ولذلك صار بإمكان إسرائيل أن تنتهك سيادة دولتي قطر وتونس…

توفيق محمد
جاء في كتاب “العروبة إلى أين؟! أمة بلا قيادة” لمؤلفه د. محمد علي عمر الفرا تحت عنوان “تفكيك بنية الثقافة العربية والإسلامية وتدميرها” ما يلي: “في شهر تشرين عام 2005 بثت وكالات الأنباء خبرا مفاده أن واشنطن تقوم بتمويل وسائل إعلام عربية للترويج لإسلام غير معاد لسياستها، وذلك ضمن برنامج استخباري تعدت ميزانيته مليار دولار، وهدفه استقطاب من أسمتهم الإدارة الأمريكية بالمسلمين المعتدلين، وقد أكدت مصادر مطلعة وجود دبلوماسية أمريكية لتشجيع حوار مع هؤلاء الإسلاميين المعتدلين، بغية محاصرة ما تصفه بالإسلام الراديكالي الذي تعتبره المغذي الرئيسي للأفكار المعادية للولايات المتحدة في العالم الإسلامي بشكل عام وفي البلاد العربية بشكل خاص”.
وجاء في الكتاب أيضا تحت نفس العنوان: “من الملفت أن هذه الاستراتيجية الأمريكية الجديدة -ومن يطلقون على أنفسهم باللبراليين الجدد- يعملون على تقسيم الإسلام والمسلمين الى أقسام لم يعرفها الإسلام من قبل منها على سبيل المثال: الإسلام السياسي، والإسلام الراديكالي، والإسلام المعتدل، كما يقسمون الإسلام بحسب الأقطار والقارات فيقولون -على سبيل المثال- الإسلام الأمريكي والإسلام الأوروبي، وجميع هذه التسميات لا يقرها الإسلام ولا يعترف بها، ذلك أن هناك إسلاما واحدا يشمل جميع أوجه الحياة ومظاهرها من اجتماعية واقتصادية وسياسية، والإسلام لا يفرق بين الدين والدنيا كما تفرق بعض الأديان الأخرى..”.
ويخلص الكاتب د. محمد علي عمر الفرا إلى اقتباس ما كتبه الدكتور محمد عبده قاسم أستاذ التاريخ في جامعة الزقازيق المصرية في كتاب صدر له عن دار الهلال في عام 2005 أنَّ الإسرائيليين مهتمون الآن بدراسة فترة الحروب الصليبية (1096 – 1291) للتعرف على أسباب فشل الحملات الصليبية رغم الانتصارات التي حققها الصليبيون على العرب والمسلمين في عدد من المعارك ونجاحهم في إقامة عدد من الممالك والإمارات في كل من بيت المقدس وانطاكية والرها والكرك وغيرها…”.
وخلُص إلى ما يلي: “لو تمكن الصليبيون من تحطيم البنية الثقافية للأمة العربية والإسلامية لما كانت هناك حمية أو نخوة تدفع العرب والمسلمين لصد الغزو الصليبي، ولما كان هناك هدف يوحدهم ويجمع صفوفهم ويسعون إلى تحقيقه، لا شك في أن العقيدة تعد الركيزة الأساسية في البنية الثقافية، فهي بمثابة الروح في الجسد، والقوة الدافعة والمحركة في الأمة التي تدفعها للذود عن حياضها، وهذا يفسر لنا عزم الأعداء حاليا على تحطيم أو تفكيك بنيتنا الثقافية بإضعاف تاريخنا وعقيدتنا وتراثنا ولغتنا بوسائل عدة منها التلاعب في المناهج والمقررات الدراسية بالشطب والحذف والإلغاء لنصوص ومواضيع …”.
لا شك أن الغرب الصليبي بعد إذ انكسرت حملاته الصليبية على الشرق الإسلامي، وهُزمت جيوشه أمام جيش صلاح الدين الأيوبي الكردي الذي حرر الشام والقدس من أيدي الصليبيين كقائد إسلامي -وهو لو كان حيا بيننا اليوم لأطلقوا عليه مصطلحات إسلاموي ومتطرف وإرهابي- لم يرفع الراية البيضاء وإنما تحول الى معركة من نوع آخر يركز فيها على الوعي والإدراك والمفاهيم بعد أن تيقن أنه لا يمكن دوام الانتصار على المسلمين عسكريا ما دام الإسلام عقيدة وشريعة وخلقا يعتمر صدور الأمة، فعمد هذا الغرب بعد هزيمته أمام جيوش صلاح الدين إلى دراسة المسلمين دينا، ودراسة اللغة العربية لغة العصر حينها من أجل ان يتعرفوا على الإسلام من داخله، ويتعرفوا على أسباب عودة المسلمين إلى الانتصار بعد كل هزيمة، ويتعرفوا على مواضع القوة الكامنة والدافعة للمسلمين للنهوض بعد كل كبوة، وذلك من أجل أن يهاجموه من داخله، وقد وصلوا إلى النتيجة التي تقول إنّ عنصر القوة الأساس لدى المسلمين هو هذا الإسلام بكل ما يحمل من معانٍ عقيدة وشريعة ومنهج حياة، فعمدوا إلى ما وصفه الكاتب أعلاه: “تحطيم البنية الثقافية للأمة العربية والإسلامية”، وإلى تحطيم “العقيدة” التي “تعد الركيزة الأساسية في البنية الثقافية، فهي بمثابة الروح في الجسد، والقوة الدافعة والمحركة في الأمة التي تدفعها للذود عن حياضها”.
ولذك لا غرو لما نراه اليوم من انسلاخ مخزٍ لأبناء العروبة، ناهيك عن الأمة الإسلامية عمّا يحدث لإخوانهم في العروبة والإسلام في غزة، حيث يموت الناس قتلا وجوعا، وتدمر كل مظاهر الحياة، وتهدم البنايات والأبراج السكنية، ويتباهى أتباع ابن غفير وسموتريش بالتطهير العرقي الذي تنفذه حكومتهم هناك لاحتلال قطاع غزة وإحلال المستوطنين مكان أهله، فأنت عندما ترى الأفراح تقام لأكثر من أسبوع، وفي كل ليلة أغانٍ وطرب وتشريفات وغير ذلك فيما القذائف تتساقط ليس بعيدا عنهم على أبناء شعبهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وعندما ترى الكميات الهائلة من الطعام التي تلقى في القمامة فيما أبناء شعبهم من المجوَّعين في غزة يتساقطون على الأرض جوعا، وعندما ترى أبناء قومهم من العروبة وإخوانهم من الأمة المسلمة من الأنظمة العربية وشعوبها غير مبالية بما يحدث، تدرك عندها عمق الهوة التي حفرها أعداء الإسلام بين الأمة المسلمة وبين دينها، فما عادت الدافعية التي تحدث عنها الكاتب أعلاه تحرك في هؤلاء ساكنا لأن شيئا في القلوب قد مات، مات يوم أن أُقصيت الخلافة الإسلامية عن سدة الحكم فما عاد للأمة الإسلامية سقف سياسي يوحدها، وما عاد هناك سقف ذو وحدة فكرية ووحدة شعورية ووحدة عقدية، وانتقل العرب والأتراك ليتفاخروا بالانتماءات القومية لكل منهم.
هؤلاء تغذيهم جمعية الاتحاد والترقي تدفعهم نحو القومية الطورانية، ومن خلف هذه الجمعية كل أعداء الأمة يغذونها بالمال والدعم السياسي والإعلامي والعسكري، وهؤلاء كما ذكرت الموسوعة العربية: “أن أول من دعا إلى القومية العربية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي هم الغربيون، على أيدي بعثات التبشير في سوريا، ليفصلوا الترك عن العرب، ويفرقوا بين المسلمين، ولم تزل الدعوة إليها في الشام والعراق ولبنان تزداد وتنمو حتى عقد أول مؤتمر لها في باريس عام 1910م”.
وقد اعترف بدور النصارى في هذا الجانب صاحب كتاب “يقظة العرب” جورج أنطونيوس عندما قال: “يرجع أول جهد منظم في حركة العرب القومية إلى سنة 1875 م حين ألف خمسة شبان من الذين درسوا في الكلية البروتوستنتية ببيروت -الجامعة الأمريكية فيما بعد- جمعية سرية، وكانوا جميعا من النصارى” وقال: “ولذلك انتقلت هذه الآراء التي بذرها النصارى في البداية، وأصبحت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تجد تربة صالحة للنمو بين المسلمين”.
ولاحظ أخي القارئ أن أول مؤتمر للقومية العربية لم يعقد في القاهرة أو الشام أو أي عاصمة عربية، إنما عُقد في باريس لتعلم بعد ذلك من يقف وراء تشتيت المسلمين إلى عرب وأتراك وقوميات أخرى، ثم إلى شعوب وأوطان متناحرة كل يتحصن في البقعة الجغرافية التي أحدثتها سايكس بيكو وأوجدت بين كل جارتين منها خلافات وصراعات حدودية ما تزال إلى يومنا هذا تعتبر نقاط صراع وتوتر قابلة للاشتعال متى ما أراد لها الغرب الصليبي النفعي ذلك.
لقد نجح هؤلاء في سلخ العروبة عن الإسلام فأقنعوا العرب أنهم أمة يمكنها أن تستقل عن الأمة الإسلامية، بل أن تبتعد عن الإسلام، ثم أقنعوهم بأنهم شعوب مستقلة ومختلفة عن بعضها، ولكل شعب وطن ودولة، وهكذا أصبح العرب 21 دولة وأصبح المسلمون 57 دولة وأقنعوهم أن لا شأن لدولة بالأخرى، وأن العلاقة بين هذه الدول كعلاقتها بأي دولة أجنبية، ولذلك صار بإمكان إسرائيل أن تنتهك سيادة دولتي قطر وتونس- وربما استخدمت أجواء بعض الدول العربية هذا في علم الله طبعا- وتفعل ما يحلو لها فيما تكتفي شقيقاتهم من الدول العربية في مجلس التعاون الخليجي وغيره بالاستنكار والشجب.
إن الحال الذي تحياه الأمة اليوم هو نتاج الفصل بين جسد الأمة وهو الشعائر والعبادات، وبين روحها وهو ما يجب أن تقود إليه هذه الشعائر والعبادات لتحيي فيها من جديد ما وصفه الكاتب أعلاه “هدف يوحدهم ويجمع صفوفهم ويسعون إلى تحقيقه، لا شك في أن العقيدة تعد الركيزة الأساسية في البنية الثقافية، فهي بمثابة الروح في الجسد، والقوة الدافعة والمحركة في الأمة التي تدفعها للذود عن حياضها”.
والسؤال الذي يسأل هنا أين الأمة من ذلك، أمّا الجواب فهو رغم كل السوداوية التي نرى ورغم كل الألم الذي نعيش في مواقع شتى في عالمنا الإسلامي الواسع، فإنه ليس سوى إرهاصات العودة القريبة التي سوف تزيل حلكة خسوف قمر الأمة المؤقت.



