أخبار وتقاريردين ودنيامقالات

الجد والجدة.. الرقم الصعب في زمن الشاشات

 

ليلى غليون

في عالم يزداد برودة في الإنسانية والمشاعر كل يوم، وفي زمن تتباعد فيه المسافات بين القلوب، بين الأشخاص.

في زمن طغت فيه الشاشات على معظم تفاصيل حياتنا اليومية، وأصبحت صديقًا لا يفارق أيدينا ولا حضورنا، فحولت علاقاتنا الإنسانية إلى رموز وإشعارات، وسرقت منا أبسط أشكال التواصل الإنساني، النظرة، اللمسة، الحكاية، يبقى الأجداد نبض الأصالة وذاكرة الزمان والرقم الصعب في هذه المعادلة الذي لا يمكن تجاوزه، فهم الرباط الحي الذي يربط جذور الماضي بالحاضر، ويحمل في طياته الدفء الإنساني الحقيقي الذي لا يمكن لأي شاشة أن تمنحه، يقدمون نموذجًا للحب الحقيقي، وحنانًا لا ينتظرون عليه مقابل، يترجمون بأفعالهم قبل أقوالهم معنى الصبر وكيف يكون العطاء نمط حياة. كيف لا وهم عبق الماضي الذي يحفظ الأصالة وسط ضجيج هذه الحداثة.

هناك، وما أدراك ما هناك، حيث بدأت الحكاية… في كل بيت قديم كنت تجد رائحة لا تشبهها رائحة، رائحة هي مزيج من القهوة والذكريات والحكايات، مزيج من الحنين والطمأنينة، مزيج من الطيبة والهدوء النفسي، من أصوات هادئة كانت تملأ المكان حكمة وحبًا وسكينة، هناك في تلك الزاوية التي يجلس فيها الجد، أو عند النافذة التي اعتادت الجدة أن تجلس قربها وتراقب منها المارة، فمن هناك بدأت حكاية الأسرة الحقيقية، حكاية الجذور التي أنبتتنا، والتي نكاد وسط هذا الصخب وهذه الفوضى ننسى فصولها.

كانوا نبع الحنان الذي لا ينضب، وسفينة الذكريات التي تبحر في ماضي العائلة، يحملون في تجاعيد وجوههم قصص وحكايات العمر كله، فالبيت لم يكن ليكتمل بدونهما، فحيث يجلس الجد تجلس الطمأنينة وحيث تبتسم الجدة تبتسم القلوب وتتفتح كتفتح أزهار الربيع.

وحين تنظر إلى تلك التجاعيد التي رسمتها الأيام والسنون بريشة العطاء والتضحية على وجوههم، تجد وكأنها خرائط خبرة وتجارب، بل مدرسة تعلم من أراد أن يفهم كيف يكون الصبر، أو يدرك قيمة الحياة التي لا تقاس بالمال ولا بالمظاهر والشكليات ولا بالمقتنيات ولا بالتنافس على الدنيا وزخارفها كما هو حاصل اليوم، بل تقاس بالرضا واليقين والبساطة والطيبة وهداة البال والهدوء وكل المفردات الجميلة التي يضمها القاموس بين دفتيه.

تنظر إليهم لتجد كتابًا من التاريخ مفتوحًا أمام ناظريك، تقلب صفحاته بلهفة وتشد انتباهك سطوره وما نقش عليها، لتدرك حينها الهوة بين أين كانوا وأين صرنا، كيف كان الإنسان قادرًا أن يعيش بقليل من الأشياء وكثير من الرضا، كيف كان يحب رغم التعب، كيف كان يسامح رغم الألم والأذى، كيف كان يعطي ويمنح رغم ندرة الأشياء، كيف كانت “الحمد لله” تنطلق من خفقان قلبه بالرضا قبل أن ينطقها لسانه، وحين تسمع لأصواتهم تستنشق عبير الحنان في عباراتهم وحتى في صمتهم تتجلى السكينة والوقار بأبهى الحلل، وحين تجلس بقربهم تكتشف أن الحكمة ليست في الكتب بل في التجارب التي نقشتها الأيام على قلوبهم.

ففي كل تجعيدة على وجوههم تختبئ فصول من حكايات هي أجمل من أي رواية ممكن أن نسمعها، حكايات حين نقرؤها أو نصغي إليها نشعر أننا نصغي إلى نبض قديم يعيد ترتيب الفوضى في دواخلنا، وفي كل نظرة من عيونهم يشع وميض دعاء يمنحنا دفء الاطمئنان والأمن والأمان والحضور الحقيقي الذي نكاد نفقده في زمن الشاشات، تلك الطمأنينة التي لا تطلب شكرًا، وذاك الحضور الذي لا يمل منا ولا يحاسبنا مهما فعلنا ومهما أخطأنا، ولا يطلب منا نقرة “لايكات” ولا اشتراكات ولا تفعيل جرس، بل يظل يربت بيد حنون على أكتافنا ويمسح على رؤوسنا ويطربنا بإيقاع حنون لضحكات حقيقية لا افتراضية ولا رموز تعبيرية، تجعل من قلوبنا أطيارًا تحلق في فضاءات فرح لا يشبهه فرح.

فهم امتداد لسلسلة من الحب والعطاء، من الصبر والمكابدة، من التجارب التي نضجت عبر الأيام والسنين حتى أصبحت حكمة وشمعة لا تنطفئ ترشد من ضل الطريق، فهم الجذور التي لا تُرى، ولكنها التي تُبقي الشجرة منتصبة صامدة في وجه الرياح.

إنهم لا يعرفون لغة التكنولوجيا، ولكنهم يعرفون لغة الإنسان عندما كان أقرب إلى روحه وإنسانيته، وأصدق في مشاعره، وأهنأ وأبسط في عيشه.

واليوم تغيرت الصورة وتبدل المشهد، تسارعت الخطى وضاقت الأوقات وامتلأت البيوت بالأجهزة الذكية والتقنيات، بل أحيانًا تجد الفرد يمتلك أكثر من جهاز، ونظرة عابرة إلى مجالسنا نرى غياب الأجداد عنها أو يكاد، لتغيب بغيابهم تلك الروح الدافئة الطيبة التي كان دفؤها يسري في جسد الأسرة بأكملها.

فلم يعد الجد محور الأسرة ولا الجدة ملاذها الدافئ، فالعزلة الصامتة أصبحت تلف الكثير منهم وتباعد بينهم وبين أحفادهم، تراهم من بعيد يراقبون أحفادًا منشغلين بالشاشات لا يجدون وقتًا لحديث بسيط معهم أو قصة تروى لهم على مهل، وحتى لو تواجد الأحفاد معهم، فحضورهم كغيابهم، فهم منصرفون عنهم إلى عوالمهم حاضرون بأجسادهم وغائبون بقلوبهم وعقولهم، يتراكضون نحو الضوء الأزرق البارد للشاشات، تائهون في ضجيجه، غارقون بعوالمهم الافتراضية، بالصور المتحركة والمقاطع السريعة التي ليس لها عد ولا حد، يبحثون في كل لحظة عن جديد، تراهم قد يحتفظون بصور أجدادهم في هواتفهم، ولكنهم منشغلون عنهم، بل وربما قد تناسوا وجودهم، وتناسوا أن هؤلاء الأجداد هم الدفء الحقيقي في هذا الجليد.

لقد تقدمت التكنولوجيا خطوة، ولكن للأسف تراجعت قيمنا خطوات، قربت المسافات جغرافيًا، إلا أنها وسعت الفجوة العاطفية بين الأجيال، ومع كل خطوة نبتعد فيها عنهم نفقد شيئًا من توازننا الداخلي كعائلة وأفراد ونفقد شيئًا من جذورنا، ومهما بلغت سطوة الشاشات يبقى الجد والجدة الصورة الأكثر نقاء في الحياة، ومهما تغير الزمن فلا شيء يعوض حضن الجدة أو نظرة الجد، فهم الرقم الصعب حقًا في عصر يزداد فيه كل شيء رقمًا افتراضيًا ولكن بلا روح.

وللأحفاد أقول: اجعلوهم في الذاكرة ولا تتركوهم على هوامشكم، فهم الصفحة الأولى في كتاب العائلة ومرآتها، خصصوا أوقاتًا خاصة للأجداد بدون شاشات، بدون أجهزة، خبئوها بحضورهم، وأعيدوا رونق الزيارة معهم، فاللحظات معهم تساوي سنوات من السعادة التي لن تجدوها لا في الشاشات ولا في أي مكان آخر.

اجلسوا معهم ولتتواصل عيونكم مع عيونهم، تسامروا معهم، حدثوهم عن عالمكم، اسألوهم عن عالمهم، عن أيام زمان، كيف كان السمر، كيف كان العرس، عن أيام الشتاء والموقد الذي يجتمعون حوله، عن أيام رمضان والمسحراتي.

أعيدوا طقوس الحكاية معهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى