ثبتني على هذا الدين (1)

مارية محاجنة
يقول الشيخ محمد أحمد الراشد في كتابه نحو المعالي: “في أَوَّلِ شَبابي، يومَ كُنتُ صَغيرًا بَعدُ في عِدادِ ناشِئةِ المَساجِدِ، وفي وَقتٍ مُبكّرٍ قَبلَ أَربَعينَ سَنَةً: فَطَمتْني عنِ اللهوِ تِلكَ الهَزَّةُ النَّفْسِيَّةُ الّتي سادَتِ الأُمَّةَ عَقبَ ضَياعِ فِلسطينَ، وَاسْتَبَدَّتْ بي عَزائِمُ الجِدِّ الَّتي كانَتْ تَتَصاعَدُ كُلَّما قَرَأتُ رِسالةً من رَسائلِ فِكرِ الدَّعوةِ الإسلاميَّةِ، فَلمْ أَتَرَدَّدْ في الاسْتِجابةِ لأَوَّلِ داعٍ يَدْعوني إلى “الدَّارِ”، دارِ الدَّعوةِ، فَوَلَجْتُ مَدْخَلَ الصِّدْقِ بَعدَ صَلاةِ المَغْرِبِ، فَإِذا شاعِرُ الدَّعوةِ الإسلاميَّةِ الأُسْتاذُ وَلِيدُ الأَعْظَمي يَتَوَسَّطُ شَبابًا يَقرُبونَ من عِشرينَ، يَتَدارَسونَ معه فَصْلًا من “التَّرغيبِ والتَّرهيبِ” لِلحافِظِ المُنْذِريِّ. فَالْتَقَتْ نَظْرَتي بِنَظْرَتِه بُرْهَةً بَعدَ السَّلامِ، ثُمَّ قالَ: “تَفَضَّلْ وَاجلِسْ”، فَكانَ أَوَّلَ أُسْتاذٍ لي. ومنذُ ذَلكَ اليومِ القَديمِ، كانَ يَعِظُني ويَعِظُ شَبابَ جِيلي، فَيَقِفُ وِقْفاتِهِ المُبارَكَةَ في الجُمُوعِ الحاشِدةِ في حَفَلاتِ المَساجِدِ وغَيرِها، فيَزْمَجِرُ تارةً، ويَرْفُقُ في أُخرى، ويَتَلَطَّفُ، يَتَنَقَّلُ بَينَ مَعاني الخَيْرِ، ويَغْرِسُ غَرْسَهُ في القُلوبِ، كَأَن يَقولَ: كُنْ رابِطَ الجَأشِ وَارْفَعْ رايَةَ الأَمَلِ وَسِرْ إِلى اللهِ في جِدٍّ بِلا هَزَلِ وَإِنْ شَعَرْتَ بِنَقْصٍ فيكَ تَعْرِفُهُ، فَغَذِّ روحَكَ بِالقُرآنِ وَاكْتَمِلِ وَحارِبِ النَّفْسَ وَامْنَعْها غَوايَتَها فَالنَّفْسُ تَهْوَى الَّذي يَدْعُو إِلى الزَّلَلِ.
اذن: فالإيمان أولا، التزكية أولا، الفهم أولا، التدبر أولا، استشعار المعاني أولا، ىالتماهي والانصهار مع النظريات والمعتقدات أولا، وعدم الاكتفاء بالتنظير، فإن الايمان يزيد وينقص ولا يزيد الا بالأعمال الصالحة والمدارسة الرقراقة ورسوخ العلم وثبات الجنان.
وفي هذا يقول سيد قطب رحمه الله: “إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تڪاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال فلا يكفي أن يقول الناس آمنا وهم لا يترڪون لهذه الدعوى، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم”.
وفي موضع ظلال قول الله:{يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ}.
يقول سيد رحمه الله: “وفي ظل الشجرة الثابتة، التي يشارك التعبير في تصوير معنى الثبات وجوه، فيرسمها: أصلها ثابت مستقر في الأرض، وفرعها سامق ذاهب في الفضاء على مد البصر، قائم أمام العين يوحي بالقوة والثبات.
متابعا قوله: “في ظل الشجرة الثابتة مثلا للكلمة الطيبة: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة). وفي ظل الشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض ما لها من قرار ولا ثبات: (ويضل الله الظالمين). فتتناسق ظلال التعبير وظلال المعاني كلها في السياق”!
يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة بكلمة الإيمان المستقرة في الضمائر، الثابتة في الفطر، المثمرة بالعمل الصالح المتجدد الباقي في الحياة. ويثبتهم بكلمات القرآن وكلمات الرسول؛ وبوعده الحق بالنصر في الدنيا، والفوز في الآخرة.
وكلها كلمات ثابتة صادقة حقة، لا تتخلف ولا تتفرق بها السبل، ولا يمس أصحابها قلق ولا حيرة ولا اضطراب.
ويُضل الله الظالمين بظلمهم وشركهم (والظلم يكثر استعماله في السياق القرآني بمعنى الشرك ويغلب) وبعدهم عن النور الهادي، واضطرابهم في تيه الظلمات والأوهام والخرافات واتباعهم مناهج وشرائع من الهوى لا من اختيار الله. يضلهم وفق سنته التي تنتهي بمن يظلم ويعمى عن النور ويخضع للهوى إلى الضلال والتيه والشرود.
(ويفعل الله ما يشاء): بإرادته المطلقة، وما تقتضيه حكمته عز وجل. وبهذه الخاتمة يتم التعقيب على القصة الكبرى للرسالات والدعوات. وقد استغرقت الشطر الأول والأكبر من السورة المسماة باسم إبراهيم أبي الأنبياء، والشجرة الظليلة الوارفة المثمرة خير الثمرات، والكلمة الطيبة المتجددة في الأجيال المتعاقبة، تحتوي دائما على الحقيقة الكبرى. حقيقة الرسالة الواحدة التي لا تتبدل، وحقيقة الدعوة الواحدة التي لا تتغير، وحقيقة التوحيد لله الواحد القهار. فيلهج قلب المؤمن بالدعاء: رَبَّنَا لَاتُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أنتَ ٱلْوَهَّابُ.
ويُعقب السيد بفتوحات الله له في ظلاله: “والقلبُ المؤمنُ يُدركُ قيمة الاهتداءِ بعدَ الضلالِ. قيمةَ الرؤيةِ الواضحةِ بعدَ الغبشِ.
قيمةَ الاستقامةِ على الدربِ بعدَ الحيرةِ. قيمةَ الطمأنينةِ للحقِ بعدَ الأرجحةِ.
قيمةَ التحررِ منَ العبوديةِ للعبيدِ بالعبوديةِ لله وحده. قيمةُ الاهتماماتِ الرفيعةِ الكبيرةِ بعدَ اللهوِ بالاهتماماتِ الصغيرَةِ الحقيرةِ.
ويُدركُ أنَّ اللهَ مَنحَه بالإيمانِ كلَّ هذا الزادِ، ومن ثُم يُشفقُ منَ العودةِ إلى الضلالِ، كما يُشفقُ السائرُ في الدربِ المُستقيمِ المُنيرِ أن يعودَ إلى التخبُطِ في المُنعرجاتِ المُظلمةِ. وكما يُشفقُ من ذاقَ نَداوةَ الظلالِ أن يعودَ إلى الهجيرِ القائظِ والشواظِ!”.



