معركة الوعي (261) القرار (2803)- استعمار بغطاء أمميّ
كيف الخروج من المشهد الحالي؟!
حامد اغبارية
1)
(2803) هو الرقم الخاص بقرار مجلس الأمن الدولي، الذي صدر هذا الأسبوع بخصوص قطاع غزة. رقمٌ جديد يضاف إلى سلسلة طويلة من أرقامٍ لقرارات صادرة عن الأمم المتحدة منذ 1947بخصوص قضية الصراع على فلسطين، يتجاوز عددها 140 قرارا، كلها، على الإطلاق، دون استثناء، صدرت لتصبّ في مصلحة المشروع الصهيوني، وكلها على الإطلاق، دون استثناء، لم تقدم شيئا يصبّ في صالح الشعب الفلسطيني.
ويستطيع أي باحث أكاديمي أو باحث عن الحقيقة مراجعة كل تلك القرارات، وقراءة سطورها وما بين سطورها وما خلف سطورها؛ منذ القرار رقم 181 المتعلق بتقسيم فلسطين عام 1947، ولغاية هذه اللحظة البائسة التي صدر فيها ذلك القرار الأخير.
إنه احتلال جديد، أو “انتداب” أممي جديد، ليس على غزة وحسب، بل على كل الأرض الفلسطينية، أو على ما تبقى منها من فتات أو قِطع متجاورات وغير متجاورات.
هو احتلال جديد بثوب أكثر قذارة من ذلك الذي عرفه شعبنا عام 1920، إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى، وفي أعقاب الانتهاء من أقذر مهمة استعمارية أفضت إلى إسقاط الخلافة الإسلامية، تمهيدا للتمكين للمشروع الصهيوني.
يومها كان ذلك الانتداب وتسليم قياد الأمة للاستعمار الأوروبي بقيادة بريطانيا وفرنسا بتآمر من زعامات عربية، قرأ الاستعمار أطماعها وضعفها وتقلباتها وشهوتها للسلطة وفساد طبائعها فأوقعها في حبائل وعوده الكاذبة، ثم مزقها شرّ ممزق، باتفاقية سايكس – بيكو، ونصّب على كل “مُزقة” اقتطعها من جسد الأمة الواحدة، دمية تؤدي وظيفة في خدمته وفي خدمة أطماع المشروع الصهيوني.
واليوم يأتي القرار (2803) خطوة أخرى نحو حلم “مملكة إسرائيل الكبرى” بغطاء أممي استعماري جديد تقوده الويلات المتحدة الأمريكية، وبتوقيع علني من أنظمة عربية وإسلامية!
2)
منذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها إدارة دونالد ترامب على خط الحرب التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، كان واضحا أنها تتأبط شرا ليس فقط للشعب الفلسطيني، وإنما للأمة كلها. فترامب رجل خلاصيّ متشدد، يؤمن إيمانا إنجيليا أنجليكانيا أنّه مبعوث من الرب لأداء دوره في بناء مملكة الرب في الشرق؛ تلك المملكة التي يسعى إليها المشروع الصهيوني، والتي نطق ببعض تفاصيلها بنيامين نتنياهو قبل فترة قصيرة، والتي منها سيحكمون العالم ويخلصونه من الأشرار؛ أعداء النور والخير والحرية، الذين هم نحن؛ المسلمين!
هكذا يجب أن تُفهم الأمور، لأنها هذه هي حقيقتها. ومن يقرأ التاريخ والواقع ويعالج أحداثه بفهم ووعي لن يجد غير ذلك.
ويجب ألا يُخدع عاقل فطِن ذو لبّ بتصريحات ترامب عن السلام، وعن احترامه لذلك الرئيس أو حبّه لذاك الزعيم، أو وعوده بتحويل غزة إلى جنة عدن تجري من تحتها الأنهار… بعد أن دمرها سلاحه الفتاك بأيد إسرائيلية. فهو أكذب من سُجاح.
وما هذه التصريحات التي ينثرها أمام الإعلام إلا حيّات سحرة فرعون يُرهبون بها موسى وهارون، ويسحرون بها أعين الجهلة والمضلَّلين.
3)
يمنح مجلس الأمن الدولي- الأمريكي صبغة قانونية دولية لخطة ترامب المتعلقة بقطاع غزة (وهي في حقيقتها متعلقة بالمنطقة كلها) للإشراف على إعادة إعمار القطاع. وهذا نوع من أنواع الدجل الذي يحمل في طياته شرا مستطيرا.
فمنذ متى أصبح إعمار ما تدمره الحروب يحتاج إلى قرارات أممية، ذات صبغة قانونية؟!! إنه بند يشكل مدخلا لما بعده من بنود، وبوابة تدخل منها عصابات الإجرام المافياوية الدولية إلى القطاع لبسط السيطرة وتنفيذ الأجندات.
إن الإعمار ليس بحاجة إلا لقرار واحد: اخرجوا من الأرض، واتركوا أهلها وشأنهم، وسيجد أهل غزة ما لا ينتهي من الوسائل لإعمار بلدهم في زمن قياسي، وسيجدون من شرفاء الأمة وشرفاء الإنسانية من يقدم لهم ما يحتاجونه، دون منّة، ودون شروط، ودون خطط، ودون احتلال، ودون “انتداب”، ودون استعمار، ودون مجرمي الحرب أمثال توني بلير.
لكنّها غزة التي لقنّت أشرار الكوكب ولصوص التاريخ والجغرافيا والرواية درسا سيظل يطاردهم ليس في الدنيا وحسب بل وفي الآخرة يوم يقوم الأشهاد، فكيف يتركونها هكذا دون عقاب؟!! لكنّهم، إن فعلوا، لا يعرفون إلى أين يذهبون، وإلى أي مآل سوف يصلون!!
4)
يتضمن ذلك القرار الاستعماري البائس حديثا عن أن إصلاح السلطة الفلسطينية (التي شكّلها الجنرال الأمريكيّ دايتون) والإعمار (قد) يهيئان الظروف نحو تقرير المصير والدولة الفلسطينية.
ويجدر هنا التنبّه إلى دقّة الصياغة! (قد)!! واستخدام (قد) يعني أنه (قد) لا يحدث. وهو بالتأكيد لن يحدث. فـ “تقرير المصير” و “الدولة الفلسطينية” كلمتان ثقيلتان على أذن المشروع الصهيوني، وهما أثقل على قلوب بعض الأنظمة العربية.
ثم ما هو الإصلاح المطلوب للسلطة الفلسطينية؟ فهؤلاء أنشأوا سلطة فاسدة منذ لحظتها الأولى. فهل يقصدون أنها لا بدّ أن تصبح أكثر فسادا وبطشا فيصلح حالها في خدمة الاحتلال فيرضون عنها؟! وإذا كانوا يتحدثون عن أن إعمار غزة يحتاج إلى 15 سنة على الأقل، فهذا يعني أننا سوف ننتظر خمس عشرة سنة لنرى إذا ما (قد) تهيأت تلك الظروف التي ستؤدي إلى دولة فلسطينية في بقعة أرض هي عبارة عن أشلاء مقطعة الأوصال لا يربط بينها شيء سوى حواجز الاحتلال!! وربما يحتاجون، بعد انتهاء فترة الإعمار، إلى عدد سنين لفحص صلاحية السلطة، وبضع سنين لمنحها فرصة “لإثبات جدارتها”… وهكذا يتواصل مسلسل الخداع الذي مضى عليه ثمانية عقود ويبدو أنه لن ينتهي….، وهذا غاية المراد، لأن الغرض هو ألا ينتهي…
5)
إن أخطر ما في القرار هو البنود التي تتحدث عن أن الدول المشاركة وما يطلقون عليه اسم “مجلس السلام”!! لهم سلطات دولية لإدارة الحكم الانتقالي (في غزة).
ثم عن انتشار ما يسمونه -كذبا- “قوة استقرار دولية” مؤقتة (حتى 2027) في القطاع تنسق مع القاهرة وتل أبيب، مع حق استخدام “ما يلزم” لتنفيذ مهامها!! أما مهامها فهي تجريد غزة من السلاح وحماية المدنيين وتدريب الشرطة الفلسطينية.
على الرغم من أنه لم تُعرف، بعدُ، الدول التي ستشارك في تلك القوات “لإدارة الحكم الانتقالي” في غزة، إلا أن هذه المشاركة مع أكذوبة “مجلس السلام” تعني شيئا واحدا: احتلال جديد واستعمار جديد بغطاء أممي. وأظنها أول مرة في التاريخ المعاصر يُتخذ فيها قرار في أروقة الأمم المتحدة بمنح “تأشيرة قانونية دولية” لاستعمار بلد!
إن القرار يتعامل مع غزة على أنها هي المشكلة، وأنها هي المذنبة التي تجب معاقبتها بهذا الأسلوب “الناعم” الخبيث! وإلا فلماذا تنتشر هذه القوات داخل غزة وليس في مستوطنات غلاف غزة، أو على الخط الفاصل بين غزة وبين الغلاف؟!!
إذا كانت غزة هي التي تعرضت، طوال سنتين، للعدوان وحرب الإبادة والتدمير، بعد سبع عشرة سنة من الحصار الاحتلالي القاتل، فإن المنطق السليم يقتضي أن أية قوة دولية تريد تحقيق الاستقرار فعلا يجب أن تنتشر في المكان الذي يمكّنها من الحيلولة دون تكرار العدوان على الضحية.
وهذا المكان معروف للجميع؛ اسمه “غلاف غزة” الواقع خلف الجدار الفاصل من الجهة الشمالية- الشرقية!! لكننا أمام “مجتمع دولي”، تتحكم به قوى الاستكبار الاستعمارية، ليست له سوى مهمة واحدة في هذا السياق، وهي الحفاظ على المؤسسة الإسرائيلية بأي ثمن وبكل وسيلة.
هكذا فعلوا في لبنان عام 1978 عندما قررت الأمم المتحدة إرسال قوات اليونيفيل إلى جنوب لبنان بحجة “حفظ السلام”!! فلماذا تتمركز تلك القوات في الجهة المعتدى عليها وليس في الجهة المعتدية؟ أو على الأقل: لماذا لم توزع تلك القوات بين الطرفين؟ الجواب: أوطاننا ساحة مستباحة، وأصبحت أكثر استباحة عندما تسلطت عليها أنظمة قبلت بهذا الذل!
إنّ المسألة ليست تحقيق استقرار ولا إدارة حكم انتقالي، وإنما هي تحقيق ما فشلت فيه حكومة نتنياهو طوال سنتين من تلك الحرب المجنونة، والتي ما تزال مستمرة حتى هذه اللحظة! لذلك منح القرار الأممي تلك القوة حق استخدام “ما يلزم” لتنفيذ مهامها!! فما هو الذي “يلزم” إنْ لم يكن استخدام القوة العسكرية ضد أهل قطاع غزة؟!
6)
ثم يأتي الحديث عن نزع سلاح المقاومة الفلسطينية وحماية المدنيين وتدريب الشرطة الفلسطينية.
أما نزع السلاح فهو غاية ما يريده نتنياهو وترامب ومعهما أوروبا وأنظمة العار العربية؛ خاصة مصر والأردن والإمارات والسعودية وسائر الحجارة على رقعة الشطرنج الأمريكية- الإسرائيلية.
فهل سيتحقق ذلك؟! هل سينجحون في نزع سلاح الفصائل الفلسطينية في القطاع؟! هناك طريقتان لنزع السلاح، لا ثالث لهما: إما أن تقرر الفصائل ذلك بنفسها وبإرادتها، وهذا ما تؤكد الفصائل أنه يستحيل أن يحدث، وإما بقوة السلاح، التي فشلت طوال سنتين بمدد أمريكي مباشر. لذلك لا أرى هذا يتحقق. وهم يعلمون ذلك، وأكثر من يعرفه هو نتنياهو. وحتى لو نجحت خطة نزع السلاح في لبنان فإنها لن تنجح في غزة.
ولهذا سوف يجد نتنياهو نفسه أمام خيارين: إما النكوص والانكماش والتراجع والقبول بالواقع، وإما مواصلة حربه على غزة، وهو ما أعتقد بحدوثه. فمنذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها نتنياهو أن من أهداف حربه نزع سلاح المقاومة، كان نتنياهو يعلم يقينا أن هذا الهدف لن يتحقق أيا كان الثمن وأيا كانت النتائج.
ويحق أن نسأل: إنهم يتحدثون عن “حماية المدنيين”. فممّن سوف يحمون المدنيين؟ ومن هم المدنيون الذين يتحدثون عنهم؟
وهل سيكون “تدريب الشرطة الفلسطينية” على ذات الطريقة التي “درّبوا فيها” شرطة سلطة دايتون؟!
7)
يبدو بوضوح أن خطة ترامب هذه هي وسيلته لتحقيق هدفين: سيطرة أمريكية مباشرة على غزة يحقق من خلالها وهمَ تحويل غزة إلى مشروع استثماري سياحي. وتحقيق الأمن التام لتل -أبيب. ولا أرى هذا يتحقق.
8)
فكيف الخروج من المشهد الحالي؟
لا أملك جوابا على هذا السؤال، لكنني أؤمن إيمانا عميقا، لا يداخله شك، أن المسألة لن تنتهي عند هذا الحد، ولن تتوقف عند أحلام ترامب ونتنياهو وأنظمة العار و “المجتمع الدولي”. وسوف تأتي- فيما يبدو لي- لحظات مدهشة تقلب الموازين وتجعل كل هؤلاء يقفون فاغري الأفواه، لا يصدقون ما ترى عيونُهم وتسمع آذانُهم!!



