائن؟ قال: نعم وأشد، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرًا والمنكر معروفًا؟ قالوا: يا رسول الله وإن ذلك لكائن؟ قال: نعم”.

إن عمى الألوان يمكن العيش معه رغم كل آلامه، ولكن عمى القلوب هو مرض قاتل. وكيف لا يكون ذلك والقلب هو سيد الجسد “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب” كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.

إننا وإن افتخرنا نحن المسلمين بعمى الألوان، فنرى الإنسان ونحترمه بعيدًا عن لونه، إلا أننا لن نقبل أن يذلنا وأن يتسلط علينا من قد عميت قلوبهم من شذاذ الآفاق ومن أسافل وأراذل الناس، لا لشيء إلا لأننا مسلمون {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} آية 8 سورة البروج. {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} آية 217 سورة البقرة.

إن عمى الألوان لن يفقدنا القدرة على التمييز بين العدو والصديق، ولا بين الخيّر والشرير، ولا بين من هم معنا ولا من هم علينا وعليه فمن مدّ لنا يد الحب والسلام مددناها، ومن ضربنا بيده على خدنا الأيمن فلن ندير له الخدّ الأيسر، وإنما سنحطم رأسه ونذله ويتمنى أن أمه لم تلده. نعم إننا مسلمون، والمسلم ليس خبًا ولا الخبّ الخبيث يخدعه كما قال عمر رضي الله عنه “لست بالخبّ ولا الخبّ يخدعني”.

هكذا نحن والحمد لله بعد إذ عافانا الله من عمى القلوب عشنا تحت تأثيره سنين بل عقود، وإليه أبدًا بإذن الله لن نعود.

رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى