أخبار رئيسيةأخبار وتقاريرعرب ودولي

الانتخابات المحلية في الدنمارك… غزة تحضر في صناديق الاقتراع

تتجه الدنمارك، يوم غد الثلاثاء، نحو واحد من أهم استحقاقاتها السياسية المحلية: انتخابات 98 مجلساً بلدياً و5 مجالس إقليمية. ورغم أنها تبدو ذات طابع محلي، فإنها تشكّل اختباراً فعلياً لشعبية الأحزاب قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة، وتحدّد شكل الخدمات العامة التي يعتمد عليها ملايين الدنماركيين يومياً.

وفي مشهد غير مألوف، خرجت هذه الدورة عن إطارها التقليدي، بعد أن فرضت الحرب في غزة نفسها بقوة على السجالات السياسية، لتتحول إلى جزء من النقاش الانتخابي داخل عدد من المدن الكبرى.

للانتخابات المحلية في الدنمارك مكانة خاصة، لأنها تتعلق مباشرة بحياة الناس اليومية. فالبلديات والمناطق تدير المدارس، ورعاية المسنين، والخدمات الصحية، والنقل العام، والتخطيط العمراني، والسياسات البيئية. ولهذا لا تُعدّ المشاركة فيها مجرد ممارسة شكلية، بل وسيلة لتحديد نوعية الخدمات التي يحصل عليها المواطنون خلال السنوات المقبلة.

وعادة ما تتجاوز نسبة المشاركة 70%، وهو رقم مرتفع أوروبياً، بما يعكس ثقة السكان في قدرة المجالس المحلية على صنع فارق ملموس.

أبرز اللاعبين السياسيين
يدخل الحزب الديمقراطي الاجتماعي السباق بصفته القوة الأكثر رسوخاً في الحكم المحلي، وقد حافظ لعقود على رئاسة بلدية العاصمة كوبنهاغن. وعلى الرغم من التراجع النسبي في الانتخابات الوطنية الأخيرة، فإن إرثه المحلي يمنحه قاعدة صلبة للبناء عليها.

في المقابل، يحاول حزب Venstre الليبرالي تعويض الهزيمة الكبيرة التي مُني بها في انتخابات 2021، معتمداً على نفوذه التقليدي في المناطق الريفية. أما المحافظون، فيأتون بثقة أعلى بعد التحسن الملحوظ في الدورة السابقة، خاصة في البلديات الثرية المحيطة بالعاصمة.

ويتطلع اليمين القومي، ممثلاً بحزب الشعب الدنماركي وحزب اليمين الجديد، إلى استعادة بعض ما فقده، معتمداً على تصاعد النقاش حول الهجرة والاندماج. كما تحقق أحزاب اليسار، مثل الشعب الاشتراكي واللائحة الموحدة، تقدماً واضحاً في المدن الكبرى، مستفيدة من قضايا المناخ والسكن واهتمام الشباب بالبيئة.

ويخوض حزب المعتدلين بقيادة رئيس الوزراء الأسبق لارس لوكا راسموسن، أول تجربة محلية كبرى له، ما يجعله عنصراً غير متوقع في عدد من البلديات.

القضايا الحاسمة في توجيه الناخبين
تتقدّم القضايا الصحية المشهد، باعتبارها محوراً أساسياً لانتخابات المناطق، في ظل نقص الممرضين وقوائم الانتظار الطويلة والجدل حول “مستشفيات السوبر”. وفي ملف رعاية المسنين، تواجه البلديات ضغوطاً متزايدة نتيجة الارتفاع المستمر في أعداد كبار السن، وتراجع القوى العاملة، إلى جانب سلسلة فضائح أثرت بالثقة العامة. كما يعود ملف الهجرة والاندماج إلى الواجهة، مع تشديد اليمين على ضرورة “استعادة النظام”، بينما تتحدث أحزاب اليسار عن سياسات أكثر شمولية، خصوصاً في البلديات ذات الكثافة المهاجرة.

وتبرز أزمة الإسكان في المدن الكبرى، خاصة كوبنهاغن، حيث ترتفع الإيجارات وتقل المساكن الميسّرة. وفي الوقت ذاته، يحتل المناخ والتنقل الأخضر مكانة بارزة لدى الناخبين الشباب، بينما يعترض بعض السكان على الإجراءات التي تحدّ من السيارات داخل المدن.

الاستطلاعات: من يتقدّم؟
تشير استطلاعات الثقة السياسية إلى بقاء الديمقراطيين الاجتماعيين في طليعة الأحزاب بنسبة تتراوح بين 20 و24%، مما يمنحهم أفضلية في معظم البلديات. ويتنافس الليبراليون والمحافظون في ضواحي العاصمة والريف، بينما يعزّز حزب الشعب الاشتراكي واللائحة الموحدة حضورهما في المدن الكبرى. وتبرز كوبنهاغن بوصفها أكثر ساحات التنافس سخونة، إذ قد يشهد منصب العمدة تحولاً تاريخياً إذا خسره الديمقراطيون الاجتماعيون لأول مرة منذ 1938.

غزة في صناديق الاقتراع… جدل غير مسبوق
على غير المعتاد، فرضت الحرب على غزة نفسها قضية مؤثرة في انتخابات البلديات في الدنمارك. فقد بدأت بعض البلديات بإصدار بيانات تضامن أو الدعوة لوقف إطلاق النار، استجابة لضغوط من ممثلي اليسار والسكان، وأثار ذلك اعتراضاً شديداً من أحزاب اليمين والصحافة المؤيدة لها، التي رأت في الخطوات تجاوزاً للصلاحيات، ودخولاً غير مبرر في السياسة الخارجية. واعتبر سياسيون يمينيون أن هذه المواقف قد تكون محاولة لاستمالة أصوات المهاجرين، خاصة أن المقيمين الدائمين يحق لهم التصويت محلياً. وهكذا، تحولت غزة إلى محور نقاش كشف عن انقسام بين من يرى أن البلديات يجب أن تعكس قيم السكان، وبين من يصرّ على حصر دورها في الخدمات.

اليسار واليمين… رؤيتان متصادمتان
يؤكد اليسار، خاصة الشعب الاشتراكي واللائحة الموحدة، أن من حق البلديات التعبير عن مواقف أخلاقية تتعلق بالحرب، وأن الصمت تجاه المأساة الإنسانية في غزة يتعارض مع القيم الدنماركية. أما اليمين، فيرى أن إدخال غزة في الحملات الانتخابية يشوّش على القضايا الأساسية كالصحة والتعليم، ويخلق انقساماً غير ضروري داخل المجتمع. ويريد البعض ممن يربط تصويته بالموقف من غزة وفلسطين، تبني المجالس البلدية والأقاليم دعماً لفرض مقاطعة الاحتلال ودعم الفلسطينيين في غزة، أقله على المستوى الإنساني الإغاثي.

تأثير مباشر في المدن الكبرى
وتبدو المدن الكبرى الأكثر تأثراً بالجدل؛ ففي أحياء كوبنهاغن ذات الكثافة السكانية من الأصول العربية والمسلمة، يعتقد مرشحون أن مواقفهم من غزة قد تؤثر في نتائجهم. ويتكرر المشهد في آرهوس، حيث خرجت تظاهرات دعماً لغزة، وضغط السكان على المرشحين لتوضيح مواقفهم. هذا المشهد ولّد استقطاباً بين الشباب المطالبين بمواقف واضحة، وكبار السن الذين يشعرون بأن النقاش ابتعد عن قضاياهم اليومية.

السياسة المحلية تتغيّر
تكشف انتخابات هذا العام أن السياسة المحلية في الدنمارك لم تعد محلية تماماً، فقد أصبحت القضايا الدولية جزءاً من الحملات، في تحول قد يغيّر شكل السياسة لسنوات مقبلة. وما ستفرزه صناديق الاقتراع لن يحدد فقط رؤساء البلديات ومجالس المناطق، بل سيكشف الاتجاه الذي يتحرك نحوه المجتمع الدنماركي بين أولويات الخدمات وقضايا الهوية، وبين المحلي والوطني والعالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى