ورجعنا نعبد الأصنام

الشيخ كمال خطيب
قال المرحوم الدكتور مصطفى السباعي: “لا يزال كثير من الناس بالرغم من اعتقادهم بوحدانية الله جل جلاله يعبدون الأصنام كما كانوا في الجاهلية الأولى، مع فارق واحد هو: أن أصنام الجاهلية لا تضر ولا تنفع، وأصنام هؤلاء تضلّهم وتشقيهم، وتغشهم وتخدعهم، وتستغلهم وتستخدمهم، وتبعدهم عن الله وهم يظنون أنهم بواسطتها يقتربون منه. فواحسرتنا على العقول المكبلة بالأوهام، ويا رحمتنا للنفوس الخاضعة للأصنام، ويا خجلتنا من التاريخ إذ يسجل على عصرنا هذا عودة لعبادة الأصنام وهو أكثر العصور ثقافة ومطاردة للظلام!”.
نعم فلقد أنزل الله تعالى في قرآنه العزيز وقد وصف عُبّاد الصنم في الجاهلية وأنهم كذلك، كانوا لا ينكرون وجود الخالق سبحانه، وإنما كانوا يعبدون تلك الأصنام لتقربهم إليه سبحانه {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} آية 3 سورة الزمر. فعبّاد أصنام الجاهلية الأولى كانوا يريدون التقرب إلى الله، بينما عباد أصنام الجاهلية الحديثة تبعدهم أصنامهم عن الله سبحانه، بل وتضلهم عن كل سبيل يوصل إلى الله جل جلاله.
# صنم الأنا
وإن من أشهر أصنام عصرنا التي عبدها الناس، عبادة “الأنا”. إنها الشخصانية الضيقة والأنانية القاتلة التي تجعل الواحد من هؤلاء لا يرى الناس إلا من نافذة شخصه، وأنه يتمنى أن لو كل الناس عبيد تحت إمرته بينما هو عبد لشخصه، وحتى لو كان هؤلاء أقرب الناس إليه. إنها عبادة الأنا أخرجت إبليس من الجنة لما قال {أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين} آية 12 سورة الأعراف. وهي التي أوصلت فرعون إلى حد القول {أنا ربكم الأعلى} آية 24 سورة النازعات. وأوصلت النمرود إلى حد القول {أنا أحيي وأميت} آية 258 سورة البقرة. وإلى حد أن يقول كثيرون (أنا وليكن الطوفان). وإلى حد أن يحرق نيرون روما لئلا يكون عليها حاكمٌ غيره. وإلى حد أن يقول أتباع النظام في سوريا (الأسد يا منحرق البلد) وفعلًا أحرقوها من أجل أن يبقى بشار.
إن عبادة صنم الأنا تجعل أحدهم يرى الناس مجرد أرقام، ومجرد طوابير في قائمة عبيده وخدمه.
# صنم الجاهلية
ومثل صنم الأنا فإنه صنم العائلية، حيث يصل الأمر بعابد هذا الصنم أن يقدس عائلته لمجرد الاسم. فعائلته بالنسبة له هي الفخر وهي المجد وهي الكرم وهي البطولة وهي الكفاءة، وأن المكارم كلها قد اجتمعت فيها. وليس معنى هذا أن مثل هذه الصفات قد لا تكون موجودة في عائلة معينة، ولكن وجودها لا يعني كذلك عدم وجودها في عائلة غيرها.
لكن عابد الصنم هذا يتمنى أن لو يحطم كل الأصنام ولا يبقى إلا صنمه. نعم إن كل منا يفخر بعائلته ويعتز بنسبه وأهله، وليس في هذا ضير ولا يتنافى مع رسالة الإسلام وكل الأديان، ولكن أن يتعالى بهذا السبب على غيره وأن يزدري ويحقر ويسفّه أي عائلة غير عائلته، فإنما هو الظلم والغرور وعمى البصر والبصيرة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه”.
إن عبادة صنم العائلة تجعل البعض ينظر إلى نفسه أنه ابن الأكرمين، بينما غيره هم أراذل الناس، وتجعله ينظر إلى نفسه أنه من سلالة الطهر، بينما غيره مشكوك في نسبهم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، كلكم لآدم وآدم من تراب”.
وإن صنم العائلية هذا قد يصل به الأمر في إشقاء وإضلال من يعبدونه، إنه يجعلهم يستكبرون على عوائل أخرى، بينما تقوده إلى أضيق من ذلك بكثير حينما يصبح يقدس صنم الفخذ من العائلة الواحدة، حيث يتعالى ويتفاخر أبناء العمومة على بعضهم البعض وأن فخذهم من العائلة الفلانية هم الأكثر كفاءة والأكثر تعلمًا والأكثر ذكاء، وأنهم الأجدر بالصدارة والقيادة.
إن صنم العائلية في زماننا عمومًا وفي أيامنا هذه بالذات، الأيام التي تجري فيها الاستعدادات لانتخابات السلطات المحلية، البلديات والمجالس المحلية، وحيث دوائر التنافس في أغلبيتها الساحقة هي دوائر عائلية، وحيث كل عائلة تعتبر أن ابنها هو الأكثر كفاءة والأكثر إخلاصًا، وأن مرشحها هو أسطورة الزمان وأنه ابن جلّا وطلّاع الثنايا، وأنه سيحقق المستحيل بينما تشيع عن مرشحي غيرها من العائلات أنه رمز الفشل وعنوان الخيبة، وأنه لن يختلف عن سابقيه وإلى غير ذلك من النقائص والإساءات، لتتحطم عند صنم العائلية كل معاني الرجولة والشهامة والموضوعية، بينما تبرز تحت قدمي ذلك الصنم الافتراءات والإشاعات والتفاهات والمثاليات.
# صنم الحزبية
ومع محاولات الارتقاء لعمل سياسي أو اجتماعي ووطني، ظهرت آلية التنظيمات الحزبية من خلالها تسعى مجموعة من الناس التقت قناعاتهم وكانت بينهم قواسم مشتركة كثيرة في قضايا سياسية أو فكرية أو اجتماعية، حيث يسمى الإطار الذي يجمع هؤلاء حزبًا أو حركة أو تيارًا.
إنه الحق الطبيعي والكامل لكل حزب أن يطرح قناعاته وسياساته وبرامجه وأهدافه على مجتمعه، وإن من حق كل فرد القبول والتصديق أو الرفض لهذه السياسات والبرامج ولهذا الحزب، بينما يتبنى أو ينتقي أو يدافع وحتى يروّج لحزب آخر له قناعات وأفكار ومشاريع تختلف عن الحزب الآخر.
لكن ما يحصل سواء على الصعيد المحلي أو القطري أو حتى في الدول الصغيرة منها والكبيرة أن الحزب يصبح صنمًا يُعبد، فكلٌ يدعي لحزبه العصمة والوطنية والشفافية والرؤية المستقبلية، وأنه الأقدر والأجدر لقيادة البلد أو الدولة، بينما لا يرى في غيره من الأحزاب إلا تكتلات مشبوهة وأحزاب انتهازية، بل قد يصل الأمر إلى حد قذف ورمي الآخرين والتشكيك بوطنيتهم وصفاء نيتهم وأصالة هويتهم.
إن صنم الحزبية تجعل البعض يجعل انتمائه الحزبي مقدم على انتمائه لوطنه وانتمائه لدينه، فالحزب أولًا وما سواه يأتي لاحقًا. إنه ينفذ قوانين الحزب وأهداف الحزب، بينما هو يزدري ويتجاهل تعليمات بل تعاليم السماء. إنها الحزبية في أقبح صورها، وفي صنميتها المقيتة.
# صنم الكرسي
فإذا كانت العرب في الجاهلية تعبد اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وغيرها من الأصنام، فإن الجاهلية تلك كانت لا تضر ولا تنفع، لكن بعض مفاهيم الجاهلية اليوم قد اختارت أصنامًا أخرى إلى قائمة آلهتها المزعومة. إنه صنم الكرسي الذي أصبح مصدرًا للشقاء والضرر والغش والخديعة والاستغلال والاستعلاء.
لقد كانت حروبًا شرسة تندلع بسبب سب وشتم وهجاء وتطاول قبيلة على صنم قبيلة أخرى، أو لاعتدائها على قوافلها وتجارتها، وحتى على مراعيها أو سلب جمال وخيول وحمير لتلك القبيلة. ولأن عصبية الانتماء القبلي كانت على أشدها، فإنها حروبًا كانت تشتعل بسبب ذلك، وأن حرب داحس والغبراء كانت بسبب سباق بين فرسين وقد استمرت لأربعين سنة، لكن السبب ليس ذات الفرس داحس ولا الغبراء، ولكنه صنم العائلة والقبيلة الذي كان يرفض أن يعطي الدنية مهما كان الثمن.
إن الكرسي والمنصب والموقع أيًا كان قد أصبحت اليوم أصنامًا تعبد، لأجلها وإرضاء لها تكون المظالم والخصومات وقطيعة الرحم. لأجل صنم الكرسي تتخاصم عائلات وتتدابر، ولأجل كرسي العرش تدب الخصومات والدسائس بين أبناء العائلة المالكة الواحدة كما هو الحال في السعودية وغيرها، ولأجل كرسي الرئاسة ترتكب المذابح وتدمر المدن وتهجّر الشعوب كما هو في حالة مصر السيسي، وكما هو الحال مع بشار الدموي وما فعله بالشعب السوري.
# صنم الموضة
لقد وصل الأمر إلى حد أن يقوم كثير من الناس بمخالفة أوامر الله سبحانه والتمرد عليها والخروج عنها، بينما هم صاغرون لقوانين الموضة ينفذونها بحذافيرها ودون تأخير لأن عدم ذلك يعني التأخر والرجعية.
وإذا كانت كتب التاريخ تحدثنا عن الجاهلية القديمة أنه كان فيها آلهة الحب وآلهة المطر وآلهة الصيد وآلهة الفن وغير ذلك، فإن جاهلية زماننا قد اتخذت إلٰهًا وصنمًا جديدًا هو إلٰه وصنم الموضة.
إنها العبودية المطلقة لهذه الآلهة، قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: “تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة”. نعم إنها العبودية للمال والعبودية للثوب.
إن صنم الموضة لا بل إنها آلهة الموضة تطاع طاعة عمياء، حتى أن المعترض عليها كمن يعترض على أوامر الرب سبحانه، بينما هي تصدر أوامرها وفرماناتها من برلين ولندن وباريس وروما وواشنطن، وطبعًا من تل أبيب.
إنها آلهة الموضة تقرر شكل ثوب الصباح وتصميم ثوب المساء والسهرة. إنها آلهة الموضة تقرر لون الثياب هذا الصيف، ولون ثياب الربيع القادم. إنها آلهة الموضة تفرض تسريحة الشعر، وتفرض القبول والالتزام بالبنطال الجديد الممزق والمرقع، والويل كل الويل لمن يعتبر هذا هبلًا وتفاهة وطيشًا، إنها الموضة هكذا قررت الآلهة، وهكذا قال صنم الموضة فيجب أن يطاع فلا يعصى!!!
وحتى الحجاب الذي صدرت أوامر الإلتزام به من رب السماء، فإن البعض قد أخضعوه للموضة وآلهتها المزعومة، إنني لا أتحدث عن الأناقة والتصميم الجميل والمظهر اللائق لمن تلبس الجلباب وهذا محمود بل واجب، وإنما أتحدث عن صرخات مجنونة وشاذة، وأتحدث عن موضة غطاء الرأس مع بنطال الجينز، ويريدون أن يجعلوها دينًا ولباسًا شرعيا. ومع أن مواصفات الحجاب الشرعي وردت في كتاب الله تعالى الذي نزل من السماء، إلا أن البعض يريد إخضاعها ومواصفاتها لآلهة الموضة التي نزلت أوامرها من دور العرض والأزياء ومراكز الموضة. إنهم لا يترددون في مخالفة أوامر الله سبحانه وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، بينما هو الالتزام المطلق والطاعة العمياء لقوانين الموضة وتأثيرها.
# صنم الهوى
وإذا كان الله سبحانه قد أمرنا بطاعته والسير على طريقه {وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون} آية 153 سورة الأنعام، إلا أن هناك من يسعى لإضلالنا وحرف سيرنا عن الطريق المستقيم إلى الطرق الملتوية. إنه صنم الهوى الذي يتخذه البعض إلٰهًا يطاع ويستجاب له كما قال الله سبحانه {أفرايت من اتخذ إلٰهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة} آية 23 سورة الجاثية. نعم إن من الناس من يتخذ له إلٰهًا يطيعه ويلتزم حتى لهمساته وليس فقط لبواعثه ونداءاته. إنه صنم الهوى مع أنه سبحانه قد حذرنا من ذلك لما قال {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} آية 38 سورة ص. ومع أن الحكيم العاقل قد قال: “ومن اتبع الهوى فقد هوى”. نعم إنه السقوط لمن كان دليله هواه، ولمن كان مرشده هواه، بل ولمن كان إلٰهه وصنمه الذي يعبده هو هواه.
فكيف لعاقل أن يتبع ويطيع صنمًا كان ربه سبحانه الذي خلقه قد حذره منه وأمره بمخالفته بل ومعصيته، وأن الخير كل الخير في مخالفته لمّا قال {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} آية 40-41 سورة النازعات.
نعم إنها إذًا أصنامٌ كثيرة وآلهة مزعومة، من حيث ندري أو لا ندري، نعرف أو لا نريد أن نعرف أننا نطيعها ونلتزم أوامرها وننفذ توجيهاتها، وأنها هي مصدر الهامنا، بل نسعى لإرضائها والعمل وفق قوانينها وأنظمتها، بينما نحن نخالف قوانين وأحكام الخالق العظيم الله جل في علاه. فكيف لأمة محمد صلى الله عليه وسلم محطم الأصنام أن يعود أبناؤها لتعظيم أصنام جديدة؟!.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون



